السبت، 19 أغسطس 2017



ليبيا وعبث القناصل
                    خالد درويش





لا زالت معزوفة الريح والقبلي تتأجج في أوراق القدامى منذ عهد هيراكلس مصارع الأسود وقاتل الحية ذات السبعة روؤس وحتى صرخة هيرودوت المكلومة حول ما يستجد على الساحة الليبية ورمالها الحارقة ، يتوهج الحاضر ويزدهر في غياب مدونة الماضي وعبقه الصلب المهتاج دائما للكشف والتدوين ، الحاضر الذي لا يختلف عما سبقه من حقب تكونت فيها ذرات الرمال اللاهبة بصبر فج وتعملقت فيها دروب العطش وفسيفساء الظلام التي سكبتها أوروبا في بلادنا عبر جيوشها المدججين بالحكمة والمعرفة والتمدن ومشاعل الرقي ، وعن طريق قناصلها ذوي الأيدي الماهرة في حياكة المؤامرات وتطريز المعاهدات بل واكتناز ما يروق لهم من ثروة هذه  الغافلة اليتيمة ابنة الريح والصهد والهاجرة . ليبيا اللقمة السائغة للصيادين والمغامرين وطالبي الذهب والمحار والباحثين عن الكنوز ، وفي الوقت الذي تموت فيه الأسماك النادرة من الشيخوخة أمام خليج سيرتيكا كما يقول المؤرخ الإغريقي تغرق آلاف القوارب التي تحمل السمك الأسود ذو العيون الميتة والحالمة بحياة أفضل قرب شبكة الصياد الأبيض الذي ليس لديه من الوقت ما يكفي لكي يجلو ما في بطونها من عقود وخواتم ماسية أبدعتها قدرة الخالق الرحيم .
لم يتوقف مسلسل العبث والتجريف والسرقة لكل ما وهب الله لهذه اليتيمة الغافلة والتي رمتها الأقدار والحظ العاثر قبالة السواحل الجنوبية لأوربا فكانت حجرة عثرة في سبيل الوصول إلى قارة الذهب والنشاط والعبيد ، لقد لعب القناصل الذين زودتهم بلدانهم بجراب يتسع لبلع كل شيء في هذه البلاد دورا كبيرا في كل ذلك بل وفي خلق هذا الحاضر الكئيب الذي يعيشه المواطن الليبي اليوم من عطب إلى عطب ومن كارثة إلى أسوأ . عديدة هي التخلات التي قام بها قناصل أوربا لتغيير مسار الحياة والموت في بلادنا ولا يزالون يفعلون ذلك بأريحية ونرجسية ابن البلد الذي يلعب لعبة أغمض عينيك فلن تر شيئا ، لم يتركوا لنا شيئا حتى ما أبقاه الأولون من رخاميات وأعمدة وتاريخ ونقوش وحضارة أثرية عجت بها لبدة وطرابلس وصبراتة وقورينا وشحات والساحل الشرقي الغني بجماله وتراثه الفني والأثري .
لقد  جحظت عينا القنصل الفرنسي  " لومير " إثر  زيارته لمدينة لبدة لأول مرة حيث أدركه الهلع لندرة وجمال هذه الثروة الأثرية التي تعج بها المدينة فلم يدخر جهدا في  الاستيلاء على جزء كبير منها وقد استغل علاقاته بحاكم الولاية آنذاك   فقام بشحن كميات كبيرة من تتك الأعمدة الرخامية الموجودة في لبدة مع عدد وافر من التماثيل والجدران  مباشرة من مدينة لبدة إلى ميناء طولون الفرنسي ومن هناك انتقلت إلى مدينة فرساى حوالي 29 عمودا رخاميا أثريا استعملت في بناء قصر فرساى الشهير ، فهل هناك تذكرة عودة . مجانية لهذه الأعمدة ، ولعل رحلة الرحالة "بول لوكاس" الشهير والتي كانت بأمر من الملك الفرنسي لويس الرابع عشر الذي كان مولعا بجمع التحف والآشياء الثمينة والتي عاد بها هذا الرحالة من قطع معدنية وأعمدة وهياكل وتماثيل ومخطوطات والتي تصدرت متحف لويس الرابع عشر أيضا بقصر فرساي الذي يقوم على أكتاف ليبية . ليس ذلك كل شيء ففرنسا جردت هذه الولاية من كثير من مخزونها الثقافي والحضارى والأثري عبر التاريخ فمتحف اللوفر الشهير يضم عديد التحف النادرة والمسروقة من الشرق الليبي وخصوصا قورينا وشحات ومنطقة الخصب الأثري هناك فكيف نفسر تلك المعاهدات التي رطبت فيها فرنسا السلم مع ولاية طرابلس شريطة شحن حمولة سفن من التحف الجميلة تلك المعاهدة التي وقعها أحمد باشا القرمانلي والحكومة الفرنسية عام 1720م قد ناب عن الحكومة الفرنسية آنذاك القنصل "ديلا بورت" وأشرف على شحن كمية لابأس بها من الأعمدة الرخامية والتي ينهض على أكتافها مذبح كنيسة سان جرمان دي بري ولا زالت قائمة حتى يومنا هذا شاهدة على التحضر والتمدن والسلب الثقافي وتزوير التاريخ .