الصديق بودوّارة.. كاتب وقاص وروائي ليبي
حاوره- عذاب الركابي
الصديق بودوّارة.. كاتب وقاص وروائي..يكتب ولا يتسلّى..ينزف بوجع
وصخب كبيرين.. في كتابته يتمتع ويمتع أيضاً..تدلكَ عليه موسيقا همومه التي
يعزفها قلب نابض بالحبّ.. والأمل.. والتجدد.. والحياة..!! تصل إليه مباشرةً..
لا يحبّ أن يضعَ حواجزَ.. وجدران.. وأسواراً بينه وبينَ قارئه..لأنّه يربض في إيقاع
كلمة شعرية دافئة..تتداخل في إبداعه كلّ الفنون.. تصلكَ قصته بطعم القصيدة،
وكذلكَ الرواية.. والمقال أيضاً، لايبدو منحازاً إلى الشعر، ولا يسعى أن يحول إبداعه القصصيّ والروائي إلى جنين شعري..لكنهما يمرّان بعصافير الذاكرة بشفافية عالية.. وحنكة.. وخبرة.. وأداة متمكنة عبرَ بوابة الشعر، وهو يخلدهما بكونهما
الشعريّ..ولهذا تقرأ أعماله القصصية والروائية بمتعة.. ودهشة.. وجذب..
يكتب لأنّ الكتابة لديه " أسلوب حياة".. يقول : ( هذه هي حياتي الحقيقية..
أنْ أكتبَ بلا توقف ، حتّى ينفد حبر الأقلام)..!!
وكتبت في مقالي عن روايته " منساد " وهوَ يموسقها بإيقاع الروح.. وتراتيل الجسد، أقول : ( بدا الصديق بودوارة مجرباً بجرأة ووعي، لم يتصنع صورة المطيع في حضرة
لغة تتفجّر، وهي " توجد علاقات جديدة ما بين الكلمة والكلمة، والكلمة والشيء"
علاقات متناغمة مع إيقاع الحياة، لغة ملغومة بالجديد.. وطاردة للضجر.. والزخارف اللفظية المملة.. وقد كان المبدع بودوارة جاداً.. ومتفانياً.. وصانعاً
ماهراً، وهو يحول لغته المتقنة إلى أوركسترا إبداعي مثير، يملك شغاف القلب والعقل معا..".
عانيت معه شقاء السؤال..وكان جريئا.. واضحاً.. ومستلذا وهوَ
يجيب ..، وكأنّه يشرع في الانتهاء من عمل إبداعي جديد، وهوَ كذلك!!.. ولهذا أترك لكم المعاناة مع شقاء الإجابة .
صدرَ له من الأعمال الإبداعية :
- آلهة الأعذار – قصص قصيرة
- شجرة المطر – قصص قصيرة
-يحكى أنّ – قصص قصيرة
- ميم – نصوص
- البحث عن السيدة جيم - نصوص
- منساد – رواية
وهناك الأعمال القصصية والروائية والدراسات النقدية المخطوطة
تنتظر أن ترى النور .
. الكتابة أسلوب حياة
س1- صرخ الشاعر التركي المناضل – ناظم حكمت في يوم ما : يا للغربة من مهنة شاقة..!! هلْ قلتَ في يوم ما : يا للكتابة من مهنة شاقة؟؟ ولماذا ؟ وما جدوى الكتابة ؟؟
ـــ لكن ناظم حكمت يقول أيضاً يا عذاب :
(( أجمل البحار هو البحر الذي لم نذهب إليه بعد )) !!
هذا هو السر، أن تظل طوال عمرك تنشد بحراً لم تنعم بشاطئه بعد، هذه هي القيمة الحقيقية للأشياء، أن لا نحصل عليها أبداً .
ثمة أمر آخر، أن لا نهين الكتابة بكونها مهنة، إذا تحولت الكتابة إلى مهنة فقدت وهج الإبداع فيها، الكتابة ليست مهنة، إنها أسلوب حياة، وهنا يكمن الفارق، هنا بالذات تكمن جدوى الكتابة، وهنا بالذات يمكن لنا أن نعثر على كنز صغير اسمه جدوى الكتابة..
أنا أكتب لأني أريد أن أحفر تفاصيل حياتي على صخر هذه الدنيا، لا أريد أن أمر على تاريخ وجودي هنا مرور السحاب، أريد أن أحفر التفاصيل على جلمود هذا الزمن، أريد أن أكشف مستور هذا الصمت على ملأ من العالم كله، هذه هي حياتي الحقيقية، أن أكتب بلا توقف حتى ينفد حبر الأقلام، وهل ينفذ الحبر ؟
. المقال هو جواز مروريّ إلى قارئ متعجّل
س2- الإبداع حالة إنسانية شفافة.. راقية، وقد تعددت فنون الإبداع لديك : قصة قصيرة.. وقصيرة جد.. ورواية.. ومقال صحفي.. ونص مفتوح مثير.. هو غناء قلب جريح.. أينَ أنت من كلّ هذا ؟ ما الأجمل.. والأعمق.. والأقرب إليك كمبدع له حضوره المتميز في الوسط الثقافي ؟؟
هو هذا كله..
لا استطيع أن أتنصل من حرف كتبته، أذكر أني عندما كتبت في نص ( ثروة ) :
(( أملك من اليقين ما يرضى غرور نبي ، ومن الارتباك ما يزعزع أقدام جبل . ))
وقتها كنت أكتب نفسي واصفاً سيرتي الذاتية كما هي، قبلها كانت نصوص كثيرة، قصص قصيرة كالمخمور مثلاً :
((" ابن ستين كلب ".. " ابن ستين كلب "
كان جارنا " ساكت " يصرخ بكل قواه الواهنة، وقد تمكنت الخمر الرديئة منه .
كان يشرب حتى لا يعرف يمينه من شماله ثم يخرج إلى الهواء الطلق ويبدأ في إطلاق شتيمته الوحيدة حتى تسقط الشمس في حضن الجبل البعيد الذي يواجه حينا مذ رأينا النور.
كنا صغاراً نبتسم ونتأمل المشهد، نتجمع حوله وهو يصرخ " ابن ستين كلب " نستغرب إصراره على نفس الجملة، ونسأل كبارنا فلا يجيبون .
الآن، وبعـد أن امتلأت رؤوسنا بالشيب والكدمات، مات ساكت ولم يعد ثمة صراخ في الشارع .
الآن، وبعد أن ماتت أشياء كثيرة، صرنا كباراً نشرب حتى لا نعرف اليمين من الشمال ثم نخرج إلى الهواء الذي لم يعد طلقاً لنصرخ بكل قوانا الواهنة "
" ـ ابن ستين كلب ".. " ابن ستين كلب " . ))
"ساكت" هذا شخصية حقيقية، طبعاً اخترت له اسماً من عندي، اسماً يعني روحه أكثر مما يعني جسده الذي يراه الناس، كنا فعلاً صغاراً لا نعي حقائق الأشياء، هذه القصة كانت قابعة في مخزون ذاكرتي، وعندما اخترت لها أن تخرج اختارت هي أن تلبس ثوب القصة، كان يمكن لها أن تختار ثوباً آخر، لكن الأمر ليس بيدي .
المقال هو جواز مروري إلى قارئ متعجل بطبعه، فالقراء أنواع كما كل شئ في هذه الدنيا، هناك من يقرأك إذا قدمت له لغة عابرة، فكرة واضحة ترتدي ثوب لغة تحترمه، إنهم قراء المقال، وهؤلاء يختلفون عن قراء القصة القصيرة وقراء الرواية، لهذا كان تمسكي بالكتابة في زاوية ( قبل أن أنسي ) ف صحيفة الجماهيرية منذ عام 2000 وحتى الآن بلا توقف، وكذلك تواصلي مع زاوية ( قبل أن نفترق ) في صحيفة قورينا، ( مؤخراً غيرت الاسم إلى "حتى نلتقي" نزولاً عند رغبة الكثيرين من أسرة تحرير قورينا، كتابة المقال أعطتني مساحة حركة كبيرة، إنها واقعية أكثر، يمكن أن تهاجم خللاً لاحظته في العملية التعليمية مثلاً أو في أي قطاع آخر، أو أن تتصدى لقضية أدبية أو ثقافية معينة، إن المقال ضروري لخلق رأي عام أو للتأثير فيه،وكلما كنت صادقاً في مقالك كنت مقنعاً أكثر .
الرواية حكاية أخرى، إنها امرأة فاتنة تناوشك من بعيد، تدعوك إليها وكلما اقتربت منها تتأبى عليك، حكاية طويلة كالرواية ذاتها، شخصياً لازلت أطارد هذه الفاتنة وسأصل حتماً إليها .
.لا توجد نهاية لأيّ نوع من الإبداع
س3-يقول مؤرخو الأدب : هذا شاعر ستيني.. وذاك سبعيني.. وتسعيني،
وهذا زمن الرواية.. وانتهى زمن الشعر..!! هل تؤمن بمثل هذه الصيغ المستهلكة.. المكرورة.. والخاوية؟ هل تعتقد أنّ هناكَ عمراً للإبداع.. وعمراً آخر للمبدع ؟ حدثني !!
حدثني.. جميلة هذه الكلمة.. حسناً سأحدثك.. لو سألتني منذ عشر سنوات كنت سأجيبك أني لا أعترف بهذه التصنيفات، ولكن الآن، وبعد أن امتلأت ذاكرتي بالتجاعيد وعمري بالندبات، أدركت أن ما يكتب في سن الثلاثين لا يكتب في سن الخمسين، ثمة خارطة غير مرئية تقودك من يدك وتدلك على مكمن الكتابة، هذه الخارطة ليست إلا سنوات عمرك وهي تستجيب لانفعالات قلمك وتكتبك قبل أن تكتبها .
أؤمن الآن بهذه التصنيفات، ولكن من قال أن هناك زمناً للشعر قد انتهى، وأن هناك زمناً للرواية قد أقبل، لا أعتقد أن هذا صحيح، منذ أيام الروائيين الأوائل في الغرب وحتى الآن، لازالت الرواية حاضرة، ومنذ أن بدأت قصة الإنسان مع روعة التعبير كان الشعر، لا توجد نهاية لهذا اللون من الإبداع، ليس ثمة عمر للكتابة يا عذاب، هناك فقط لحظة للسكون، أعترف بهذا، حتماً سيقبل اليوم الذي تتعب فيه الجياد ويخبو فيه كل شيء، وإلى أن تقبل هذه اللحظة لا عمر محدد للمبدع ولما يكتبه المبدعون .
. القصّة القصيرة هي الأكثر حضورا في إبداعنا الليبي
س4- أصدرت العديد من المجموعات القصصية من ( شجرة المطر) وحتى ( يحكى أن ).. كيف تقيّم ما يكتب من قصة قصيرة في ثقافتنا ؟لماذا لم يتجاوب بعض النقاد مع القصة الحداثية ؟ هل استطاع جيلك أن يعطي هذا الفنّ الراقي حقه ؟مَن مِنَ الأسماء تقرأ في نصوصه الجديد.. والمثير!؟
ــ القصة القصيرة لازالت في المقدمة، لقد تصدرت في توهان قصيدة النثر، وتعثر الرواية.
كل ما ينقصنا ككتاب قصة قصيرة هو أن نمعن في إثراء نصوصها، نحتاج فعلاً إلى تأثيث القصة القصيرة الليبية بمخزون تراثي أولاً، وثانياً إلى إقحامها في لعبة التحليل، يجب أن تقتحم القصة القصيرة فضاء الخيال أيضاً، بمعنى آخر، ما ينقص القصة القصيرة الليبية هو أن تنغمس أكثر في التعبير عن نفسها، تنقصها الجرأة، الاندفاع، ثمة تحفظ لا مبرر له أقرأه في نصوص كتاب القصة الليبية، لا يمكنك أن تعبر الشارع وأنت ملتزم بالوقوف على الرصيف خائفاً من زحمة المرور، عليك دائماً أن تجازف، أن تبتكر كل يوم قصة جديدة، بمعنى أنك تحتاج إلى أن تقول في قصتك كل ما يمكن أن يعجز عنه الكلام .
عن التقييم لا أملك أن أذكر أسماء حتى لا أقع في الإحراج مع أحد، فلازلنا مع الأسف عاجزين عن الحوار، كل ما يمكن أن أقوله لك بهذا الخصوص أن القصة الليبية القصيرة ليست تماماً بخير، رغم أنها الأكثر حضوراً من غيرها من صنوف الإبداع الأدبي، أما عن النقاد فأستسمحك العذر، لا نملك نقاداً في منظومتنا الثقافية، هناك القليل القليل، أو لنقل أقل القليل، الآن لا أذكر لك منهم سوى عبد الحكم المالكي وسعد الحمري، هما فقط المثابران على تأكيد هويتهما النقدية عبر كتابات متتالية تصر على التخصص، عدا ذلك لا نملك نقاداً، وهذا بحد ذاته عائق أمام تقدم القصة الليبية .
. إبراهيم الكوني لمْ يقدّم رواية ليبيّة على الإطلاق
س5- لقد زخر الإبداع الليبي بالمنجز الروائي.. كيف تقيّم الرواية الليبية ؟
وهي الآن بفضل العديد من الأسماء أخذت مكانها وسط المنجز الروائي العربي !! أخبرني غير إبراهيم الكوني.. وأحمد الفقيه مَن يبدع.. ويضيف إلى عالم هذا الفنّ الرفيع !؟
ـ إبراهيم الكوني لم يقدم رواية ليبية، على الإطلاق، لقد كتب رواية تحكي هماً إنسانيا يرتدي عباءة صحراوي تائه على الدوام، رجل غامض يبحث طوال الوقت عن ( واوه ) المفقودة، استعان بتفاصيل لا نعرفها، أو هي تفاصيل عرفها غيرنا، ثمة كون مخفي كتبه الكوني، معالم محددة، تعاليم، تمائم وتعاويذ، أسلوب حياة يحتقر المدينة وينفر من مظاهر الحياة المادية، حتى العقائد تختلف، نحن لا ننتمي إلى صحراء الكوني، قد نعشق سكونها، لكننا لا نؤمن بطوطمية غموضها .
أحمد الفقيه كتب الرواية من خارج الذهنية الليبية، لم ينجح في أن يكون " نجيب محفوظ " الرواية الليبية لأنه ترفع عن التفاصيل، اعتقد أن الرواية هي فن التفاصيل، ومن أراد أن يخوض فيها فلا يجب أن يترفع على تفاصيلها، غيره كالراحل خليفة حسين مصطفى اقترب كثيراً من نبض الشارع الليبي ولامس تفاصيل الشخصية الليبية لكنه لم ينل حقه من الاهتمام، وبشكل عام حتى الآن لازالت الرواية الليبية تبحث عن ( ماركيزها ) الذي يتفنن في كتابة المجتمع الليبي على ورق الرواية، وحتى يقبل لا يمكن الحديث عن ميلاد حقيقي للرواية الليبية.
. رواية " منساد ".. هي بداية المغامرة
س6- دخل – الصديق بودوارة عالم الرواية من خلال " منساد"..كيف استقبل النقاد الليبيون هذه الرواية الجديدة.. المثيرة ؟؟ أهي بداية المغامرة ؟؟ حدثني !!
ـ هي فعلاً بداية المغامرة، لم أكن مرتبكاً عندما شرعت في كتابتها، كنت فقط متأنياً، فكتابة الرواية بمثابة نحت على جدار كهف، كلما كانت يدك ثابتة وضربتك متأنية كان نقشك أطول عمراً، هكذا تعاملت مع منساد، كنت تواقاً دائماً لأكتب عن عالم خفي طالما شدني إليه، عالم لا أراه لكني أعيشه كل يوم، أعرف أبطاله عن ظهر قلب، وأدرك جيداً تفاصيلهم ومكامن الضعف فيهم ونقاط القوة، متى يبكون والى أي حد تصل قوتهم، ولكي أكتب منساد حضرت أكثر من عشر جلسات صاخبة لإخراج الجن من أجساد بشر مصابين، عايشت لحظة التجسد في البدن، وعاينت ألم خروج بدن الجن من بدن البشر، شهدت دهشة أن يتكلم البشري بلسان أهل الخفاء، وأن يتقلب الممسوس بلا وعي حتى لم أعد أعرف من منهما الضحية، بشر مسه الجن أم جن مسه البشر .
أرأيت ؟ ليست الصحراء وحدها موطناً للممسوسين، المدينة أيضاً غنية بأهل الخفاء . هناك العلاقة بين اليومي المعتاد وبين العالم المخفي، مزيج من التفاعل بين ( هنا ) و ( هناك )، هذا هو محور الحدث في منساد .
تسألني عن النقاد ؟ من العراق وتونس كانت ردود الفعل مشجعة للغاية، من ليبيا اجتهد سعد الحمري في استقراء ما يمكن أن تشي به السطور، وكذلك شاعر بحس ناقد يدعى " عذاب الركابي " هل تعرفه ؟ لكن الذي يشغلني الآن هو أن أكتب المزيد، ثمة رواية أخرى تسكن أطراف أصابعي ولا بد لها أن تخرج إلى النور .
. نحن لم ندخل بعد العصر الإعلاميّ الحديث
س7- تثير صحفنا هذه الأيام قضية عدم انتشار ووصول الإبداع والمبدع الليبي إلى الساحة الثقافية العربية إلا القليل.. وما ندر، وربما بجهد شخصي.. هل ترى ذلك حقيقة ؟ وإذا كانت كذلك.. ما أسباب هذا التقصير ؟ مَنْ صاحبه ؟ وماذا تقترح؟؟
ـ هذه ليست مشكلة الكتابة فقط، نحن لم نخترع بعد العربات لنصل، الأغنية الليبية أيضاً، أين هي ؟ هل سبق لك أن شاهدت محمد حسن أو طاهر عمر أو عادل عبد المجيد على قناة فضائية عربية ؟ هناك أيضاً الدراما الليبية، متى تابعت مسلسلاً ليبياً على قناة عربية ؟، يا سيدي نحن خارج التقييم عربياً لأننا لم ندخل بعد العصر الإعلامي الحديث، لازلنا في عصر ما قبل الإعلام، وهو تاريخياً يماثل عصر ما قبل اختراع الكتابة .
سأضرب لك مثلاً صغيراً، مباراة كرة قدم بين الجزائر ومصر، بالتأكيد سمعت بها، كانت حرباً أهلية عربية مصغرة، أثناء ذلك تكتشف أننا عرفنا كل شيء عن منتخب مصر، حتى اسم وشخصية سائق الحافلة الذي كان يقود سيارة الفريق الجزائري، عرفنا حتى وجوه أمهات لاعبي منتخب مصر، وحفظنا عن ظهر قلب نوع الحليب الذي يشربونه قبل أن يخلدوا إلى النوم، في المقابل لم نعرف شيئاً عن منتخب الجزائر، لا شيء، كل التقارير تتحدث عن منتخب مصر، وكل الأمنيات تدعو لمنتخب مصر، حتى أن معلقاً ليبياً شهيراً انحاز بشكل مفضوح إلى منتخب مصر وصار يدعو له ليل نهار، ولكن، هل نلوم مصر على ذلك ؟ إطلاقاً، من حقهم أن يعبئوا الكون كله لمصلحتهم، ولكن، هل تدري لماذا ربحوا كل هذه الضجة ؟ لأنهم يقبضون على ناصية الإعلام العربي، لدى مصر قمر صناعي كامل اسمه (النيل سات) ولديهم أكثر من عشرين محطة مصرية تدعو لمصر وتروج لمصر وتسبح بحمد مصر،فماذا تملك الجزائر ؟ لا شيء، محطة واحدة يتيمة لا يعرفها أحد .
ساحة العالم الآن ساحة فضائيات، حتى الشعر الشعبي الخليجي صرنا نسمعه ونشاهده أكثر من الشعر الشعبي الليبي، هل تستطيع أن تعدد لي المحطات التي تتخصص في الشعر الخليجي ؟ صعب جداً لأنها أكثر من أن تعد.. كل شيء، الأغنية الليبية لم ولن تصل إلى العرب لأننا لم ندرك حتى الآن أن اللعبة لعبة شركات إنتاج، كل المطربين والمطربات الذين تشاهدهم على الفضائيات هم مرتبطون بعقود مع روتانا أو الأم تي في أو غيرها، دون هذه العقود لن تذاع أعمالهم، فهل فكرنا في تأسيس شركة إنتاج ليبية ؟ لا اعتقد .
نفس الأمر يجري على النص الإبداعي الليبي، طالع أشهر المجلات الثقافية العربية، تجدها إما خليجية أو مصرية ، برأس مال مصري أو خليجي، رأس المال هذا يقوم بالاستعانة بكتاب من نفس جنسيته، هؤلاء يكتبون الزوايا الأسبوعية التي تذيعها بعد ذلك الفضائيات في برامج عالم الصحافة، ويصدرون الكتب بطبعات فاخرة توزع على كل مكتبات العالم، ويظهرون في اللقاءات المباشرة والمسجلة على الفضائيات، العملية أشبه بصناعة نجوم متقنة، فأين نحن من كل هذا ؟ لا داعي لأن تجاوبني، فأنت تعرف الجواب مقدماً .
. أنا من قبيلة تعشق الشعرَ
س8-حصلت رواية" ليلة القدر" للطاهر بن جلون على جائزة "غونكور" الفرنسية لكونها الشعريّ.. وهذا يجلّ دور الشعر في العمل الإبداعي.. دون أن يتحول إلى جنين شعري.. ما مدى تأثير الشعر على قصصك ورواياتك.. وأنت المتميز في لغتك الشعرية؟ لمنْ تقرأ من الشعراء؟؟
ـ لا أستطيع أن أنزع مسحة الشعر عن لغتي، أنا من قبيلة تعشق الشعر، ووالدي شاعر طالما روى لي سيرة بني هلال وأحاديث المساءات الغابرة في وادي درنة شعراً، وأسرتي بأكملها تتلذذ بسماع الشعر ويطيب لها أن ترويه وتحفظه، لكن الجينات الشخصية ليست كل شيء، أنا أرى أن على النص الأدبي أن يتقرب إلى المتلقي بمسحة الشعر، هذا لا يعني طبعاً تداخل الأجناس، ولا يعني أنه شرط ضرورة لوجود النص، هو لا يمثل هيمنة الشعر على النص بقدر ما هو قدرة النص على شاعرية تضيف إليه الكثير، إبراهيم الكوني يبهرك بشاعريته لكنك لا يمكن أن تدعي أنه يكتب رواياته شعراً،
س9- ولمن تقرأ من كتّاب الرواية العربية ؟ وما الرواية التي أعجبتك.. وتعود إلى قراءتها من الحين والآخر؟
ـ لو عاش هاني الراهب أكثر لكتب أروع، أذهلتني روايته " خضراء كالمستنقعات "، ثم قرأت له الأخرى " خضراء كالحقول "، ثم " ألف ليلة وليلتان "، يملك هذا الرجل لغةً من كوكب آخر، ويتفنن في زخرفة التفاصيل، هو أيضاً يستفزك بموقفه، قد لا توافقه الرؤية لكنك لا تملك سوى أن تحترم إبداعه .
الطاهر وطار سحرني بروايته " عرس بغل "، لقد هبط هذا الرجل مع تراب المجتمع في حفرة الكيف المتوارية إما خجلاً أو بدافع الخوف، أو لعله هاجس المزيد من المتعة، قدم لي مجتمعاً كاملاً في محيط محدود، ومنح الفقر وساماً لا أدري أيستحقه أم لا، كل هذا الخليط كتبه الطاهر في رواية واحدة، لا أملك أن أعدد لك الروايات التي أبهرتني، لكن ولسبب لا أعرفه قفزت هاتان إلى الذاكرة عندما أردت الجواب .
. إذا لمْ تقرأ "بول فيرنار".. فأسرع الآن !! .
س10- ولمن تقرأ من كتّاب الرواية الغربيين ؟ من تراه يؤسس لرواية إنسانية هادفة؟ وما الرواية التي تتصدر كتب مكتبتك ؟
ـ هل قرأت النمل لـبول فيرنار ؟ إذا لم تفعل فأسرع الآن، أعترف أني تأثرت بفكرة العالم الموازي من هذه الرواية فنسجت منساد بعالمين متوازيين وان اختلفت الرؤية، في النمل ثمة عالم فوق الأرض نعيشه نحن، وهناك دنيا كاملة تموج بالحركة والفعل وردود الفعل يجسدها وجود النمل، الغريب أن لغة هذا المبدع تولد مرتين، في المتن عندما يكتب حياة البشر تبدو الجمل فوضوية مهجوسة بالارتباك وفعل الحركة اللا إرادي، تماماً كانطباعك وأنت تشاهد شارعاً يموج بالحركة وتتأهب لعبوره، أما عندما يكتب عالم النمل السفلي، فجأة يتحول الهامش إلى جنة حقيقية من النظام، هياكل دقيقة التكوين وحركة محسوبة وانفعالات يحسب حسابها مقدماً .
رائعة هذه الرواية، وهي ذاتها الرواية التي استعارها مني الكثيرون دون أن يرجعها أحد، فكنت اشتري نسخة أخرى منها في كل مرة .
الرواية الغربية صارت متعة منفردة، منذ مطلع القرن الماضي وهي تتبع أسلوب الصدمة، المباشرة في فعل الحدث والمباشرة في الوصول إلى عمق ردود الأفعال، من يقرأ رواية " جاتسبي العظيم " على سبيل المثال للرائع " ف. سكوت فيتزجرالد " سيوشك على الترنح بتأثير الخمر، وكأنه داخل حانة، هناك جرأة لا حدود لها في التعبير تكاد تنقل القارئ إلى موقع الحدث، الرواية الغربية تجاوزت الأسئلة التقليدية التي مازلنا نطرحها نحن، لعل هذا يعود إلى طبيعة المجتمع الغربي نفسه الذي تجاوز العديد من علامات الاستفهام لأنه بطبيعته مجتمع إنتاج لا يعبأ بالتوقف لمجرد جدال غير محسوم .
. نحتاج دائماً إلى التجريب.. إلى صياغة جديدة للحياة
س11- الصديق بودوارة يكتب الخاطرة.. والنص المفتوح.. وقصيدة النثر !
أعرف أنك تجرّب.. وأعظم شيء في الإبداع هو التجريب..هذا حال كبار الأدباء العالميين..!! قل لي لماذا يخاف البعض نسائم هذا التجريب.. بل يراه أصحاب الأذهان التقليدية مزعجاً ؟؟
ـ هل أخبرك بما جرى لابن أبي ربيعة ذات يوم ؟ عندما أنشد :
ألا يا أيها العشاق ويحكم هبوا.. أسائلكم هل يقتل الرجل الحب ؟
عندها وارى النقاد وجوههم خجلاً، وعدوه أضعف بيت قالته العرب، ورموا الشاعر بالمزيد حتى قالوا انه صاحب البيت المخنث .
هناك اتباع مأمون الجانب، أن تلزم الظل، هل أخبرك شيئاً عن الظل ؟
إنه ذلك الكائن المسالم الذي يحتويك.. قدم لك الملجأ من سطوة الشمس.. يستضيفك طالما لذت به، وعندما تقرر الرحيل لا يسألك عن السبب ولا عن وجهتك ولا يمسك بأطراف ثوبك طالباً منك البقاء، أرأيت ظلاً يمسك بثوب صاحبه طالباً منه البقاء ؟
هذا هو الظل، مسالم، مأمون الجانب، لكنه لا يبتكر، ولا يبتدع، ولا يأتي بجديد، نحتاج دائماً إلى التجريب، إلى صياغة جديدة للحياة، ولكن انتبه، هذا لا يعني العبث، ثمة خيط رفيع بين الابتكار والعبث، وهنا بالذات تكمن المسألة، ثمة تجاوز لحدود تجربة الإنسان مع المعتاد ولكن ليس لمجرد التجاوز، إنما لأن المخيلة أوحت لهذا الإنسان بأنه من الممكن صنع حياة أجمل إذا تجاوز هذا المعتاد، هناك إذن هدف مشروع، فمنذ بدايات الخليقة وهذه القاعدة رغم ثباتها تنتج الابتكار والتجدد، بدأنا بالركض وراء الأرانب البرية لغرض الحصول على الطعام، ثم أدركنا أن الأفضل يمكن أن يتحقق بالمكوث في الأرض ورعاية البذور وهي تنمو فأبدعنا الحضارات واكتشفنا الكتابة أولاً، ثم همست لنا المخيلة أن هناك جمالاً أكثر من مجرد تدوين حسابات البيادر والحقول، هناك نصوص أدبية يمكن أن ننسج من خيوطها الأساطير ودواوين الشعر، هكذا تم ألأمر، الابتكار تمليه ضرورة السعي وراء وجود أكثر جمالاً وأبلغ في تأثيره على الكون، إذا تهشمت هذه القاعدة انكسر الزجاج، وغدت محاولات التجديد نوعاً من عبث لا يؤدي إلا إلى الخراب، وتقريباً هذا ما يحدث الآن .
س12- يقول العبقري – ماركيز:" كلّ ما يحدّ الإبداع فهو رجعي ".. هلْ ترى أنّ هناك حدوداً للإبداع ؟؟ ماذا تقول لمنْ يتجسسون على نبض قلوبنا.. وأحاسيسنا.. وحتى أحلامنا؟؟
ـ جملة واحدة، كفى ما حدث، ألا يكفيكم أننا صرنا لا شيء ؟
.الصحافة أخذت من دواة حبري الكثير
س13- بعد َ" البحث عن السيدة ج" و" ميم" ما الجديد ؟ وماذا نقرأ من نصوص مختلفة.. متمردة ؟؟
ـ أنا يا عذاب لم أكتب شيئاً بعد، مشكلتي أني انسقت وراء همّ الصحافة فأخذت من دواة حبري الكثير، ومشكلتي أني استاذ أكاديمي أدرس في الجامعة وأنشغل بمقررات الطلبة وامتحاناتهم، لكن همي الأكبر أني لا أعيش الحياة التي تخصني إلا عندما أكتب، لذلك سأظل وفياً لدواة حبري مهما تزايدت من حولي فوضى المشاغل ، أعمل الآن على رواية اسمها "الكائنات "، أرغب في أن تكون مختلفة وصادمة، هناك أيضاً كتاب كان من المفترض أن أنتهي منه منذ سنتين، اسمه " ديكتاتورية الوجع / قراءات في الشعر الشعبي "، وهناك أيضاً نص طويل بدأته وأريده سيرة للماضي والحاضر، أسميته " السيرة الذاتية للفتنة الكبرى ".. أرأيت ؟ لازال هناك بعض الحبر في أصابعي !!
..