الأربعاء، 2 يوليو 2014

الشاعرة العُمانية فاطمة الشيدي: أكتب لأتباهى بجراحي كاملة




حاورها : عبدالدائم اكواص
نشر بالشمس الثقافي

إلتقيت بها في مدينة الجزائر خلال إقامات الإبداع التي رعتها وزارة الثقافة الجزائرية بمناسبة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، فاكتشفت فيها شاعرة متميزة، وإنسانة مثقفة من طراز رفيع استطاعت أن تنحت من شعرها نماذج إبداعية مدهشة، فكان لي معها هذا الحوار: 

1- لماذا تكتبين الشعر ؟
أكتب الشعر لأتباهى بجراحي كاملة، لأناور الفقد، وأهزم الهزيمة، وأتمرد على التمرد، أكتب لأعلن يأسي حين يفيض الأمل، وأشرق بالأمل حين يستشري اليأس، أكتب لأثأر للمستحيل من الممكن، وللهامشي من المتسيّد، أكتب لألوّن الكلمات بألوان قوس قزح المسفوح دمه في جسد البحر، ولأقايض المطر بحنين الصحراء المتربعة على قمة الخلود الآدمي الرافل في الموت والجفاف والمحل.
 أكتب لأتربص بدم غزالة تركض في دمي، أكتب لأخلع جلدي كلما أخذتني حكة في الوريد، وكلما غصّت الأنثى داخلي بالرفض الحنون، وكلما فاض دمعي عن محجر العين، أكتب لأقايض فلاسفة المنطق بهباء عبارة ضيقة، ومعنى مجلل بالغموض، أكتب لأجمّل القبح الذي يتقدم الكينونة متبخترا بطوله القصير وقدمه العرجاء، أكتب لأعلن لليل أنني أصطفيته دون الشمس خليلته التي يركض في أثرها فلا يلتقيا أبدا، أكتب لأروض قطعان المها التي تقف على حدود أصابعي وتتحين شهوة السبق، أكتب لأعلن للرجل الذي يقف عند خباء قبيلته المزيفة أن الكلمات أجمل كحل للأنثى، وأجمل وردة يمكن أن تضعها على صدرها .
أكتب لألون ذاتي ببهاء القصيدة فأشعر بي خفيفة صالحة للطيران، وأحيا كل حياة جديدة مع ولادة نص جديد.. أعتقد إذن أنني أكتب لأعيش بشكل آخر، بشكل يشبهني فقط . 
2- هل الشعر نتاج وجداني يعوّض اليومي/الحياتي، أم هو نتاج عقلاني يكمل المفقود في المشهد الحياتي؟
هذا وذاك، الشعر في البدء وغالبا هو نتاج وجداني، وربما هو حالة تعويضية لنقص مبتسر لحياة ناقصة أصلا، حياة لا تقدم الكثير من الجمال، لأن الأشياء مع استفحال قبح البشرية أصبحت ملتبسة، لذا فلم تعد الخطوط الفاصلة منهجية وواضحة، لذا فالجمع يسير في غيّه، ولا يدرك حقيقية الأشياء ولا يعرف معايير الجمال ليتماس معه، كما لا يعرف فواصل الممكنات والمستحيلات كي يسع لها.
 لذا فليس أمام الشاعر سوى أن يتقمص أدواراً أكثر هشاشة، ويحجز منسوب مياهه في دم الغربة الخاصة، ويتكور في رحم الخروج معوضا عن ذلك النقص اليومي والحياتي بنص يعدل به كفة الميزان البشع والملتبس أيضا !!
ولكن أنا مع الفكرة الثانية وهي أنه حالة إكمال للمفقود في ذلك الحياتي/اليومي الهش والهامشي، والسائر كالذي يمشي في نومة من بشع لأبشع، فالشعر استجلاء للداخل وتكويره في هيئة نص يشفع لكل ذلك اللهيب المستعر عمقا، والفراغ المتأرجح بين الفوضى والخواء، الشعر يد أخرى تلملم الغياب والحزن على حياة يتأصل فيها الفقد والقبح والغربة والموت، وتساومها الأشياء الناقصة،  ثم تضعها في دبوس يصلح أن يكون نيشان فخر، وإعلاء  لعبث الأشياء المتساقطة في دواليب المشيئة التي تبتهج بأن يكون كل شيء منسقا في نسق ترتضيه وإن كان هشا وناقصا.
الشعر حالة خروج متجددة، وغير مقننة على الأشياء المبهجة والمحزنة معا، الوقوف على تلة الخلق، لاستشراف حالات الخلق المضادة المتصلة بهدم الممكننات وتخريب الثوابت (التي ما هي إلا الحياة)، الشعر خيار مكتمل الإرادة لأن الحياة الأساس غير مرضية أصلا لذا فلابد من إكمال النقص برؤى أجمل . 
3- وماذا عن تجربتك الشعرية..هل هي تجربة  تأمل حسّي تبوحين من خلالها بمكنونات نفسك.. أم هي محاولة منك لرسم صورة أخرى للواقع الذي تعيشينه ؟
في التنظير للأشياء نملك أن نضع فاصلة أو حتى نقطة، لكن في الخاص لا!  فأنا أكتب من الداخل، لذا لابد من تسرّب الأشياء التي تسكن القلب والمخيلة في فخ الشعر البهيج، إلا أنني حين أجيبك بوعي أقول بأنني أكتب الشعر لأرفض بتحدٍ كل ما يكبل صوت الحقيقة، لأناقش بحدّة المسلّمات المتآخية بركود في المياه الآسنة، أكتب لأغاير منظورات ثابتة خانها التغيير ذات عشق فاستسلمت للثبات، لأحاكم المنطق الذي يرتدي خفا واسعا لأن الرمال تتحرك من حوله، أكتب لأجمّل الكثير من القبح الذي نعيشه، ونحن لا ندرك أنه قبيح، لأننا نضع نظارات ملونة، أكتب لأجبر الأشياء السوداء أن تخلع نظاراتها وأنا ألوان مفرداتها بمكر وإغواء وخفة كملابس نساء البحر ذات ظهيرة صيف .
4- حدثينا قليلاً عن المشهد الشعري في عُمان ...؟
المشهد الشعري في عمان مشهد ممتد بعمق التاريخ والجغرافيا، مشهد مختلف الأجيال منذ السبيعينيات (كتأريخ معاصر) وحتى جيل ما بعد الألفين القادم بعفوية الشعر، وجمالية السعي نحو الاكتمال به، هناك الكثير من الأقلام والأسماء المتحققة، والكثير من الأجيال المتقدمة نحو الشعرية بتغاير وألفة، وهناك الكثير من الشعر الجميل بكل ألوانه أشكاله، ومباهجه، وأجياله، هناك الكثير من الشعراء من كل الأعمار معشوشبون كالأرض المقدسة، ويؤتون ثمارهم أنهارا من عسل مصفى، والكثير من المجموعات الشعرية تعانق الحضور بين الفينة والأخرى، لذا فهم في حفظ الشعر الكريم.
لكن ربما المشكلة تكمن في الحضور الداخلي فقط، لولا بعض النشر الخارجي في دور نشر عربية أعطت لبعض الأقلام ريشات تصلح أن تكون أجنحة للتحليق نحو الآخر. ومجلة نزوى نافذتنا على العالم الذي صدّرت الكثير من الأقلام لتقرأ عربيا وربما عالميا، وهذه بدايات مطمئنة أتمنى أن تمتد كامتداد البحر والسماء ليكون المشهد العماني خارج مناطق السؤال وداخل مناطق المعرفة به. 

5- هل استطاعت الشاعرة العربية أن تكسر القيود التي كان يقيدها بها العرف والتقاليد، وأن تخرج من عباءة القبيلة؟ ثمّ هل استطاعت أن تقنع المتلقّين بما تكتبه؟
أعتقد أن هناك الكثير من الشاعرات كسرن قيد العرف والتقاليد، وخرجن من عباءة القبيلة، واستطعن أن يقنعن المتلقين بما يكتبن، ولكن الأمر ليس كما نحلم تماما، فالعرف لازال بأذرعه الأخطبوطية التي تمنع الكثيرات من الظهور، وعباءة القبيلة لازالت أشد سوادا من الفجر الذي يسمح للأنثى الشاعرة بالحضور الذي يليق بجمالها، فهناك الكثير من العتمة التي تخفي العديد من النساء اللواتي استكن للظل وباركن الصمت . 
كما أن لعبة الكتابة قد أغرت البعض ممن لا يملكن أدوات الإبداع للخوض في غمارها، وللأسف باركهن البعض ممن له مآرب أخرى .. 
إذن: فكرة الكتابة والأنثى العربية لاتزال مرتبكة ولاتزال تحتاج الكثير من الوعي والاشتغال، والنقد والتنظير وغربلة الأسماء، وحتى ذلك الحين فنحن محكومون بالأمل!
6- هل هناك اختلاف بين فاطمة الأنثى/الإنسانة وفاطمة الشاعرة ؟
نعم هناك اختلاف بيّن بينهما!! ففاطمة الشاعرة حادة ولها مخالب تمسك بحرقة الوعي ولظى الأسئلة، وكثيرا ما ينهشها الوجع وتربكها تعرية الأشياء، وتباركها الأدخنة المنبعثة من رأسها أو رئتيها الملوثة بالشك، تمسك إزميلا تنحت به في الفراغ والظلمة، وتشق به أجنحة الغبار لتخلق كونها المزين بنجوم فضية فهي لاتحب البريق الزائد.  لذا فهي كائن من دم، ومن حزن إضافي، واتحاد مطلق مع الأشياء حتى لتغدوها غالبا،  فلا تدرك الفرق بينها وبين الكلمات التي تكتبها.
أما فاطمة الأنثى/الإنسانة فهي كائن طيب، تحب الفرح الذي قد لا يكون وافرا ولكنه يكفي لأن يكون بلون ابتسامة تزرعها في كل وجه تقابله، كما أنها بسيطة كالماء فقد تعلمت منذ نعومة الروح كيفية تفصيل الأقنعة، ووضعها بما يناسب الكائنات الموجودة أمامها، والمواقف المباغتة والتي لا تقتضي أكثر من تداعٍ تام معها، تعلمت كيفية تخدير الوجع، والمشي برأس مقلوبة للأسفل، وأقدام للأعلى، والاحتفاظ بعالمها الخاص لتلك الأخرى التي تسكن على بعد حزن منها بشموعها وشياطينها وكلماتها وكتبها.
7- ما هو الشيء الذي لا تستطيع فاطمة أن تقوله كلاماً وتسعى -أو تتمنى أن- تقوله شعراً ؟
ببساطة الشعر خارج مناطق الكلام، وكل مايقال لن يدخل أفق الشعر العصي على الكلام، فالموت، والحب، والحزن، والشك المفند بالأسئلة،  هذه هي مناطق الشعر الغزيرة التي تكتب حرقتها على خاصرة الروح بوجع وبحبر سري، أتمنى أن أقرأه جيدا ذات يوم وأكتبه كما ينبغي!

السيرة الذاتية للشاعرة :
* فاطمة الشيدي شاعرة وأديبة عمانية تكتب الشعر والنثر والسرد والنقد. 
* تعمل  في إعداد وتأليف  كتب مناهج اللغة العربية التابعة لوزارة التربية والتعليم .
* عضو هيئة تدريس الجامعة العربية الكندية المفتوحة.
* نشرت نصوصا ومقالات وحوارات وتحقيقات في العديد من  المجلات،والملاحق الثقافية،والمواقع الإلكترونية، كما شاركت في العديد من الأمسيات والفعاليات والمهرجانات الداخلية والخارجية، وترجمت بعض نصوصها إلى  لغات أخرى كالإنجليزية والألمانية والهولندية والتركية،كما حصلت في بداية مشوارها الأدبي على بعض الجوائز الداخلية(الإبداع النسوي 95/المنتدى الأدبي 96/الملتقي الأدبي 97).




ليست هناك تعليقات: