الأربعاء، 2 يوليو 2014

مقاومة المُكان المُقَدَّس .. آليات التطبيع ونقيضه


مقال الدكتور : المتوكل طه
نشر بالشمس الثقافي

الحديث عن القدس هذه الأيام لا يَسَُر ولا يطرب، عندما تزورها فإنك تشعر بما شعر به أسامة بن منقذ عندما زار القدس وهي تعاني إذلال وحكم الفرنجة. القدس الآن وباختصار ودون الخوض في تفاصيل محرجة ومخجلة، مدينة تمزق وتخترق وتمحى وتهود، وتُغير وُتبدل بوصة بوصة، جداراً جداراً، ويعمل المحتل على محاصرة أهلها، بيتاً بيتاً، شاباً شاباً، امرأة امرأة، بالضرائب والألاعيب والمؤامرات المخابراتية والتهديد بالطرد والتوقيف وعدم منح الأوراق الثبوتية وباقي أوراق المواطنة والبقاء التي تكتسب أهمية كبرى للصمود اليومي واحتمال الحياة في القدس، ولا يكتفي المحتل بذلك، فهو يسّهل كل أنواع الجريمة والانفلات والانحلال والتفكك الأسري والأخلاقي، والمحتل يغض البصر عن الخلافات العائلية والقانونية وحتى الفصائلية ما دامت تصب في مصلحته ومصلحة بقائه، والمحتل استطاع أن يطرد أو يسهل طرد المؤسسات الفلسطينية ذات الصبغة السيادية أو الشبيهة بها، واستطاع المحتل أن يغلق أو أن يعمل على إغلاق كل المؤسسات الفلسطينية والعربية والأجنبية التي تعمل في مجال الثقافة أو الفن أو التربية أو التعليم داخل مدينة القدس. واستطاع المحتل أن يسّور المدينة المقدسة بعدد من الأسوار التي لم تشهدها مدينة في التاريخ من قبل، فهناك أسوار من الاسمنت، وهناك أسوار من الأسلاك الشائكة وهناك أسوار من المستوطنين، وهناك أسوار من الشوارع الالتفافية، والأهم من كل ذلك، هناك أسوار من الصياغات الدبلوماسية والتواطؤ الدولي والدعم القريب والبعيد، تسمح للمحتل أن يستفرد بالقدس وأن يسوّرها وأن يمتلكها أو يهيئ له ذلك حتى حين.  إن السور الدبلوماسي الذي يسور القدس ويفصلها عن محيطها وبيئتها وشعبها يقابله أو يدعمه ويقويه سور من الألسن المربوطة والقلوب الخاوية مٍمَّن ارتضوا السكوت رغم انتسابهم للقدس ديناً ولغة. ورغم ذلك كله، ورغم أن المواطن المقدسي غير معرّف قانونياً حتى اللحظة بما يفيد مواطنته وامتلاكه لبيته أو مدينته – فهو يحمل ثلاثة أنواع من الوثائق الثبوتية المتضاربة فيما بينها – ألا أن هذا المواطن المحاصر والمهدد والملاحق بكل شي هو الذي يهب في كل لحظة ليحمي الأقصى بصدره العاري، وهو من يهب لنجدة الكنيسة أو المسجد أو المقبرة أو البيت الذي يحاصره المستوطنون . المواطن المقدسي ورغم كل المؤامرات التي تحاك ضده إلا إنه يحمل على كتفيه المثقلين قدره الثقيل والمقدس.
تشهد القدس اليوم أقوى وأعمق هجمة استيطانية احلالية في تاريخها الحديث، إذ يقوم المحتل فعلياً بإفراغ أحياء كاملة من القدس من مواطنيها الأصليين، في حي البستان والشيخ جراح وفي قلب المدينة القديمة، يترافق ذلك مع تسمين المستوطنات المحيطة بالقدس من جهة، مستوطنة معاليه ادوميم شمالاً وحتى جيلو جنوباً، والمحتل يقوم الآن باستباق الزمن وفرض الواقع والوقائع قبل أيّ تسوية يتم التوصل إليها فرضاً أو طوعاً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أيّ تسوية سياسية ستكون ضمن موازين القوى الحالية لصالح المحتل بالتأكيد، وستكون التنازلات والتسويات على حساب الطرف الأضعف.
لا يمكنني الآن وصف مدينة القدس التي تختطف من تاريخها وهويتها، فالانفاق وعزل الأحياء العربية وتطويقها لمنعها من النمو والتمدد، ودفع المستوطنين في كل زاوية وفي كل بيت مقدسي، عدا الكاميرات التي تراقب حتى الذباب في المدينة، والتواجد الشرطي والمخابراتي الكثيف، والوجود الدائم للرموز الإسرائيلية واليهودية في كل شارع، والحرف العبري الذي يغطي اللوحات واللافتات، وعسكرة الحياة وتسميمها بالفوبيا الأمنية التي تراها في كل زاوية، يجعل من مدينة القدس مدينة غريبة وبعيدة. أما المسجد الأقصى فإن زيارته مخاطرة، ففي أيّ لحظة قد تفاجأ بسوائب المستوطنين المتطرفين يطوفون في أرجائه، أو تفاجأ باستنفار عناصر الشرطة الإسرائيلية وهجومهم على هدف ما، وعادة ما يكون صرة تحملها قروية فلسطينية تسللت من أحدى القرى القريبة لتصلي ركعتين في المسجد الأقصى، وقد تفاجأ بأن يوقفك شرطي إسرائيلي بمنعك من دخول بوابات المسجد التي تحولت إلى نقاط تفتيش ومراكز اعتقال.
هذه هي القدس اليوم، لا مسرح ولا مركز ثقافي ولا صالة عرض ولا مكتبة ولا حتى دكاكين عامرة ولا أسواق مزدحمة كما هي عادة القدس منذ أن كانت.
المحتل يستفرد بالقدس، حفراً ونبشاً وبناءً وهدماً وإضافة وحذفاً، بدأ ذلك في حارة المغاربة التي اختفت الآن، لصالح الحي اليهودي والحائط الغربي الذي يدعونه حائط المبكى، أما الحفر تحت المسجد الأقصى، فهي قصة أخرى، إذ ثبت أن ما يقام تحت المسجد الأقصى مدينة توراتية كاملة، هذا غير ما ينشر في الصحف والمجلات الدينية اليهودية المتطرفة عن استبدال الأقصى بالهيكل  المزعوم. ورغم أن مئة عام من الحفر والتنقيب وبدعم من صناديق مالية ومراكز بحث متخصصة غربية تؤمن بالفكر القيامي والتدبيري إلا أن ذلك كله لم يسفر عن دليل واحد يدعم أوهام التاريخ وتاريخ الأوهام الذي يؤمن به هؤلاء.
وأجدني أرغب في الاسترسال في الكلام عن القدس وهي تعيش أسوأ لحظات احتلالها، فالفلسطينيون، من مسلمين ومسيحيين، ممنوعون من الدخول إليها أو زيارتها أو التعلم أو التعليم أو تلقي الخدمات الصحية، حتى أولئك الذين لهم زوجات وأطفال في القدس، فهم ممنوعون أيضا من الوصول إلى أسرهم، ومنذ أن أكمل المحتل بناء السور الأسمنتي حول القدس ووضع عليه بوابات ونقاط تفتيش، فقد فتّت النسيج الاجتماعي لقرى كثيرة مثل السواحرة والرام وعناتا وأبو ديس والعيسوية وبيت حنينا وغيرها. إن السور والحاجز ليس مفهوماً أمنياً أطلاقاً، إنه مفهوم اجتماعي ونفسي واقتصادي. إن تضييق المكان يعني تضيق الوعي، وإن تفتيت المكان يعني ميلاد كتل اجتماعية تختلف في تطورها وحتى في أهدافها. الحاجز والسور ونقطة التفتيش ومكعبات الأسمنت لها مدلولات أعمق مما يشيع المحتل حول دورها الأمني. المحتل يرغب في تفكيك جماعة الفلسطينيين إلى ذرات صغيرة وكتل بشرية يسهل التحكم بها والسيطرة عليها وضبط نشاطها وتوجهها. إن نظام المعازل والبانتوستونات هو نظام عنصري قطعاً لأنه يقوم على محاولة شيطانية في تفكيك الجماعة وانحلالها وعدم تطورها من خلال ربط كل كتلة اجتماعية أو جغرافية بالاحتلال ربطاً عضوياً. إن شكل الدولة الفلسطينية التي يرغب الإسرائيليون بالعمل على أقامتها هي دولة تتكون من ست إلى سبع محافظات يفصل بينها بوابات الكترونية وطرق التفافية وكتل استيطانية، بحيث تتحول هذه الدولة مع الوقت إلى ست أو سبع "دول" متمايزة ومختلفة ومتناقضة. إن ما يقوله "الليكود" و"إسرائيل بيتنا" و"البيت اليهودي" وحتى "حزب كاديما" لا يختلف عن هذا الطرح. إسرائيل بيمينها ويسارها لا ترى قيام دولة فلسطينية حقيقية إلى جانبها إطلاقاً. ومن هنا نفهم أسلوب إسرائيل في إدارة أزمة الاحتلال وليس إنهاء الاحتلال. إسرائيل لا ترى في الشعب الفلسطيني شعباً متجانساً ولا تعامله على أنه جماعة لها حقوق سياسية، وإنما تعامله على أساس انه أفراد. ومن هنا نفهم ما تقوله دائماً حول التسهيلات والتنازلات وتحسين مستوى حياة الفلسطينيين. إنها تتحدث عن أفراد لهم مطالب وليس عن جماعة لها حقوق. ولكن المحتل عادة ما يكون غبياً أو واثقاً بنفسه إلى درجة الغباء، فالحركة الوطنية الفلسطينية ذات العراقة والتاريخ والتجربة، بالإضافة إلى التغيرات العميقة التي تحدث داخل الكيان المحتل ذاته، تجعل من هذه المحاولات مجرد محاولات تؤخر الاستقلال والحرية ولكنها لا تستطيع أن تمنع و صولها أو تحققها.
أسوق هذا الكلام كله للقول: إن ما يسمى بشائعة التطبيع تبدو كالنكتة السمجة والسخيفة في خضم هذا الواقع، فهذه الشائعة وتحت أي تعريف لها انما تعني أمراً أقل من الخضوع والاستسلام ليس إلا.
فالتطبيع اياً يكن تعريفه السياسي أو الثقافي إنما هو في حقيقة الأمر يكون على الوجوه التالية:
إما التكيف أو التعايش مع المحتل بسبب الخضوع له ولمصالحه ولواقعه الذي يفرضه، أو بسبب عدم القدرة على رد المحتل أو كسره أو طرده أو فضحه أو مقاومته، ومن هنا يكون التطبيع أسوأ حتى من الاستسلام، لان في التطبيع نوعا من النشاط باتجاه المحتل، بحيث يشعر هذا أن المطبع يقوم بدور ما من تحسين أو تجميل المحتل. أن التكيف أو التعايش مع المحتل يفترض في المطبع أيضاً أن يغير أو يعدل من رؤيته للمحتل أو أن يبرر له أو يفسر مواقفه. إن التكيف أو التعايش مع المحتل يعني عملياً العيش مع الحق المنقوص والإرادة المنقوصة، ويترجم هذا المضمار من أنواع التطبيع في الاتفاقات السياسية العرجاء  والمشوّهة أو التي تنقص من الحقوق ومن الثوابت، كما يترجم هذا النوع من التطبيع من خلال المواقف الدولية والاقليمية حيث نرى المطبعين لا يتخذون المواقف التي يجب أن تنسجم مع مصالح الشعوب، وأسوأ أنواع هذا التطبيع هو ما يحاك في الظلام من اتفاقات وتكتلات محاور سرية، يكون فيها المحتل مركز هذا الاتفاق وهو المستفيد الوحيد منه. إن التكيف والتعايش مع الاحتلال هو شكل صاعق من أشكال الأزمة ومن أشكال الهزيمة أيضاً. وبالعودة الى الحروب الصليبية ، فإن فكرة مصانعة الفرنجة التي استمرت عدة عقود أدت فيما أدت إليه إلى أن تتفتت الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة بائسة تتقاتل فيما بينها، إلى درجة أن الإفرنجي كان في بعض الأحيان يلعب دوراً في توحيدها، وهو أمر يتكرر على أيامنا، وهو أمر وان كان يبعث في النفوس المرارة إلا أنه أيضا يبعث في النفوس الأمل، ذلك أن التعايش والتكيف مع العدو عادة ما ينكسر وينتهي، لان المحتل لا يقبل أن يتعايش مع أحد أطلاقاً. فالمحتل الإسرائيلي بالذات له من العقد النفسية المؤسسة على عقدة الاضطهاد وعقدة الضحية وعقدة التميز والعرق الخاص، ما يحوّله إلى كيان لا يمكن أن يرى إلا نفسه، وأن يعبد نفسه، وهو لهذه الأسباب لا يستطيع أن يتعايش أو يتكيف مع أي طرف مهما خضع هذا الطرف أو أعطى أو أظهر أيمانه وإخلاصه. إن عُقد المحتل النفسية تجعله يقبل قتل الآخرين واستغلالهم والنظر إليهم باحتقار شديد. إن هناك أطرافاً في المنطقة على علاقة ما بالمحتل منذ أكثر من ستين عاماً وثلاثين عاماً وعشرة أعوام، ولكن المحتل يهدد هذه الأطراف ويبتزها ويستغلها ويخوّنها أمام جماهيرها، فمرة يهددها بالوطن البديل ومرة يخونها بمنعها من الوصول إلى الكونغرس، ومرة يخونها بالأقليات الدينية والاثنية، ومرة يهددها بالأمن الاقتصادي، ومرة يهددها بالجواسيس والتخريب  الصناعي، ومرة يهددها بخلخلة الأمن الاجتماعي والصحي ، والمحتل في ذلك يعتقد أن على الطرف العربي أن يقدم حسن النية وأن تكون العلاقة كلها على حسابه، جزء من هذه النظرة نراه فيما يقال عن الشرق الأوسط الجديد الذي تكون فيه إسرائيل صاحبة الخبرة والتكنولوجيا والتخطيط ويكون فيه العرب أصحاب المال والأيدي العاملة والأسواق، وهذه فكرة تطبيعية سمجة بامتياز، فإسرائيل فيها تعرض خدماتها دون أن تتخلى عن احتلالها أو عن رؤيتها الكلية للمنطقة وشعوبها، وهي تعرض خدماتها من أجل أن تكون جزءاً من المنطقة بقوة المال وقوة السلاح، ومن الغريب أن من يعرض السلام الاقتصادي في التسعينيات رجل يدعي انه من اليسار الصهيوني، وأن مَنْ يعرض ذات السلام في العام 2009 رجل يدعي انه من اليمين المتطرف. لنلاحظ أن لا فرق اطلاقاً في التيار العام الصهيوني، فهو تيار لا يرى في المنطقة وشعوبها سوى أدوات لبلوغ أهدافه ليس إلا.
وإذا كان التكيف والتعايش مع المحتل سببه قوة المحتل ومَنْ يدعمه، فإن الاستسلام لهذه الفكرة تأتي من النخب أو تروج لها النخب أو مبادرات الشعوب وقواها وقاعها المجهول، فإن مسألة هذا التكيف وهذا التعايش لا تجد صدى ولا ترجمة أبداً. والشارع المصري خير مثال على ذلك، فهذا الشارع بفلاحيه وعماله ومثقفيه ونقاباته قال كلمته وانتهى الأمر. ومن عجائب الشعوب أنها قادرة على أن تحتفظ بصورتها عن نفسها دائماً وان تدافع عن تلك الصورة دائماً، ومن عجب أيضا أن صورة الشعوب عن نفسها عادة ما تكون ساطعة ومثالية، ولهذا فإن الشعوب لا تذوب، حتى تلك الأقليات والجماعات الاثنية الصغيرة التي بقيت رغم انهيار الحضارات الكبرى. هناك ما لا يزول، هناك ما يبقى رغم كل شيء. ان جماعة اليهود أو جماعات اليهود إن شئت هي مثال ضمن أمثلة عديدة ومختلفة على قوة صورة الجماعة عن ذاتها، ولهذا فإن التطبيع، بمعنى التعايش والتكيف قد يستمر لفترة ولكنه بالتأكيد سينتهي، لأنه ضد رؤيتنا لأنفسنا وحقوقنا ومشروعنا من جهة، ولأنه ضد البنية النفسية للمحتل ذاته الذي لا يطيق أحداً ولا يتعايش مع أحد من جهة أخرى. المحتل، أكان في العراق أو في فلسطين، ورغم كل شعاراته ودعاويه، فهو يعمل من أجل أمرين اثنين لا ثالث لهما:
مصالحه اولاً، ورغبته في تقليل خسائر هذا الاحتلال ثانياً، وما عدا ذلك فكلها أكاذيب تصلح للفضائيات ليس إلا.
وجه آخر من وجوه التطبيع يتمثل في تلك المنظومات الفكرية والاجتماعية التي تحملها وتروّج لها عادة طواقم الكمبردور الثقافي المموّلة جيداً، وفي الحقيقة فليس هناك مسافات أو فجوات بين هذا الكمبردور الثقافي وبين الرؤية السياسية الكليّة للمُمَوَّل، ولكن هذا الكمبردور الذي سرعان ما يمتلك أو يؤسس منظمة غير حكومية يكون لها أذرع إعلامية وتأثيرات سياسية ولمعان صحفي واعلامي، سرعان ما يبدأ في أطلاق تلك المنظومات الفكرية والاجتماعية، فمدينة القدس مدينة تعايش، وهي مدينة لله فقط، وهي بدلاً من أن تكون محتلة فهي تمتلئ بالنساء المعنفات أو متعاطي المخدرات، تماماً، كتلك الحملة التي وزعت الكتب على حواجز الاحتلال في الضفة، مع احترامنا للنوايا طبعاً.
هذا الكمبردور الثقافي المُمَوَّل عادةً ما يستند إلى القول إن استدراج الإنساني في العدو هو أمر صحيح، وإن محاولة الالتقاء بالمحتل في منتصف الطريق هو الحل، وإن التشارك أو الجدل أو الحوار سيؤدي إلى نتائج مرجوة. إنها ذات الأفكار التي طرحت في الهند وجنوب أفريقيا وفي أنغولا وفي اليمن وفي الجزائر. المشكلة أن هذه الأفكار محولة من الغرب ذاته، مع احترامنا وتقديرنا للنوايا والرؤى الحسنة. المشكلة هنا أن هذه الأفكار تأتي عن ضعف وعن قلة ثقة بالشعوب وقدرتها على الفعل والإبداع. أكثر من ذلك، هذا الكمبردور الثقافي – ومهما حاولنا أن نجمّله – فانه يعمل في اتجاه آخر خطير، إنه يقوم بمهمة التثبيط والتيئيس والتفكيك والخلخلة الفكرية والاجتماعية وحتى السياسية، ولا نبالغ في ذلك أبداً، ومع أخذنا بعين الاعتبار أن سيادة الدول قد تم انتقاصها والمس بها من خلال ميلاد هيئات دولية عالية وقوانين عالمية تفرض على الدول الإيمان بها والعمل بها مثل حقوق الإنسان والبيئة والجندر وما إلى ذلك، فإن الكمبردور الثقافي والسياسي يلعب دوراً في عملية إنقاص سيادة الدول بذات الطريقة. وفيما يخص موضوعنا وهو القدس، فإن كثيراً من الهيئات والمؤسسات لا يمكن لها العمل دون أن تنسق مع مؤسسة أو هيئة شبيهة لها في الجانب الإسرائيلي، وهي لا تستطيع أن تعمل دون أن تثبت أن لا علاقة لها بدعم مَنْ تسمّيهم إرهابيين أو الإيمان بأطروحاتهم.
التطبيع هنا يتخذ اسم مؤسسة قد تُعنى بأمر بعيد عن الثقافة أو الفن، ولكنها جزء من تلك المنظومة الخطيرة الهادفة إلى أن تكون الرقيب والعين والأداة القادرة على أن تمسّ أو أن تصيب، ولا نقول هنا شيئاً يفهم منه أننا ضد مؤسسات المجتمع المدني، على الإطلاق من ذلك، إن مؤسسات المجتمع المدني هي مؤسسات تقوم على المبادرة والتمويل الذاتي، والأهم، تقوم على الرغبة الحقيقية في خدمة المجتمع إلى جوار الدولة، لا أن تكون مماحكة للدولة أو رديفاً لها أو بديلاً لها في اللحظة المناسبة كما يخطط المحتل عادة.
إن مثل هذا الكمبردور الثقافي هو المسئول عن ترويج أفكار ونشر برامج اللقاءات على المستويات المتعددة التي تبدأ من معسكرات الشباب وتنتهي بعقد المؤتمرات الكبيرة التي يشارك فيها كبار المثقفين والسياسيين، وهو المسئول عن إنتاج الأعمال الفنية والسينمائية التي يُقَدَّم فيها الآخر المحتل مقبولاً وإنسانياً، وهو المسؤول عن إنتاج الخطاب الإعلامي الذي يتحول فيه الآخر المحتل إلى وجهة نظر أخرى ليس إلا، هذا الكمبردور الممول يكتشف فجأة أن المحتل أو الآخر على أطلاقه مجرد رأي معاكس لا غير.. وبالتالي نتعود على إعلام يقتل المقاومة بسبب الموضوعية والمهنية.
وهذا الكمبردور قادر على الهجوم وقادر على الدفاع وقادر على التجنيد وقادر على الاصطفاف وقادر على التلميع وقادر على أن يشكل رافعة لمن يقف معه، وقادر على أن يعتّم على مَنْ لا يقف معه أو يؤيده، وهو مدعوم من الآخر المحتل ومن يقف معه، فإذا به محمي جيداً، حتى أن الدول فضلاً عن الشعوب لا تستطيع الاقتراب منه. في فلسطين، وفي ذروة الانتفاضة الأخيرة كانت هناك دعوات من هذا الكمبردور تدعو حقاً إلى الجنون، مثل التوقيع على بيانات ضد بعض أعمال المقاومة أو الخروج في مظاهرات تضامناً مع ضحايا تفجيرات حصلت في هذه المدينة الأوروبية أو تلك. الجنون في هذه الدعوات أن المدن الفلسطينية نفسها محاصرة ومهددة وتعيش ما يشبه المجاعة. إن هذه الرفعة الأخلاقية المدعاة لا تفسير لها سوى أن هذا الكمبردور عنده من الادّعاء والكذب والتشويه ما يجعله يطلب من شعبه المحاصر أن يتضامن مع الشعب البريطاني في محنة التفجيرات التي ضربت لندن. مع العلم أننا ضد تفجيرات لندن وضد كل أشكال الإرهاب والعنف والكراهية.
يلقى هذا الكمبردور الدعم الكافي من النخب السياسية المتورطة فعلياً في الاتفاقات المنقوصة أو المشبوهة، وتتحول العلاقة بين الطرفين إلى علاقة خاصة إلى درجة أن هذا الكمبردور عادة ما يتلقى مكافآت مختلفة مثل الجوائز والتوزير والتمثيل واللمعان الصحفي والإعلامي. وتتحول البلد برمتها إلى أن يقودها مثل هؤلاء، أو أن يكون هؤلاء هم البلد أيضاً. إن نجاح الآخر أو المحتل أو كليهما بتكوين نخبة مثل هذه في أي مجتمع يعني تحقق حلم هذا البلد. ولم يكن غريباً أبداً أن تحتوي الخطة التي وضعتها وزارة الخارجية الأميركية في عهد بوش الابن على بند صريح ينص على تسمين النخبة المثقفة في البلدان العربية المؤمنة بذات الأفكار والتوجهات، وليس غريباً على الخارجية الأمريكية العمل في ميدان الثقافة والفن والأدب، فالفضائح المدوية في الخمسينيات والستينيات وتورط أدباء كبار بها ما تزال في البال.
الكمبردور الثقافي هو الذي يقف وراء فضائيات تعدّل الصور النمطية وتغيّرها، والكمبردور الثقافي يقف وراء صحف ومجلات وأفلام، ووراء مؤسسات ومواقف واتجاهات، في فلسطين، وفي القدس، جزء من هذا، أكثر أو أقل. القدس التي يعلن عنها هذا العام أنها عاصمة للثقافة العربية ثم لا يستطيع أحد أن يصلها، ولا يستطيع أحد أن يقيم نشاطاً واحداً فيها، إنما تطرح السؤال الكبير الذي لا يريد أحد أن يطرحه، فهل نتكيف أو نتعايش مع القدس محتلة، ومن ثم نستغل هذا الوضع كما يستغله المحتل؟! لا أعرف الإجابة .. حتى الآن على الأقلّ؟!
كل ما أعرفه الآن أن لا أحد من الذين يزورون رام الله لا يستطيع زيارة القدس دون تصريح ودون أختام المحتل، أنا ضد التكيف وأنا ضد التعايش مع محتل، أنا لا أطيق أن أطرب لأغنية قاتلي، ولا يعنيني أن صالونه جميل ومرتب، ولا يعنيني أنه دقيق وعلمي وحريص وإداري ناجح، إن بيوتنا مهشمة كابية  وحدائقنا مهملة، ولكن هذه البيوت هي التي نريد ولا نريد غيرها، ولا نسمح لأحد أن يمسّها. ولا أريد أن أحتفل بصالون عدوي أو قاتلي أو محتلي ولا أريد أن اشرب الشاي في حديقته، لا أريد على الإطلاق. أليس في الأمر بعض فانتازيا. العرب يحتفلون بثقافتهم في مدينة محتلة لا يملكون الوصول إليها.. أليس من الأجدر العمل من أجل استعادتها أولاً.. ولكن هذا كلام كبير، أليس من الأجدر وضع سياسة اعتراضية تمنع محتلها من طرد مواطنيها؟! ليس من الصدفة أن تعمّق إسرائيل هجومها العنصري على مدينة القدس في الوقت الذي نحتفل فيه بالقدس عاصمة للثقافة!!  إن أطرافاً عربية معنية تستطيع أن توقف المحتل عند حدّه بكلمة واحدة،  نعم بكلمة واحدة. بالله عليكم، ألا يعود الكلام كله الآن بلا معنى حول الثقافة والاحتفال بها في مدينة تتغير كل يوم ؟؟
وعدنا جميعاً نتفرج عليها من خلال شاشات التلفزيون. إن خطورة التكيف أن نحتمل جميعاً فكرة ضياع المدن، سبته ومليلة والاسكندرون والقدس وجزر أخرى هنا وهناك . العادة والتعوّد عدو يجب قتله، التطبيع هو جزء من العادة والتعود.








ليست هناك تعليقات: