الجمعة، 4 يوليو 2014

عام على رحيل محمود درويش







                                                                                     محمد الغزي
الآن، وبعد مرور سنةٍ على رحيل محمود درويش أعودُ إلى ديوانِهِ أقرؤهُ غير عابئٍ بِكُلِّ مَا قَالَهُ النُقَّادُ، أتَأمَّلُهُ دونَ وَسَائطَ، أعْقِدُ حِوَارًا مَعَهُ، أصْغِي إلى نِدَاءَاتِهِ الكثيرة...ألْحَظُ، أوّل مَا ألْحَظُ، أنَّ هَذَا الدّيوان كان ، في الواقع، دواوين كثيرة...يخْتَلِفُ بعْضُهَا عن بعْضٍ لُغَةً وَصُورًا وطرائقَ بنَاءٍ. لكأنّ درويش شعراء كثيرُونَ، كُلّ شاعرٍ من هؤلاءِ الشعراء يَنْتَمِي إلى زمنٍ شعريّ خَاصٍّ. فَدَرويش ظَلَّ،كما أشَرْتُ في دراسَةٍ سابقةٍ يسيرُ مَاحِيًا آثارَ خُطاهُ، ما يكتُبُهُ يَعُودُ عليه فيشطُبُهُ، ومَا يؤسّسُهُ يَرْجِعُ عليْهِ فَيُقوّضُهُ. فالكتابةُ عِنْدَهُ خرُوجٌ مستمِّرٌ من الأمَاكِنِ المأهُولة ودُخُولٌ دائِمٌ في الرّبوعِ الخاليةِ. لاشَيْءَ ثابِتٌ في قَصَائدهِ، كُلّ شَيْءٍ فيها إلى تحوّلٍ وتغيّرٍ مستمّرين. لذَا وَجَبَ عَلى القارئ أن يتَدَبّر النّتائج التي استصفاهَا مِنْ ديوانِهِ يُرَاجعها، ويعيد تقويمها.
لكنّ هذهِ القصَائِد تَبْقَى عَلَى اختلاف مَرَاحِلها، وتعدّد أسَاليبها تَهْجِسُ بسؤالٍ واحِدٍ هُوَ سؤال الكتابةِ. الكتابة من حَيْث هِيَ نُشْدَانٌ للمَعْنَى، وبَحْثٌ مُمِضٌّ من أجْل الظّفرِ بِهِ. لا شيْءَ يُسَوّغُ فِعْل الكتابة عِنْد درويش غير ذلك النّشْدَان، وهَذَا البحْث. ولعَلَّ هذه القُدْرة العجيبة عَلَى الاستمْرَار في تَعَقّبِ المَعْنَى وملاحقته هِي التي قَادت الشاعرِ إلَى ذُرًى تعبيريّة جديدَة.
اكتُبْ تَكُنْ.
بِهَذه النّبرةِ النبوئيّة يُخَاطِبُ درويش نَفْسَهُ. فالشّاعِرُ هُوَ سليل اللّغة مِنْهَا ينحدِرُ وإليْهَا يَعُودُ. فَعَلاقَتًهُ بِهَا ليْسَتْ عَلاَقة ذَاتٍ بموْضوع وإنَّمَا هِيَ عَلاَقةٌ رحميّة فيها تَتَضَايفُ المعرفة بالوُجودِ
من لُغَتِي ولدْتُ...
أنا لُغتِي
بالشّعْرِ يكونُ الشّاعِرُ، وبالشّعْرِ أيْضًا يكونُ العَالم، وتَكُونُ الأشياء.فالرّغْبَةُ فِي الكتابة تَنْطوي دَائمًا عَلَى شَهْوَةٍ عَارمةٍ فِي إعَادَةِ تَنْظِيم العَالمِ، وفي إعَادَةِ تشكيلهِ أيْ في إعَادَةِ صيَاغتِهِ وخَلْقِهِ وابتكاره. وربّمَا لوّحت اللّغةُ العربيّة إلى هذه الدّلالة مِنْ خِلاَل الاسم الآخر للشّعْرِ وَهْوَ النّظْم، ولكنَّ هَذَا المصطلح، كَمَا لاحَظَ بَعْضُ النُقّادِ أفْرَغَتْهُ البلاغةُ التقليديّة مِنْ مُحْتَوَاه العميق وجعلتْهُ رديفَ الصنَاعَةِ وقرينَهَا.
فالشاعِرُ، كلّ شاعرٍ يَرَى إلى العَالم سديمًا لا نِظامَ فِيه وَلاَ تَسَلْسُلَ فَيَسْعَى عَنْ طريق اللّغةِ إلى إعَادَةِ تَرْكيبِه قَصْدَ الانتصار على فَوْضَاه.
وتتجَلَّى هذهِ الدّلالة أقْوَى مَا تتجَلَّى في قصائِدِ الشّاعِرِ الأخيرة. هذه القصَائد التي أفصَحَتْ عَمَّا ظَلَّ في المجاميع السَّابقة مُضْمَرًا خفيًّا.
إنّ الشّعْرَ في هذه القصَائدِ لاَ يُخْبِرُ عن العَالم وإنّمَا يَخْتَبِرُهُ، يَكْشِفُ عَنْهُ. فوظيفةُ الشّعْر، فِي هذه القصائدِ تَتَمثَّلُ فِي إحْكَامِ قَبْضةِ اللّغةِ عَلَى الوُجُودِ، في احتوائِهِ وامتلاكِهِ.
لقد اختَفَتْ فِي هَذِهِ القصائد أطْيَافُ الرؤيا الرومنطيقيّة التي تحكَّمَتْ في مجاميع الشاعِرِ الأولى ووَجّهَتْ صُورَها ومجمل رُموزها ومِنْ خَصَائصِ هذهِ الرؤيا أنّها تَعْتًبِرُ الشّاعِرَ إنْسَانًا مَخْصُوصًا برسَالةٍ يَمْضِي مُبَشِّرًا بنبوءتِهِ، مَفْتُونًا بالموت يتَوّجُ تََمَرُّدَهُ وَقَامَتْ مَقَامَهَا رسَالةٌ أخْرَى تَقُول«انّهُ لا يُمْكِنُ الانتصَارُ على الموت أو تجَاهل نداء الحياة»
كُلّ مَا يحيطُ بالشّاعِر يَرْشَحُ بِمَعَانِي المَوْتِ لكنَّ الشَاعِرَ يَسْتَنْفِرُ كُلّ طاقاتِ اللّغةِ ليُوَاجِهَ هَذَا الموتَ بأكثر مِنْ حَيَاةٍ أَيْ بأكْثَرَ من قَصيدَةٍ.
هَذَا الإحسَاس القوّيُّ بالموْتِ يلتَهِمُ كُلّ الأشيَاءِ لمْ تُرافقْهُ في قصائد درويش نبرة نُدْبٍ وتفجّع. ففِعْلُ الكتابةِ، في جَوْهرهِ، استدراكٌ على البِلى والزوال، شَهَادَةٌ على الشّعر يُقَاوِمُ الزَّمَنِ، يُمْسِكُه من قَرْنَيْهِ ويُمْعِنُ في مُنازَلَتِه هكذَا تُصْبِحُ القصيدة الدّرعَ الباقية يَحْملها الشاعِر في وجْهِ الموتِ، تصبحُ حجّتَهُ الأخيرة على إمْكَانِ البقاءِ، عَلَى إمْكَان المُقَاومَةِ.

نشر في الشمس الثقافي الليبية

التاريخ لا يقول وداعا ،، بل يقول سأراكم لاحقا . ادواردو كاليانو



كتب: غاري يونغ - الغارديان. 
ترجمة: بثينة العيسى - آراء.


كلّ صباح الأمر نفسه. على طاولة الفطور، يجلس كاتب الأورغواي إدواردو غاليانو ذو الـ 72 عاماً مع زوجته، هيلينا فيلاجرا، يناقشان أحلام الليلة الماضية.

"أحلامي دائماً غبية" يقول غاليانو. " غالبا ما أنسى أحلامي، وعندما أتذكرها، فهي تكون عن أمور سخيفة، مثل طائرات مفقودة ومشاكل بيروقراطية. ولكن زوجتي لديها أحلام جميلة!"

في إحدى المرّات حلمت هيلينا بأنهما في مطار، حيث المسافرون يحملون وسائدهم من الليلة الماضية. وقبل أن يتمكنوا من الرّكوب، كان موظفو المطار يضعون الوسائد في آلات تستخرج منها أحلام الليلة الماضية، ليتأكدوا من عدم وجود ما هو تدميري في تلك الأحلام.
عندما أخبرته هيلينا عن حلمها شعر غاليانو بالخجل من تفاهة أحلامه: "هذا مخجلٌ بالفعل!"

ليس هناك سِحر كثير في واقعية غاليانو، ولكن ليس هناك ما يخجل بشأنها أيضاً. فهذا الصحفي السبعيني الذي تحول إلى كاتب، ثم حاز على جائزة الشاعر من الحركة المناهضة للعولمة، عن طريق إضافة صوت مكثف وشعري إلى الكتابة الواقعية، عندما قام الراحل هوغو تشافيز بتقديم نسخة من كتابه "الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية" الصادر عام 1971، لمؤتمر الصحافة العالمي في 2009، قفز الكتاب من المركز الـ 54 على قائمة موقع الأمازون إلى المركز الثاني. عندما أعلن غاليانو عن خطته للسفر إلى شيكاغو لحضور فعالية قراءة لأروندهاتي روي، هللت الجماهير، وعندما وصل غاليانو إلى شيكاغو في مايو كانت نسخ كتابه قد نفدت.

"هناك رؤية تقليدية تنظر إلى الصحافة على أنها الجانب المظلم من الأدب، عندما صارت كتابة الكتب في قمة مجدها". قال غاليانو للصحيفة الإسبانية El Pais مؤكداً: "أنا لا أتفق. أعتقد بأن كل أشكال الكتابة تكوّن الأدب. بما فيها الكتابة على الجدران. لقد ألفتُ كتباً لسنين عديدة، ولكنني مدرَّبٌ كصُحفي، وأنا مدموغٌ بهذه الصفة. أنا ممتن للصحافة لإيقاظي لرؤية حقائق العالم".

هذه الحقائق تبدو كئيبة. "فالعالم ليس ديموقراطياً على الإطلاق". يقول غاليانو: "أكثر المؤسسات نفوذاً، وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تنتمي إلى ثلاث أو أربع دول، والبقية تتفرج. العالم مصمم وفق اقتصاديات الحرب وثقافة الحرب".

إلا أنه حتى الآن لا يوجد شيء في عمل غاليانو أو سلوكه ينم عن يأس أو حتى عن حزن.

عندما كان في إسبانيا أثناء الانتفاضة الشبابية قبل سنتين، قابل بعض المتظاهرين الشباب في مدريد. وتضامن غاليانو قلبياً مع الاحتجاجات. يقول "كانوا شباباً مؤمنون بما يفعلونه، وليس سهلا أن تجد ذلك في حقول السياسة. أنا ممتن لهم جداً".

أحد المتظاهرين الشباب سأل غاليانو، إلى أي مدى يعتقد بأن الصراع سوف يستمر. فأجابه غاليانو: "لا تقلق، الأمر يشبه ممارسة الحب. إنه أبدي بقدر ما هو حي. لا يهم إن كان قد استمر لدقيقة واحدة، لأن الدقيقة التي يحدث فيها تبدو كسنة".

غاليانو يتحدث هكذا كثيرا، ليس تماماً بلغة الأحاجي، ولكن بطريقة محيرة ولعوب. يستخدم الزمن كند.

عندما سألته إن كان متفائلاً بشأن الأوضاع في العالم، قال: "الأمر يعتمد على الفترة التي تسأل فيها سؤالك. من الساعة الثامنة صباحا وحتى الظهر أنا متشائم. ومن الواحدة بعد الظهر حتى الرابع مساء أنا متفائل."

قابلته في بهو فندق في وسط شيكاغو، في تمام الساعة الخامسة مساء، وكان جالسا ومعه كأس كبير من النبيذ، ويبدو سعيدا جداً. رؤيته للعالم ليست معقدة: المصالح العسكرية والاقتصادية تدمر العالم، بالإضافة إلى تراكم القوى في أيدي الأغنياء الذين يسحقون الفقراء. ونظراً للاكتساح الواسع للتاريخ لعمله - ووجود أمثلة من القرن الخامس عشر وما بعده ليس أمراً قليل الشيوع - فهو لا يفهم الحاضر بصفته تطورًا، بل استمرارية لوضع قديم على كوكب يعاني بشكل دائم من الغزو والمقاومة. يقول غاليانو: "التاريخ لا يقول وداعاً أبداً، التاريخ يقول سأراكم لاحقاً".

يمكن أن يكون غاليانو أي شيء إلا شخصًا "تبسيطياً". الناقد الحاد لسياسة أوباما الخارجية الذي عاش في المنفى في الأورغواي لأكثر من عقد من الزمن، خلال السبعينات والثمانينات، يستمتع - رغم ذلك - بالعودة الرمزية لأوباما عبر الانتخابات، مع جملةِ أوهامها: "لقد كنتُ سعيدا جدا بانتخابه، لأن أمريكا بلد له تقاليد عنصرية طازجة".

يذكر غاليانو القصة عندما أمر البنتاغون في 1942 بمنع عمليات نقل الدم من السود إلى البيض. "من الناحية التاريخية هذا لا شيء، 70 سنة تعادل دقيقة. ولهذا فبالنسبة لدولة كهذه، يعتبر انتصار أوباما مدعاة احتفال"

كل هذه الخصال: اللغة المحيرة واللعوب، الرؤية التاريخية والواقعية، تمتزج في كتابه الأخير "أطفال الأيام" حيث قام بصياغة مقالات تاريخية مصغرة عن كل يوم من أيام السنة. الهدف هو أن تكشف لحظات من الماضي، وتضعها في سياق الحاضر، تتموج في داخلا وخارجا من الحقب والقرون المختلفة لتكشف عن الاستمرارية.

ما يحققه غاليانو في كتابه هذا هو نوع من الحفر في العلاقات، يقتلع القصص المفقودة والمسروقة، ويعرضها في مجدها الكامل، المرعب والعبثي.

مقالته ليوم 1 يوليو، مثلاً، جاءت بعنوان: إرهابي واحد أقل. ونصّها ببساطة: "في العام 2008 قررت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أن تمحو اسم نيلسون مانديلا من قائمة "الإرهابيين الخطرين". الرجل الأفريقي الأكثر احتراما في العالم ظهر على هذه القائمة الآثمة لستين عاماً".

وعن اكتشاف 12 أكتوبر، يكتب: "في عام 1492 اكتشف السكان الأصليون بأنهم هنود، واكتشفوا بأنهم يعيشون في أمريكا"

وعن تاريخ 10 ديسمبر، عنون نصّه "الحرب المباركة" وأهداه إلى أوباما الحاصل على جائزة نوبل للسلام، عندما قال أوباما " هناك أوقات ستجد فيها الشعوب أن اللجوء إلى القوة ليس ضرورياً وحسب، وإنما مبرر أخلاقيا".

يكتب غاليانو: "قبل أربعة قرون ونصف القرن، عندما لم تكن جائزة نوبل موجودة، وارتفع الشر في البلدان، ليس بالنفط بل بالذهب والفضة، قام القاضي الإسباني خوان جينيه دي سيبولفيدا أيضا بالدفاع عن الحرب، ليس بصفتها ضرورة وحسب، وإنما بصفتها مبررة أخلاقياً".

وهكذا فإنه ينتقل من الماضي إلى الحاضر ويعود مرة أخرى، لإقامة علاقات بطرافة وخفة دم لاذعة. رغبته، كما يقول، هي تجديد ما يسميه "قوس قزح الإنسان، الأكثر جمالا من قوس قزح السماء" يصرّ.

وأضاف: "ولكن لدينا تلك النزعة العسكرية، الذكورية، العنصرية التي تعمينا عن ذلك". هناك طرق كثيرة ليصبح المرء أعمى. نحن عميان للأشياء الصغيرة والأشخاص الصغار. والطريق الأكثر سهولة لكي يصبح المرء أعمى، كما يؤمن غاليانو، ليس بفقده لبصره، بل لفقده لذاكرته.

"خوفي الكبير هو أننا جميعا نعاني من فقدان الذاكرة. كتبت لاسترداد الذاكرة من قوس قزح الإنسان، وهو معرّض لخطر التشويه".

ومن الأمثلة التي كتبها حكاية روبرت كارتر الثالث - الذي لم أسمع به قط - الوحيد من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية الذي قام بتحرير عبيده. "ونتيجة لارتكابه لهذه الخطيئة التي لا تغتفر، حكم عليهِ بأن ينساه التاريخ".

سألته: من هو المسئول عن هذا النسيان؟

"ليس شخصا" يجيب غاليانو. "إنه نظام القوة الذي يقرّر دائماً، باسم الإنسانية، من الذي يستحق أن نتذكره ومن الذي يستحق أن ننساه. نحن أكثر بكثير مما قيل لنا. نحن أجمل بكثير". -

ميدان التحرير أذرع الملايين وحناجرهم





الجزء الثاني / خالد درويش / فبراير خاص


أتابع مع القارئ الكريم رحلة القاهرة وهنا ليسمح لي أن آخذه معي إلى معقل الثورة المصرية حيث ميدان التحرير وأن أشركه في هذه الكتابة التي تندرج ضمن ما يسمى في ادبنا العربي القديم "ادب الرحلة " او أدب الرحلات وهي مشهورة جدا في العالم الأدبي وقد تخرّج من هذه المدرسة رحالة عظام كتبوا مشاهداتهم في الشرق والغرب أمثال ابن بطوطة وليون الأفريقي ومثل العبدري والحشائشي في العصر الحديث إضافة إلى الرحالة الأجانب والذين وثقوا هذه الرحلات في كتب كثيرة متوفرة ومطبوعة .. وهذا الذي نحن بصدده لا يرقى إلى مستوى هؤلاء الرحالة ولكني فقط أردت أن أعرف بنوعية هذا الادب الذي تجاهله المثقفون والكتاب ولم يعد له ذلك البريق الثقافي مع أنه مهم جدا فلولا هؤلاء الرحالة ووصفهم للآمكان التي حلوا بها أو ترحلوا عنها لما عرفنا شيء ولما وصل إلينا شيء من اخبار من سبق فلم تكن تلك الكتب التي كتبت عن الصحراء الليبية وعن طرابلس وعن مكة والحج واستانبول ووصف افريقا وغيره إلا رحلات وسفر .. صحيح لم تكن على حساب وزراة الثقافة مثلما حدث معي ولكن كان أغلبها على حساب القنصلية أو وزارة الخارجية وذات غرض سياسي وصل حد الجاسوسية وما يتعلق بها من وصف جغرافي وجيوسياسي وعسكري أحيانا مثما قام به الرحالة والمؤرخون الطليان قبيل الغزو الإيطالي ..

ما علينا لنعد إلى ميدان التحرير حيث زرته برفقة الشاعر والناشط الحبيب الأمين كنت مذهولا من بساطة وقوة الشعب المصري الذي فك قيوده في الخامس والعشرين من يناير العام الماضي ، كان التحرير ميدانا يضج بالحيوية والحركة التقيت ببعض الاصدقاء من الكتاب المصريين في المركز الإعلامي حيث جهز المكان بخيمة على الطرف المقابل ونصبت خيام كثيرة منها لحركات ثورية وسياسية ومنها لخدمات معينة ولم ينس الباعة المتجولون أن يستخدموا المكان لعرض منتجاتهم من شاي وقهوة ولب وترمس وسندوتشات وأعلام الثورات العربية وغيرها حرصت انا والحبيب الأمين أن نلتقط صورة مع علمنا الليبي علم الاستقلال كنا نبحث عنه بلهفة إلى أن وجدناه مرفرفا في العالي .. فقمنا بتقبيله وتصورنا معه ولم نشتريه . كانت المظاهرات على أشدها تنساب في نهر عارم من البشر أظهر المصريون ذلك اليوم حبا ورقيا إذ حافظوا على سلمية الاحتفال كان ابتهاجا رائعا فوّتوا فيه الفرصة على المندسين وأعداء الثورة ان يلوثوا فرحتهم فمر اليوم بسلام على الرغم من أنف الفلول .. لكن مصر كما هي موعودة مع الفرح هي أيضا موعودة مع الحزن وسيكون حزنا عميقا جدا هذه المرة حزنا هز كل الوجدان المصري عدا القتلة منهم .. 

مجزة أبكت مصر
بالبنط العريض كتبت الأهرام المصرية معزوفة الحزن واستلقت مانشيتات سوداء على الصفحات الأولى لأغلب الصحف المصرية بل وصدرت دون ألوان  ومن أبرزهذه العناوين  : مجزة أبكت مصر . وعناوين كثيرة لما حدث في بورسعيد حيث قتل71  وجرح أكثر من 504 من الشباب المصري . تألم الوجدان المصري جميعه كنا عائدين بقطار الدرجة الأولى من مدينة الاسكندرية بعد امسية شعرية وندوة حول الثورة الليبية شارك فيها مثقفون وشعراء ليبيون بقصر التذوق بسيدي جابر بالاسكندرية ، هناك اتصل بنا اصدقاؤنا المصريون وأبلغونا الخبر المفجع ، تآكل فرحنا بنجاح نشاطنا وبأكلة السمك الفاخرة بمطعم "قدورة" اتجهنا إلى مصدر للأخبار نستوثق مما سمعنا .. الناس الذين معنا في القطار أصابهم الذهول وخيم الحزن على وجوههم .. اتصلنا بزملائنا من الكتاب والصحفيين نعزيهم فلم نجد الكلمات المناسبة .. خرجت في اليوم التالي مظاهرات عمت الشوارع كنت أسمع جملة واحدة : حكم العسكر باطل ويمشي .. ولم تفارق المتظاهرين كلمة : ارحل . انتقل الطلب من المطالبة برحيل العسكر إلى : الشعب يريد إعدام المشير . اتهم البورسعيدية  بتدبير الجزرة وحدثت فتنة كبيرة تردد صداها في الشارع المصري كنت اسمع البسطاء وهم يرغون ويزبدون ويتوعدون أهل بورسعيد بالويل والثبور ، مما تناهي إلى سمعي جملة من أحد الشباب حيث قال: كل واحد اتقتل من الأهلي بعشرة بورسعيدية .. وكأن بورسعيد "اسرائيل" أو أصبحت عدوا يجب القصاص المضاعف منه ، خرجت مظاهرات من بورسعيد ترفع لافتات كتب عليها ( دي مؤامرة دنيئة .. بورسعيد بريئة) .. 
نجح من دبر هذه المكيدة في زرع الفرقة ، اتجهت أصابع الاتهام إلى الفلول واتهم وزير الداخلية ومحافظ بورسعيد وامن الملعب أو "الاستاد" وعم الحزن ، اوقفت كل الأنشطة الثقافية وعروض قطاع الفنون الشعبية التابعة لوزارة الثقافة ، كما أعلنت استقالة جماعية لاتحاد كرة القدم المصري .. ونزل لاعبوا النادي الاهلي يتلقون العزاء من الجماهير الرياضية . الكاتب بهاء طاهر كتب مقالة في الأهرام بعنوان "إنقاذ مصر الان" واقترح على حكومة الجنزوري أن ترحل من تلقاء نفسها لأنها بدلا من أن تقود البلاد إلى الإنقاد الموعود فقد انحدرت بها درجات في درك التخبط والانهيار .. العديد من الكتاب أدلوا بدلوهم في الموضوع . لكن الموضوع لم يهدأ ثمة محرك رئيس للحدث . 
بعد اختفاء المراقب المالي لوزارة الثقافة الليبية والوفد المرافق له وتركنا لمصير مفتوح مع الفندق هذا الفندق الذي قدمت له رفقة الشاعر حبيب الأمين احتجاجا رسميا على عدم ركز العلم الوطني الليبي "علم الاستقلال" في مدخل الفندق جنبا إلى جنب مع اخوته وأشقاءه الأعلام العربية كما اعترضنا على تصدير الفواتير بكلمة الجماهيرية العربية الليبية ورفضنا ان ندفع شيئا او نوقع عليها حتى يتم تغييرها .. سكنت وسط البلد كنت قريبا من التحرير ومن وزارة الداخلية التي استمر الكر والفر بين المتظاهرين والشرطة ولم تنفع الدروع البشرية التي احيطت بها لحمايتها .. إذ تم أحراق جزء كبير منها .. كنت اشاهد سيارات المطافي تتجه بسرعة إلى هناك مصدرة أنينها المزعج المنذر بالكارثة .
حالة انقسام كبيرة في الشارع المصري فهناك من يقول بأن هؤلاء غير صبورين الذين يطالبون المجلس العسكري بالرحيل فورا فلما لا ينتظرون قليلا حيث سيسلم العسكر السلطة في شهر 6 كما أعلنوا من قبل .. ماذا يظير لو صبرنا ثلاثة اشهر "ما احنا صبرنا ثلاثين سنة .. فاضل الشويتين دول" اما القسم الآخر والذي يرى أن الأمور تجري في غير سياقها وان العسكر يناور وعليهم أن يكونوا حذرين من هذه المناورات التي تتطلب تدخلا عاجلا ، كثير من الشعراء والكتاب والمثقفين المصريين يرون الرأي الثاني وان العسكر سيأخذ البلد في طريق مجهول أحد الأصدقاء الشعراء حين سألته عن الأزمة قال لي : إحنا دي الوقتي بس دخلنا الأزمة .
من الطرائف أو المواقف التي شدتني كليبي هناك حين مرر التفزيون المصري خبرا يقول : إبطال مفعول قنبلة غاز على متن طائرة ليبية بمطار القاهرة الدولي .. الخبر أقلقنا كوفد ليبي وبصفة شخصية حيث كنت أنتظر زوجتي والتي أصرت على اللحاق بي وحضور معرض القاهرة للكتاب وتغيير الجو حسب رأيها .. ولأنها لم توفد على حساب أي أمانة أو مؤسسة أو وزارة لا في العهد القديم ولا الجديد فقد اشترت تذكرة سفر على حسابها الخاص وجمعت ما يكفي رحلتها واستقلت الطائرة .. كان قلقي ان تكون طائرتها هذه هي التي تحمل قنبلة الغاز ، بقيت قلقا إلى أن وصلت لأستوضح منها الأمر لكنها أخبرتني بعدم معرفتها بالموضوع لأنها سافرت على الخطوط المصرية . في صباح اليوم التالي وجدت صحيفة الأهرام ( عاملة زيطة وزمبليطة) ولم تفوت الأمر صحفيا حيث التقت الصحيفة بالنقيب طارق رماح ضابظ المفرقعات في حوار خاص وحصري حيث أكد هذا الرماح والذي تمكن من إبطال مفعول القنبلة على الطائرة الليبية أنه لم يكن يخش الموت أثناء أداء واجبه ولم يشعر سوى بمسئوليته كرجل أمن مسئول عن سلامة ركاب الطائرة ، حيث تلقى هذا الظابط بلاغا بوجود جسم غريب داخل حمام الطائرة حيث وجد القنبلة المزروعة بدقة حيث تم تغليفها بدقة إي القنبلة التي كانت مهددة بالانفجار في أية لحظة والتي كانت مزودة ب16 طن وقود وهو ما كان سيؤدي إلى كارثة محققة على حد قول السيد طارق . ايضا برزت قصة اخرى وهي تهريب السيارات الفارهة من ليبيا إلى مصر والتي تباع بنحو اربعة ملايين جنيه مصري وتزوير لوحاتها وعصابة أخرى لتسهيل إجرائتها في داخل مصر .. 
حسين مني وانا من حسين 
الجمعة لم أنس كما هي عادتي دائما أن اصلي في الازهر .. مع أنه لا جمعة على مسافر كما ذكرني الصديق عبدالباسط ابومزيريق إلا أنني لم اضيع هذا الفضل والفرصة بالوقوف بين يدي الله في مثل هذا المكان المحبب والشهير وكم أحب العمارة الإسلامية حيث أمد بصري في المآذن وفي القباب للمساجد والأضرحة والأبنية والتكايا وغيرها .. استمتع بالنقوش واتملى من التيجان والجبصيات واتمعن في رسميات "الجليز" وفسيفساء الحفر واللون .. إضافة إلى الجو الروحي الذي يضفيه المكان خصوصا أماكن العبادة على اختلافها مساجد كانت او كنائس او اديرة . الأزهر الشريف بصحنه و برواقه الشهير اكتظ بالمصلين كانت الخطبة حول  الصبر وتعزية أهالي الشهداء . حيث اعتبر خطيب الأزهر أن من سقط في بورسعيد من الشباب هم شهداء وتجهز بنا لصلاة الغائب على أرواح هؤلاء الشباب ، في هذه الأثناء حضرت جنازتان فوقفنا لهما كانت جنازة إمرأة ورجل كانا محضوضين حيث حضرا في هذا التوقيت من الجمعة المباركة .. أقيمت صلاة الغائب ثم خرجنا من المسجد حيث واجهتنا مظاهرة حاشدة تردد بصوت واحد : ارحل ارحل .. تخطيتها سريعا إلى الحسين حيث  ترفرف الروح وترتقي إلى ملاذها العلوي .. الحسين وهنا لا أعني الجسد ولا القبر لكنني حين أتجه إلى هناك فإنني أسلم على سبط رسول الله الذي أعلم علم اليقين أنه يسمعني ويرد السلام لأنه حي يرزق . ألم يقل الله عز وجل : (ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء). ألم يقتل الحسين في معركة كربلاء بأيدي الظلمة ، ألم يقضى في سبيل الله شهيدا رافضا للظلم والطغيان رافعا راية الحق ، إذا هو حي وأنا جئت للسلام عليه حتى وإن لم يكن جسده هنا . الحسين الذي خرج في العاشر من محرم طالبا للحرية مثلما خرج الليبيون في 17 فبراير مطالبين بالحرية فمزقت جسده الشريف سيوف الغدر والظلم والعدوان كما حصدت مظادات الطائرات أرواح وأجساد الليبيين أيضا فسقط منهم ألاف الشهداء ومنهم من ينتظر .
السلام عليك يا بن بنت رسول الله ، السلام عليك يامن قال فيك الحبيب حسين مني وانا من حسين . فوالله إني احبكم آل البيت ، وأحب قوما يحبونكم ، فأنا كما قال الفرزق في حفيدك السجاد (زين العابدين بن علي بن الحسين) في قصيدته الشهيرة الرائعة :
مِنْ معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ ... كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجىً ومُعْتَصِمُ 
 وليسمح لي القارئ الكريم وليسمح لي رئيس التحرير الصديق زكريا العنقودي والذي أفسح لي المجال هنا لكي اكتب بعضا من ثرثرتي على صفحات فبراير الثورة .. بأن أورد بعضا من أبيات هذه القصيدة للتذكير بها وللفائدة لمن لم يطلع عليها وهي من أجمل الشعر يقول الفرزدق : 
هذا الذي تعرف الطحاء وطأته   والبيت يعرفه والحل والحرمُ
هذا ابن خير الناس كلهم         هذا التقي النقي الطاهر العلم 
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله       بجده انبياء الله قد ختموا 
وليس قولك من هذا بظائره  العرب تعرف من انكرت والعجم
يغضي حياء ويغضى من مهابته      فما يكلّم إلا حين يبتسم 
ما قال لا قط إلا في تشهده         لولا التشهد كانت لاؤه نعم .
حضرت المولد الشريف هناك ، كان الجو اكثر من رائع ، جو علوي لم أعشه من قبل ، الأناشيد التي تتردد والمدائح النبوية التي تملاء المكان ، والصلوات التي ترتفع ، تحول مسجد سيدنا الحسين إلى كرنفال ديني مميز ، مجموعات هنا ومجموعات هناك ، ناس يذكرون ويبتهلون وناس تتبرك بالقبر وبالعتبة الخضراء ، وناس تقيم موائد الأكل والأطعمة وآخرون يتهارجون منهم من يوزع الحلوى ومنهم من يرش العطرومنهم من يحمل المبخرة ومجموعات واقفة تتمايل بين يديها كتاب البردة للبوصيري في نشيد جماعي مهيب . الرذاذ يتطاير من الأفواه والعرق يتصبب وبقايا الأكل تسيل ، وروائح البخور مختلطة بروائح الفول والطعمية وعيش الغلابة ، ومما جعلني أبتسم رغما عني هو تلك الزغاريد التي كانت تطلقها النساء بعد كل ركعة او نشيد او دعاء .. كل ذلك كان داخل المسجد طبعا . ما احببت أن أسجله أنني وجدت مجموعة من الناس تستقبل القبلة وتصلي في خشوع ، وبما أنني من منكري التعبد للقبور وبما انني متشبع بالمذهب المالكي ويحملني الشك في كل هذه المظاهر إلا ما صدق منها وكان طبيعيا ومتوجها إلى القبلة .. دخلت معهم في صلاة لم اصلها في حياتي من قبل ، صلاة لم اعرف عدد ركعاتها ولا سجداتها ولا كيفية إقامتها ، أغراني الخشوع الذي يبدو عليه أهلها ، لكن فجأة انطلق ذلك الشيخ الجليل يغني ويردد ابيات بصوت رخيم وعذب .. وقفت مشدوها ، تركت نفسي لحلاوة النغم والانشاد ، واتجهت بقلبي إلى داخل الروح ، حيث رفرف شيء جميل ، أحسست معه أنني لا املك نفسي ، نهضت ولم ادري ما الزمن ؟ كم من الوقت مر لا أدري . خرجت من المسجد وأنا أطير من السعادة اترنم بأبيات كنت قد حفظتها قديما ولا اعرف قائلها  واسمحوا لي أن أرددها عليكم قبل ان اخرج من المسجد ومن حضرة السادة :
لآل البيت عز لايــزولُ         وفضل لاتحيط به العقول
أبوكم فارس الهيجا عليّ        وامكمُ المطهرة البتول
    كفاكم يابني الزهراء فخرا  إذا ما قيل جدكمو الرسول .
  واجهتني أصوات الباعة والمتسولين والفقراء بشراسة انتهبتني من المكان الذي كنت فيه وأعادتني إلى الارض كانت تلك الصوات كانها ريح تلفح وجهي وانا خارج من الدفء والطمانينة إلى البرد واللاطمأنينة كذلك كان ضجيج أصحاب المقاهي الذين يتجاذبونك لكي تقع في فخ قوائم أسعارهم السياحية خصوصا وان السياحة في مصر مظروبة والقاهرة يكاد يشلها كساد تجاري قاتل يجعل المصريين متوترين

طرابلس آمنة و محمية بمليون جندي ومتطوع 
المعرض كان فرصة لي لكي اجدد نشاطي الثقافي وأعيد صلاتي بأصدقائي الشعراء والمثقفين العرب الذين انقطعت أخبارنا عنهم ، كانوا يرسلون لنا الرسائل عبر الفيس بوك ولكن لم أكن أستطيع الرد عليهم مع العلم ان الانترنت لم ينقطع عن مكتبي في مؤسسة الصحافة أبدا ، بل اجتهدنا في بقاءه فاستغللناه اجمل استغلال رغم انقطاعه عن طرابلس وأغلب مدن ليبيا في فترة الثورة  .. كانت رسائلهم التي لانستطيع الرد عليها تملء بريدنا وخوفهم علينا وعلى الليبيين يتراكم على صفحات النت ، قمنا بزيارة الشاعرة الصديقة ميسون صقر القاسمي والتي أجرت عملية وتعاني من بعض المشاكل الصحية في بيتها العامر بالأصدقاء الشعراء اعدت لنا مأدبة غداء فاخرة اجتمع عليها جل الوفد الليبي إضافة إلى شعراء من تونس ومصر .. وكان حديثا لطيفا حول الثورات المصرية والتونسية والليبية كان لجنون القذافي  وحربه على الليبيين النصيب الأكبر من الحديث . كما التقيت بالشاعر الجزائري الصديق بوزيد حرز الله والذي حمدت الله أنه كان رجلا في موقفه مع الثورة الليبية ولم يخذلني على عكس الكثير من الأصدقاء هناك من الشعراء والكتاب والذين بالطبع لم يعودوا أصدقاء خصوصا بعد تجريحهم الشخصي لنا عبر صفحات الفيس بوك وتطاولهم على الثورة الليبية والثوار الليبيين ووصفنا بثوار الناتو وعملاء الغرب ، جمعتنا جلسة بالمقهى الثقافي بالمعرض ضمت الشاعر الليبي الكبير راشد زبير السنوسي والأستاذ محمود اللبلاب مدير جناح النشر الليبي والشاعر أحمد الجميلي ناشر رواية "الزعيم يحلق شعره" لإدريس علي والقاص فتحي نصيب وبوزيد حرزالله وابنته شيراز ، بوزيد قال انه خجل من موقف الجزائر وطلب مني ألا أتحامل على الشعب الجزائري لآن أغلبه بل جلّه على المستوى الشعبي كان مع الثورة الليبية ضد القذافي ، وأضاف أن الصورة كانت غير واضحة خصوصا في الأشهر الأولى للثورة كان التلفزيون الليبي يعرض مشاهد الرقص والغناء وكانت القنوات الأخرى تعرض القتل والدماء ، انتظرنا ان يخرج اصدقاؤنا على التلفزيون الليبي وينقلون لنا الصورة .. التفت إلي وقال : كنت انتظرك يا درويش لتقول لي ماذا يحدث في ليبيا ، فلو خرج مثقف او شاعر إو إعلامي معروف ونثق فيه على التلفزيون وادلى برأي او بتصريح لكان ذلك مساعدا لنا في فهم الحقيقة لكن لم يخرج منكم احد ، اخبرته لو خرج منا احد في ذلك الوقت على شاشة الطاغية فإنها تعتبر خيانة لشعبنا ولثورتنا ولقد حاولوا الكثير مع الشرفاء من المثقفين لكن أغلبهم أغلق هاتفه وتملص اللهم إلا من كانت له مصالح من النظام أو باع ظميره ، تحدث أبوزيد أيضا عن دعوات وجهت له لزيارة طرابلس في تلك الأثناء لكنه رفض وحاول الاتصال بنا لتوضيح الأمر لكن الاتصالات كانت معطلة صححت له بل مقطوعة وذكر ان "ضو ربيع" ألح عليه في الحضور عديد المرات وأخبره ان طرابلس آمنة وأنها محمية بمليون جندي ومتطوع وان ما يشاع هو كذب في كذب فليبيا بلد الامن والامان ،، لكني لم أصدق يقول ابوزيد . طلب منا بوزيد زيارة الجزائر ثقافيا وإعلاميا لتوضيح الأمر فهذا جهد واجب لابد منه وعلينا ان نعمل شيئا يقول من أجل العلاقات الطيبة بين البلدين وتوضيح الصورة الحقيقية للثورة الليبية قلت له عن نفسي لن أذهب للجزائر لقد دعيت اكثر من مرة لمهرجان رسمي ولكني رفضت ، صرخ في وجهي أبوزيد قائلا : يا أخي تعالوا لبيوتنا احنا .. ماتروحوش لبوتفليقة . هنا سكتُ ولم أجب .. 
الفن للثورة بالزماك
كان لنا فرصة الحديث والإطلالة على المشاهد العربي من خلال قناة النيل الثقافية كنت ضيفا مع الأستاذ علي العباني ثم لم ينس الفنان التشكيلي علي العباني ان نطوف في الزمالك حيث الفن والجمال زرنا متحفا للفنون هناك مرورا بمكتبة الديوان ولابأس بشراء بعض الاصدارات الحديثة  ثم دعاني إلى مقهي جميل على الطراز الباريسي تلذذنا فيه بمذاق القهوة واللوحات التي تملاء المكان إضافة إلى الصور القديمة للفنانين السينمائيين العظام في زمن الخمسينيات والستينيات بعد ذلك ولجنا قاعة "المسار" حيث حضينا بمعرض الفنان المصري جورج بهجوري الذي يفتتح معرضه هذا بمناسبة مرور عام على ثورة يناير يقول جورج بهجوري في الكلمة الافتتاحية لهذا المعرض : لم أتصور أن تحدث صرخة واحدة وهتاف واحد "الشعب يريد ..." ثورة ومليون ثائر ثم 80 مليون وانا واحد من هؤلاء ، أعود من ميدان التحرير لمرسمي وذراعي الذي يتموج وسط مليون ذراع اصرخ معهم من جديد . وفي مرسمي جمعت رسوم دفتر إسكتشاتي رقم واحد بعد الألف وقد تحول ذراعي المتموج مع الصرخة الأولى والصرخات المتتالية إلى فرشاة وتحولت أصابعي الخمسة إلى ألوان ساخنة من الأصفر والبرتقالي والأحمر ألوان ألسنة اللهب المشتعل حولي وبداخلي فتحولت لوحاتي بصرخاتها إلى هذا المعرض )  . لوحات بهجوري الجميلة عبرت عن روح الميدان وشدتني لوحة "الجمل" حيث رسمه مقلوبا قوائمه إلى أعلى وهو يهوي على المتظاهرين في إشارة إلى موقعة الجمل الشهيرة بالتحرير.. إضافة إلى لوحة أخرى يظهر فيها نسر الجمهورية منعتقا من رقدته وتحته الأيدي مفتوحة الأصابع ايدي الثوار في ميدان التحرير مرورا بلوحة "الست أم كلثوم" وهي منسجمة في الغناء تحمل منديلها إلى أعلى طبعا كل ذلك بطريقة جورج بهجوري التي يختلط فيها الكاريكتور بالكولاج بالألوان والموروث المصري .  
أشخاص حول القذافي 
 قناة النيل الثقافية قدمت العديد من الأسماء الليبية كان التنسيق معها لكي يطل المثقف الليبي من خلالها فكانت لقاءات متميزة للكاتب حبيب الأمين والقاص فتحي نصيب والشاعر هليل البيجو وغيرهم ممن كان لهم إطلالة عبر قنوات ليبية بالقاهرة مثل الأستاذ عبدالباسط أبومريزيق في قناة ليبيا tv  ولا أنسى الندوة الصحفية التي اقامتها نقابة الصحفيين للمثقفين والصحفيين الليبيين وتحت عنوان "مستقبل الثورة الليبية" وتحدث فيها الكاتب امين مازن والأستاذ ادريس المسماري حيث تم الاتفاق على تفعيل اتحاد الصحفيين الافارقة والأفرومتوسط وغيرها من الاتفاقيات التي تراعاها الجامعة العربية والتي لم يسمع بها الصحفيون مثل الدورات التي تقيمها الجامعة العربية وغيرها .. محاضرة قيمة أيضا قدمتها الأستاذة أسماء الأسطى حول الصحافة الليبية تناولت فيها رباعيات الصحافة او السنوات الأربع اما  أثناء تقديمي للأستاذ الباحث عمار جحيدر في محاضرته حول نماذج من التواصل الثقافي المصري الليبي فزف إلينا خبر عثوره على مخطوط ليبي قديم في مكتبة الأزهر كان يبحث عنه لسنوات ووجده وتمت الموافقة على نسخه او تحقيقه ، مثلما كان بالنسبة لنا كتاب "أشخاص حول القذافي" الذي كتبه الأستاذ عبدالرحمن شلقم وهو الكتاب الليبي الأشهر هذا العام في معرض القاهرة للكتاب ، اعتقد أن كل المهتمين بالشأن الليبي قرأوا الكتاب الكتاب نشرته دار الفرجاني بالإشتراك مع دار مدارك ، وفيه يتحدث شلقم عن أهم الشخصيات التي كانت حاضرة في دوائر القرار السياسي وحول العقيد القذافي ويبرر شلقم سبب اختياره لهم واختياره لاسم الكتاب بأشخاص وليس رجال يقول : كثيرا ما تميل كلمة الرجال إلى درجة التقدير والتوقير .ويقول : من بين الأسماء أشخاص أعمى المال قلوبهم قبل عيونهم وسبحوا في بحر من العنف حسبوه بحرا من القوة تشابه عليهم القول والفعل وجعلتهم السلطة يصارعون ويتصارعون على هدف واحد هو إرضاء "القائد" والاقتراب منه وغابت عنهم إشارات وضوابط القول والفعل وبعضهم وليس جميعهم تنازل عن كل شيء حتى العرض والشرف من اجل قطف ثمرة الرضاء. ويقول في نهاية هذه المقدمة : وقد رأيت انه من الأشياء الضرورية استعراض هؤلاء الاشخاص وملامسة مكوناتهم حتى تكتمل صورة البيئة البشرية الواسعة التي تعامل معها معمر القذافي او استعملها طوال سنوات حكمه فقد تكرر السؤال على أفواه  آلاف الناس :"كيف تمكن العقيد القذافي من حكم ليبيا كل هذه السنوات ؟ وكيف قبل الذين عملوا معه أن يرافقوه طوال هذه الرحلة القاسية ؟ فمن هم هؤلاء الذين عملوا مع القذافي؟ . انتهى كلام شلقم . لكن لم ينتهي لقاؤنا مع الكتاب إذ سنعرض لكل شخصية من هاته الشخصيات على حدة في أعداد صحيفة فبراير القادمة .. وليترقبنا القارئ الكريم إن شاء الله ليس من باب الدعاية  للكتاب ولكن من باب الفائدة ..





رمضان في طرابلس 2011 طرابلس مدينة أشباح




خالد درويش

طرابلس مدينة أشباح ، أشباح تحوّم ليلا .. لم نتصور أن تكون ليالي رمضان الزاهرة بهذه الظلمة والقتامة ، أين هي لماتنا وسهراتنا وسمر الجيران ، وبنكهة المرارة والحزن استطعم أهالينا ساعات الصوم الثقيلة وساعات الإفطار الأثقل وهم يرزحون تحت ثقل طاغية مُبيد ، تعيث كتائبه فسادا في مدينة اختطفها كما يفعل المردة بالحسناء التي لا تطاوعهم فيحاولون كسر إرادتها بسجنها في أعالي الجبال في قصر موحش ليس فيه سوى صوره وموسيقاه وهتّافوه الذين يهتفون باسمه رغم أنه في قعر جحوره يتللص الهواء ويتحرك بصعوبة وعناء ،، مُطلقا في كل حين زعيقه الأجوف وأوامره الوحشية القاتلة عبر جهاز صغير يسمى "الراديو" ملك الملوك أصبح مجرد "تسجيل" صوت دون صورة ، حفرٌ كثيرة في طرابلس ومسارب تؤدي إلى مسارب كلها للاختباء والتخفي ، فتارة  يقفز إلى مدرسة أطفال وتارة إلى بيت مهجور وتارة إلى مستشفى ولادة وأخرى إلى حديقة حيوانات أو بيت متواضع في حي شعبي أو في دار الأيتام وغيرها من الحفر التي ظل طيلة فترة انقلابه يمهد طرقها تحت الأرض استعدادا لأيام محنته هذه مما جعل أرضية طرابلس "مترو انفاق" غير معلن .
انتشرت ظاهرة السرقة بالإكراه ودخول "المتطوعين" إلى البيوت وسرقة المجوهرات والمال هذا عدا قبضهم أي "المتطوعين" مبلغا معينا على كل "راس" من الثوار يسلمونه إلى الجهات الأمنية  التي لا تتردد في تجريده من كل شيء وإيداعه في مكان غير معلوم خصوصا بعد أن امتلئت السجون المعروفة مثل ابوسليم وعين زارة والدريبي وغيرها ، فاخترعوا سجونا أخرى كالحاويات وفلل الأزلام و المزارع  و"البدرومات" وغيرها مما يسجن فيه الناس ، دون أدنى رحمة أو شفقة في هذا الشهر الكريم . خافت الأمهات على أبنائهن والأباء على بناتهن وأغلقوا أبواب بيوتهم جيدا ، ومن كان عنده بعض المال أو من كانت لديها بعض الحلي والمجوهرات فقد دفنتها في فناء بيتها أو في مكان معلوم كي لا يستولي عليه الأوباش "جنود الاحتلال".
القصف في ازدياد وفرقعات قوية تهز العاصمة ، اليوم الخامس من شهر اغسطس "رمضان" وقوات القذافي تتهم الثوار بإغلاف أنبوب نفط رئيسي جهة الرياينة ، أما الخبر الذي أسعدنا وأثلج صدورنا فهو خبر مقتل "خميس" الابن الأصغر للقذافي في غارة لقوات التحالف على مدينة "زليتن" ليخرج علينا اللمبي كما نسميه هنا  أو موسى ابراهيم نافيا الخبر مؤكدا أنها أنباء كاذبة وأنها حيلة رخيصة للتغطية على مجزرة ماجر .. مع العلم أن ثوار مصراتة يسابقون الريح في تقدم كبير وملحوظ نحو "زليتن" القريبة منهم . لكن ما يمنعهم هو الجوار وأواصر القربى وأنهم لا يريدون دخول المدينة بالقوة بل من خلال أهلها .. وما حدث لمدينة زليطن هو ما حدث لعديد مدن الغرب فقد وصلتني فيديوهات وقمت بتوزيعها لانتفاضة المدينة منذ الأيام الأولى لثورة فبراير لكن أزلام الطاغية أمثال "أبشير" وغيره من القتلة هاجموا الثوار وسيطروا على المدينة بقوة القمع .
 في هذا اليوم  تلقينا رسالة تأييد مضحكة من الثائر الأممي تشافيز إلى أخيه في النار بعث بها إلى القذافي يقول فيها : ليحفظك الرحيم ويبارك لك وللشرفاء من شعب ليبيا أعانقك بحرارة مع مشاعر الأخوة متمنيا لك طول العمر يا أخي لأنك ستحيا وستنتصر" يستر الله ؟؟ الطغاة يساندون بعضهم البعض فنزويلا هذه التي هي نسخة أخرى من سلطة الشعب ومن الثوار الأمميين والعالميين وصلي عالنبي يا مصلي ..يا سي شافيز .. خذه عندك وأرحنا منه ومن بلواه .
اتصل بي صديق من الزاوية ليخبرني أن المدينة تستعد على أحر من الجمر لاستقبال الثوار وأن ترتيبات كبيرة سبقت ذلك طبعا كان الحديث مشفراً ، فعلمت أنها عملية تموين بالسلاح ، ثم جاءنا الخبر بأن الثوار يسيطرون على قرية "بير الغنم" وهي ليست بعيدة حوالي 85 كيلوا متر عن طرابلس .. جوك الثوار يا هووووه .. طرابلس لا زالت تكتم فرحتها برغم المواجهات التي حدثت الليلة في طريق السبعة وتفجير إحدى التندرات المشئومة .
ارتفاع الاسعار يطال كل شيء أما "الخضرة الرقيقة" مثل المعدنوس والشبت والسلك والبصل وغيرها فقد شحت وشاطت فيها النار" أحد التجار حين سألته عنها قال لي أنها كانت تأتي من مدينة الزاوية ، والزاوية وين يا حسرررة ؟ بعض المزارعين ممن كان يزرعها في مزرعته الخاصة ويتحين هذا الموسم لبيعها صرخ بي : لا ضي لا امية ؟ يعني لا براك ولا دولمة. سوق العاشوري يشهد أقبالا رهيبا من الناس التي تتمون في هذا الشهر الكريم ولقد شهدته في بداية الحرب والناس تدخل إليه فزعة لتشتري كل شيء وأي شيء وتحاول تخزينه ، وهاهي تفقد ما خزّنته من لحوم ودجاج بسبب تعفنها في الثلاجات للانقطاع المستمر للكهرباء فوالله قد مررت بمحل للحوم والدواجن يتصدق بالدجاج لكي لا يفسد في محله ، على الأقل يأكله أحد ما .. هذا البوار في الأسواق الكثيرة ، لكن سوق العاشوري اللهم لا حسد وكأنه على صلة بالجنة وبما لذ فيها وطاب كلما فرغ قليلا تجد الرفوف تُرص من جديد بالمزيد من المعلبات والأطعمة ،، انتشرت في طرابلس سيارات كبيرة تبيع الماء المعلب وتبيع العصائر والحليب بسعر مخفض ، ولكن في عبوات صغيرة ، ويقف الناس طوابير طويلة للحصول على الحليب والماء قيل أن هذه المواد مواد إغاثية او أنها مواد أرسلت بها منظمات أهلية عن طريق المنافذ البرية واستغل التجار هذه المواد (ولقد رأينا نفس التجار وهم يبيعون مواد الإغاثة بعد تحرير طرابلس) أي أن التجار لا دين لهم إلا المال لا يفرقون بين سادة ومخطط ولا بين دلاعة ونعناعة .