الجمعة، 4 يوليو 2014

التاريخ لا يقول وداعا ،، بل يقول سأراكم لاحقا . ادواردو كاليانو



كتب: غاري يونغ - الغارديان. 
ترجمة: بثينة العيسى - آراء.


كلّ صباح الأمر نفسه. على طاولة الفطور، يجلس كاتب الأورغواي إدواردو غاليانو ذو الـ 72 عاماً مع زوجته، هيلينا فيلاجرا، يناقشان أحلام الليلة الماضية.

"أحلامي دائماً غبية" يقول غاليانو. " غالبا ما أنسى أحلامي، وعندما أتذكرها، فهي تكون عن أمور سخيفة، مثل طائرات مفقودة ومشاكل بيروقراطية. ولكن زوجتي لديها أحلام جميلة!"

في إحدى المرّات حلمت هيلينا بأنهما في مطار، حيث المسافرون يحملون وسائدهم من الليلة الماضية. وقبل أن يتمكنوا من الرّكوب، كان موظفو المطار يضعون الوسائد في آلات تستخرج منها أحلام الليلة الماضية، ليتأكدوا من عدم وجود ما هو تدميري في تلك الأحلام.
عندما أخبرته هيلينا عن حلمها شعر غاليانو بالخجل من تفاهة أحلامه: "هذا مخجلٌ بالفعل!"

ليس هناك سِحر كثير في واقعية غاليانو، ولكن ليس هناك ما يخجل بشأنها أيضاً. فهذا الصحفي السبعيني الذي تحول إلى كاتب، ثم حاز على جائزة الشاعر من الحركة المناهضة للعولمة، عن طريق إضافة صوت مكثف وشعري إلى الكتابة الواقعية، عندما قام الراحل هوغو تشافيز بتقديم نسخة من كتابه "الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية" الصادر عام 1971، لمؤتمر الصحافة العالمي في 2009، قفز الكتاب من المركز الـ 54 على قائمة موقع الأمازون إلى المركز الثاني. عندما أعلن غاليانو عن خطته للسفر إلى شيكاغو لحضور فعالية قراءة لأروندهاتي روي، هللت الجماهير، وعندما وصل غاليانو إلى شيكاغو في مايو كانت نسخ كتابه قد نفدت.

"هناك رؤية تقليدية تنظر إلى الصحافة على أنها الجانب المظلم من الأدب، عندما صارت كتابة الكتب في قمة مجدها". قال غاليانو للصحيفة الإسبانية El Pais مؤكداً: "أنا لا أتفق. أعتقد بأن كل أشكال الكتابة تكوّن الأدب. بما فيها الكتابة على الجدران. لقد ألفتُ كتباً لسنين عديدة، ولكنني مدرَّبٌ كصُحفي، وأنا مدموغٌ بهذه الصفة. أنا ممتن للصحافة لإيقاظي لرؤية حقائق العالم".

هذه الحقائق تبدو كئيبة. "فالعالم ليس ديموقراطياً على الإطلاق". يقول غاليانو: "أكثر المؤسسات نفوذاً، وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تنتمي إلى ثلاث أو أربع دول، والبقية تتفرج. العالم مصمم وفق اقتصاديات الحرب وثقافة الحرب".

إلا أنه حتى الآن لا يوجد شيء في عمل غاليانو أو سلوكه ينم عن يأس أو حتى عن حزن.

عندما كان في إسبانيا أثناء الانتفاضة الشبابية قبل سنتين، قابل بعض المتظاهرين الشباب في مدريد. وتضامن غاليانو قلبياً مع الاحتجاجات. يقول "كانوا شباباً مؤمنون بما يفعلونه، وليس سهلا أن تجد ذلك في حقول السياسة. أنا ممتن لهم جداً".

أحد المتظاهرين الشباب سأل غاليانو، إلى أي مدى يعتقد بأن الصراع سوف يستمر. فأجابه غاليانو: "لا تقلق، الأمر يشبه ممارسة الحب. إنه أبدي بقدر ما هو حي. لا يهم إن كان قد استمر لدقيقة واحدة، لأن الدقيقة التي يحدث فيها تبدو كسنة".

غاليانو يتحدث هكذا كثيرا، ليس تماماً بلغة الأحاجي، ولكن بطريقة محيرة ولعوب. يستخدم الزمن كند.

عندما سألته إن كان متفائلاً بشأن الأوضاع في العالم، قال: "الأمر يعتمد على الفترة التي تسأل فيها سؤالك. من الساعة الثامنة صباحا وحتى الظهر أنا متشائم. ومن الواحدة بعد الظهر حتى الرابع مساء أنا متفائل."

قابلته في بهو فندق في وسط شيكاغو، في تمام الساعة الخامسة مساء، وكان جالسا ومعه كأس كبير من النبيذ، ويبدو سعيدا جداً. رؤيته للعالم ليست معقدة: المصالح العسكرية والاقتصادية تدمر العالم، بالإضافة إلى تراكم القوى في أيدي الأغنياء الذين يسحقون الفقراء. ونظراً للاكتساح الواسع للتاريخ لعمله - ووجود أمثلة من القرن الخامس عشر وما بعده ليس أمراً قليل الشيوع - فهو لا يفهم الحاضر بصفته تطورًا، بل استمرارية لوضع قديم على كوكب يعاني بشكل دائم من الغزو والمقاومة. يقول غاليانو: "التاريخ لا يقول وداعاً أبداً، التاريخ يقول سأراكم لاحقاً".

يمكن أن يكون غاليانو أي شيء إلا شخصًا "تبسيطياً". الناقد الحاد لسياسة أوباما الخارجية الذي عاش في المنفى في الأورغواي لأكثر من عقد من الزمن، خلال السبعينات والثمانينات، يستمتع - رغم ذلك - بالعودة الرمزية لأوباما عبر الانتخابات، مع جملةِ أوهامها: "لقد كنتُ سعيدا جدا بانتخابه، لأن أمريكا بلد له تقاليد عنصرية طازجة".

يذكر غاليانو القصة عندما أمر البنتاغون في 1942 بمنع عمليات نقل الدم من السود إلى البيض. "من الناحية التاريخية هذا لا شيء، 70 سنة تعادل دقيقة. ولهذا فبالنسبة لدولة كهذه، يعتبر انتصار أوباما مدعاة احتفال"

كل هذه الخصال: اللغة المحيرة واللعوب، الرؤية التاريخية والواقعية، تمتزج في كتابه الأخير "أطفال الأيام" حيث قام بصياغة مقالات تاريخية مصغرة عن كل يوم من أيام السنة. الهدف هو أن تكشف لحظات من الماضي، وتضعها في سياق الحاضر، تتموج في داخلا وخارجا من الحقب والقرون المختلفة لتكشف عن الاستمرارية.

ما يحققه غاليانو في كتابه هذا هو نوع من الحفر في العلاقات، يقتلع القصص المفقودة والمسروقة، ويعرضها في مجدها الكامل، المرعب والعبثي.

مقالته ليوم 1 يوليو، مثلاً، جاءت بعنوان: إرهابي واحد أقل. ونصّها ببساطة: "في العام 2008 قررت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أن تمحو اسم نيلسون مانديلا من قائمة "الإرهابيين الخطرين". الرجل الأفريقي الأكثر احتراما في العالم ظهر على هذه القائمة الآثمة لستين عاماً".

وعن اكتشاف 12 أكتوبر، يكتب: "في عام 1492 اكتشف السكان الأصليون بأنهم هنود، واكتشفوا بأنهم يعيشون في أمريكا"

وعن تاريخ 10 ديسمبر، عنون نصّه "الحرب المباركة" وأهداه إلى أوباما الحاصل على جائزة نوبل للسلام، عندما قال أوباما " هناك أوقات ستجد فيها الشعوب أن اللجوء إلى القوة ليس ضرورياً وحسب، وإنما مبرر أخلاقيا".

يكتب غاليانو: "قبل أربعة قرون ونصف القرن، عندما لم تكن جائزة نوبل موجودة، وارتفع الشر في البلدان، ليس بالنفط بل بالذهب والفضة، قام القاضي الإسباني خوان جينيه دي سيبولفيدا أيضا بالدفاع عن الحرب، ليس بصفتها ضرورة وحسب، وإنما بصفتها مبررة أخلاقياً".

وهكذا فإنه ينتقل من الماضي إلى الحاضر ويعود مرة أخرى، لإقامة علاقات بطرافة وخفة دم لاذعة. رغبته، كما يقول، هي تجديد ما يسميه "قوس قزح الإنسان، الأكثر جمالا من قوس قزح السماء" يصرّ.

وأضاف: "ولكن لدينا تلك النزعة العسكرية، الذكورية، العنصرية التي تعمينا عن ذلك". هناك طرق كثيرة ليصبح المرء أعمى. نحن عميان للأشياء الصغيرة والأشخاص الصغار. والطريق الأكثر سهولة لكي يصبح المرء أعمى، كما يؤمن غاليانو، ليس بفقده لبصره، بل لفقده لذاكرته.

"خوفي الكبير هو أننا جميعا نعاني من فقدان الذاكرة. كتبت لاسترداد الذاكرة من قوس قزح الإنسان، وهو معرّض لخطر التشويه".

ومن الأمثلة التي كتبها حكاية روبرت كارتر الثالث - الذي لم أسمع به قط - الوحيد من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية الذي قام بتحرير عبيده. "ونتيجة لارتكابه لهذه الخطيئة التي لا تغتفر، حكم عليهِ بأن ينساه التاريخ".

سألته: من هو المسئول عن هذا النسيان؟

"ليس شخصا" يجيب غاليانو. "إنه نظام القوة الذي يقرّر دائماً، باسم الإنسانية، من الذي يستحق أن نتذكره ومن الذي يستحق أن ننساه. نحن أكثر بكثير مما قيل لنا. نحن أجمل بكثير". -

ليست هناك تعليقات: