الجمعة، 4 يوليو 2014

تأويل




بقلم : د. نجيب الحصادي

حين ينشب خلاف حول وصف الواقع، أو حول تفسيره، قد لا يتطلب حسمه سوى الحصول على قدر كاف من المعلومات عن الواقعة المراد وصفها أو تفسيرها. أما إذا تعين موضع الجدل في مسألة قيمية، فإن الحصول على معلومات واقعية لا يكفي لتسويغ أية رؤية، رغم أن هذه المعلومات قد تشكك في الرؤى التي لا تأخذها في حسبانها. في هذا السياق، تتعدد الرؤى الخلافية، وتحوز كل منها مصادراتها الخاصة المسلم بها صراحة أو خلسة، دون أن يكون هناك معيار متفق عليه لحسم الخلاف.
من وجهة نظر منطقية، تعدد الرؤى الخلافية في أي سياق يستلزم استحالة أن تصدق جميعها، أقله بحسبان أن بعضها ينكر ما يقره بعضها الآخر. غير أن نيتشه يذهب إلى أبعد من ذلك. طبيعة الرؤى، بصرف النظر ما إذا كانت رؤى في واقع إمبيريقي أو في مسألة قيمية، تحول بذاتها دون صدق أي منها. ولأنه يعتبر كل الرؤى والنظريات باطلة ـ مجرد أخطاء مناسبة تتطلبها حياة البشر ـ فإنه يرتاب في صناع الأنساق المنتظمة ويتجنبهم. عنده، الرغبة في النسق، أي نسق، تشي غالبا بعوز في الأمانة.
يتوجب علينا أن نرى مزاعمنا المعرفية على حقيقتها، فهي مجرد تأويلات تنطلق من منظورات بعينها. كل حقائق العالم تأويلات، سبل بعينها في تنظيم الخبرة، وما أن نكتشف أن مبلغ ما لدينا هو منظورات مختلفة للعالم، حتى نتحرر من وهم افتراض أن هناك رؤية يتعين قبولها بوصفها رؤية نهائية وصحيحة. 
تتعين قيمة الرؤية الفطرية، ما يعرف بالفهم المشترك أو أحكام البداهة، في أنها مفيدة عمليا لنا؛ لقد ضمنت بقاء النوع البشري. الراهن أن هذه الرؤية أصبحت سائدة واعتبرت "صحيحة" أساسا لأنها تعين على البقاء؛ أما الرؤى التي لم تقم بذلك، فقد رحلت برحيل أصحابها. على ذلك، أصبحنا أسرى  "حقائقنا" و"معارفنا"، ونسينا أنها مجرد قصص خيالية تخدم بقاءنا. 
لا يعترض نيتشه على أن تخدم رؤية ما مصالح وقيما بعينها، لأن كل رؤية تقوم بذلك بطريقة أو أخرى، بل يعترض على الدوجماطيقية المتأصلة في الأنساق المعرفية التي تفترض أنها تستطيع أن تسمو على المصالح والقيم المنظورية وتؤمن رؤية محايدة في الأشياء على حقيقتها. أيضا فإنه لا يعترض على أية رؤية لأنها تأويل؛ بل يعترض على اعتبارها شيئا أكثر من ذلك. يسري هذا على مختلف أنساق الميتافيزيقا، قدر ما يسري على العلم الطبيعي، والإدراك العام، وحتى المنطق. 
نزعة نيتشه ليست نسبانية، إذا فهمنا النسبانية على أنها المذهب الذي يقول إنه لا سبيل للتخير بين رؤى مختلفة وكاملة في العالم. ذلك أن النزعة المنظورية التي يقول بها نيتشه ترى أن بعض الرؤى أفضل من غيرها تأسيسا على أنها أنسب لبعض المقاصد والقيم، رغم أن هذه المقاصد والقيم لا ترام من قبل الجميع ولا يلتزم بها كل الأفراد في مختلف العصور والبقاع. بتعبير آخر، لا يقر مذهب نيتشه أن كل صاحب رؤية محق فيها، بل يتبنى نزعة ارتيابية تشكك في أن يكون صاحب أية رؤية محقا في أي شيء، لأنه محتم على رؤيته أن تسلط ناظريها من منظور بعينه. باختصار، الرؤية، أية رؤية، ليست محقة لمجرد أنها رؤية ترى من منظور بعينه، ومحتم من ثم أن تغفل عن أشياء كثيرة.
غير أن نزعة نيتشه ارتيابية بطريقتها الخاصة. لا جدوى من بحث البشر عن الحقيقة الكاملة والحلول النهائية لا لأن اقتناصها عصي عليهم، ولا لأية أسباب معرفية أخرى، بل لأسباب وجودية صرفة. البحث عن الحقائق الكاملة والحلول النهائية غير مجد لأنه ليست هناك أصلا حقائق كاملة ولا حلول نهائية.




ليست هناك تعليقات: