الجمعة، 4 يوليو 2014

حياة الماء للشاعر الليبي مفتاح العماري






زاوية مسافات ..بالشمس الثقافي
مفتاح العماري


" غلّّقت الملوك أبوابها وبابك مفتوح "
أبو يزيد البسطامي

(1)
  الكلمة فخّ : تضنّ أنك تصطاد المعنى فتغدو فريسة له .
لأن  ( كل صمت لا يحتوي الكلام لا يعوّل عليه  ) *   
هذا هو مأزق التيه الذي لا أين يشير، أو يشار إليه .
لست العارف وأنت العارف .. كلاكما يرتدي الآخر ويتبرأ من سوءته .
الكلمة كلّما ضاقت بعيّها اتّسعت ضراوة عقدتها التي مآلها أن تتفتح بهيئة وردة أو فراشة أو حمامة مطر ،غير أنها كلّما توهمت فيضها كشفت عن نرجسة فتنتها بها . إذن لا شيء هنا وكل شيء . محض ضحك يفصح عن بكائه ، أو كما يشطح البسطامي ( لم أزل أبكي حتى ضحكت ، ولم أزل أضحك حتى صرت لا أضحك ولا أبكي ) . هنا أو هناك ، لك أن تقرأ كما يحلو لك . لكن لا تبرح النصّ خشية أن تقع فيما لا يحمد تأويله  فتمسي ملك براثنه . حينها قد لا تشفع لك معرفتك الواثقة تحريك ساكن. 

(2)                 
لأني وهبت نعمة الجوع  أدركت أن الشبع نقمة ....... 
لهذا انتظرت الغائب طويلا ، وحين لم يأت ذهبت إليه .
انتظر ت من الألف إلى الياء جناح رحمته ، انتظرت  دهرا ، ليس شغفا به أو بالانتظار أو نحوه ، بل تلهّفا للمتعة التي تحذو حذو  برهانه . كذلك نحن ................. 
 .. لأن ما ننتظره قد لا يكون بهيا كما كنّا نتوهم ، فثمة  هنا ، أعني في هذا اللعب الذي يستدرجنا ، قد نتواطأ مع غواية النظر ليبهرنا نور بقامة ملاك خادع ، لهذا ما تظنه حلما في طريقه إلى التحقق ليس من الصادم أذا ما فوجئت بأنه محض كابوس مخيف ،فالكوابيس مثلما الأحلام ، هي الأخرى قرينة نوم، لكن لكي يظل الجميل جميلا ، عليك أن تستيقظ ،  لتعي أكثر من مرة ترهات طبيعة الكلمة الخادعة . لأن الجمال الذي تضمره القصيدة يظل جمالا بتوطينه في بضع كلمات . لكن حالما يغادر متنه سيفقد عظيم بهائه ، لا ريب ،في أنّي ألمّح لبهاء الروح  لا الجسد الذي بهيأة كذب أرعن أو عبارة لعوب من حروف مخمورة تتبختر بطلائها . وبذا مهما انتظرت لن تحصل على روح  المنتظر  الذي تفتّش عنه . حينها لن تخسر شيئا سوى جهلك إذا ما اكتشفت في نهاية مطافك جريرة وهمك . هذا هو السرّ .

(3)
 لا بأس عليك طالما ثمة في الإمكان أن تستأنف رحلتك من جديد . الحياة تحتمل عبور الحمقى إكراما للأذكياء الذين  يتقنون أدوارهم باقتدار شديد الحنكة . غير أنه لا يعدّ عارا في شيء  أذا ما خدعت.. فالعار هو أشرس كائنات التجربة ،وأنت لم تلمس بعد هذه الفضيلة إلا إذا انتظرت أطول مما ينبغي ، إلى الحد الذي تستشعر فيه أن من يحيطون بك قد سئموا حياتك ، حينها ستصل إلى قرارك الحاسم في أن تتحقق لا بمشيئتك أنت أو خصومك ، بل بمشيئة  الألم وحده . لكن ثق أيّها العارف المخلّ أحيانا بنظافة متنه ، ثق تماما أن العالم بأسره هو الآخر ينتظر، و لهذا نحن نوجد . 

(4)
أن تحبّ هذه أيضا مثلبة ضرورية ستلهث خلفها، لكن بمجرد أن يصدمك الحائط توقّف قليلا ، لا لتعود إلى الخلف ، بل لتحلق أبعد مما يؤمل . فأنت أيضا لك شيطان في جيبك ، يمكنك أن تلجأ إليه عند الحاجة . هذه هي المسألة .لأن ما تتبعه لا يوجد في نفسه بل يوجد فيك ،  هو داخل كهفك لا خارجه لأنه يسكنك و يتمخض عنك لا عنه ، هو فكرتك لا فكرة شريكك في الثياب والسفر والمفاتيح ، (ما تقوله ، ما تعرفه ، كله نابع منك ، اعرف نفسك فقط ، لأن هذا الأمر أكبر مائة مرة منك .) ** فأنت في كل الأحوال تجسد سيرة وهمك . فقط تتفاقم جريرتك لحظة أن  تلبس الشريك حلما لا يسعه وتهبه دورا يتعذّر تجسيده على من جبل على الكره لا المودة ، لأن الضغينة  جوهر لغته سيغتالك بخنجر محبته. حينها عليك أن تدرك بأن نزالك مع نفسك لا معه ، ومعركتك التي تظهرها هي في حقيقة أمرها تحدث داخلك . لا بأس أيها العارف  أذا ما أشارت عليك الفاجعة باقتراح محطة أخرى .. هذا كل شيء ، لكي تتحقّق أبحث عن نفسك  ، ولكي تعثر عليها ، أبحث في لغتك لا لغة الآخرين ، حتى لا يختلط شعيرك بعدسهم  فالحياة قصيرة  أيها المشاء ، والوقت حاّد كما يوصي أبو حيان التوحيدي، فكن من حدّته على حذر .   


(5)
وأنت تتألم عليك أن تعي : أن تتحقق من شيء قد لا تتفطن إليه حين يتحول إلي متعة تغذي سادية شريكك . في هذه الحياة لا غيرها ، ثمة من ينجح ليس لأنه جديرا بذلك بل لأننا نفشل . لهذا يتفوق الجبناء ويتسابقون إلى الغنائم بعد سقوط من كانوا يتقدّمون الصفوف ، وهكذا قد يتعاظم الخسيس  ويمسي  نبيلا . وهذه واحدة من مثالب النصر عندما يمسي النكرة معرفة  ليصعد المتخاذل على درجات ، نورها من حطب الغائبين . 

(6)
إذا استطعت  توجيه مسار الألم إلى وجهة أنت تدركها ، هذه أيضا فضيلة مثلى ،  قد تنتصر أخيرا ولن تعوزك الحيلة لأن تكون أنت ، لا كما أنت ، لأنك حين تكون أنت كما أنت دائما ، حينها تصير معضلة تشبه الموت .

(7)
 أحيانا مثلما نتعلّم من اتساعنا نتعلم من ضيقنا . والعزلة لن تتحقق فقط بستة جدران تكتنفها ظلمة ، لعلّ تحققها الأبلغ أثرا والأعمق إعجازا يكمن في ما لا يحدّ من الآفاق والعواصم المضاءة بالضحك والحكايات والنيون . هل أنت كما أنت ؟ لا أظن ذلك وإلا  لن يتغير شيء في هذا الكون .. ثم هل أنت كما تعتقد أنك أنت .  غير أنك مهما تعتقد أنك أنت ،أنت : لن تصل إلى حقيقتك التي تشير إليك أو إلى  كل جهات الملح والطحين والحلم والنشيد . لا مفر إذن من أن تكون أكثر جرأة على اقتحام نقيضك .. من هنا تمتصّ الندرة وحدها عصارة الكثرة.ومن ثم لن يكون البقاء كما يشاع للأقوى بل للأجدر استحقاقا ، والذي قد يكون هشا ولعلها هنا تكمن قوته .. أحيانا تظل الهشاشة هي كل ما نحتاجه لكي نصمد . ولا أظن بأنك في حاجة لأن أذكّرك بمجازات شبيهة للوتسو  والنفري  وربما طاغور أو ذلك الأعمى  طويل الاسم الذي أحبه كما لو أنه من نسلّ أمي، أعني الأرجنتيني الذي رغم نباهة تناصه  وحذاقة خياله استغفل من اقرب الناس إلى قلبه ، و كان من أبشعهم تآمرا وخديعة ، شريكة حياته ، المرأة الفتية، أشير في هذه  المثلبة إلى  محنة صانع معجزات السرد الأسطوري بورخيس ، ولعلهم جميعا كما أظن قد لمّحوا : أن الخيال  لن يكون خيالا ما لم نخنه ، مثلما لن يكون الجمال جمالا ما لم نسبغ عليه شيئا من نسغنا ، لكي لا نصبح كما نحن دائما ، بل إلى ما يتاق إليه.. ليس في كل عام ، بل في كل جزء من القصيدة علينا إذا لم تحدث الآلام أن نبتكرها مثلما علينا صناعة الحروب والقلاقل والثورات من أجل شيء لسنا في كل الأحول ملزمين بفهمه .  يومئ الجاحظ :  هناك أشارات ستظل ملقاة على الطريق ، دائما عليها أن تنتظر .

_________________ حياة الماء

في البدء كان الماء ،
يسري في عروق الحجر  وقنوات الريح.
يولد الماء عاريا ، وينشأ عاريا ..
يعيش في بيوت من جرار وجلد  ، من عنب وقصدير ووحل ،
ينام في فم صبية بعد سفر طويل ،
 ولا ينام حين تتحسس أنامل شهوتها لحاء ذكورته ..
في قاع بئر ، ولا ينام إذا مرت أغاني الرعاة قرب سريره الفضي ،
 في زهرة تنتظر ..
 في إعصار يقتلع الغابات والمعاجم من جذورها ،
في قصيدة تولد ،
ولا ينام إذا أعلنت الصحراء نفيرها ..
في سماء ،  في شوارع وكلمات وشرايين وأشجار  وجبال .
حياة الماء لا تتوقف عن إثارة الموسيقى ،
حياة الماء لا تستسلم للكتابة بلغة الأرقام  ،
لا تحد ّ، حياة الماء في الصيف أكثر عنفونا ولذة  ،
في النهر: كل هذه المرأة  الجميلة ملكي  
في البحر: كل هذه  الدّرر ، وهذه الأسرار والأناشيد من بعض كنوزي
كل حديقة تعطيني ألوانها وذاكرتها وأساطيرها 
كل الأعشاش تطلق أحلامها في أثري .
أنا حياة الماء .

____________________
*   من رسالة ( الذي لا يعوّل عليه ) ، محي الدين بن عربي .
** من (منطق الطير ) ‘ فريد الدين العطار .

ليست هناك تعليقات: