الجمعة، 4 يوليو 2014

قنسطنطين كفافيس وفتنة الإسكندرية






                                       شوقى بدر يوسف
نشر بالشمس الثقافي


     فى قصيدته الشهيرة " المدينة " يقول شاعر الإسكندرية الكبير قنسطنطين كفافيس :
قلت : " سأذهب إلى أرض ثانية و بحر آخر 
إلى مدينة أخرى تكون أفضل من تلك المدينة 
كل محاولاتى مقضى عليها بالفشل 
وقلبى دفن كالميت 
إلى متى سيكون فكرى حزينا ؟ أينما جلت بعينى ،
أينما نظرت حولى بإمعان ، رأيت خرائب سوداء من حياتى
حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت 
لن تجد بلادا ولا بحورا أخرى فسوف تلاحقك المدينة
ستهيم فى نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة 
فى هذه الأحياء نفسها وفى البيوت ذاتها 
سيدب الشيب إلى رأسك 
وستصل دوما إلى هذه المدينة 
لا تأمل فى بقاع أخرى ، ما من سفين من أجلك
وما من سبيل .. ما دمت قد خربت حياتك هنا 
فى هذا الركن الصغير .. فهى خراب أينما كنت فى الوجود " .
      بهذا المقطع من قصيدة كفافيس تتبدى العلاقة الآسرة الأزلية بين هذا الشاعر العاشق المحب ومدينته الأثيرة ، فهى عنده وعلاوة على تجربته التى وجدها عليها بعد وصول البرابرة عام 1882 وأصبحت المدينة أسيرة خربة نزقه ومع ذلك فهو لها العين التى لا ترى سواها .
     فالمدينة عنده اسطورة يونانية ضخمة تتولد من خلالها أخيلة وحكايات تستعيد الماضى بكل ما فيه من رموز ومعان وتاريخ ، كما إنها أيضا فى واقعها المعاش آنئذ ليست سوى أرضا ثابتة تحت الأقدام تؤجح فى نفسه مشاعر إنسانية متضاربة خاصة وهى ترزح تحت وطأة برابرة الأستعمار البريطانى فى ذلك الوقت، فهى تهيم معه أينما حل وأينما وجد ، تجرى دماؤها فى شرايينه مانحة الحياة والأنفاس لنفسه وروحه، وهو لا يرى فى قصيدته هذه إلا ظلمات وقتامة وخرائب كالذى يراها من حوله فى كل مكان، فأعوام عمره التى قضاها فى المدينة مخربة إلى أقصى مدى ومهما يحاول الإبحار إلى مدينة جديدة أفضل بدلا من تلك التى دفنت قلبه أثناء الحياة ، فإن تلك المدينة ستظل تتعقبه وتطارده دوما، فهى تسكنه وتحاصره دائما وهى أيضا قدره الذى لا يمكن الأبتعاد عنه بأى حال من الأحوال ، فالحياة التى خربها الشاعر فى أحد اركان المدينة ستظل خرابا فى كل البقاع . وسنراه يؤكد أن مصير الناس فى الإسكندرية مشابه لمصير أهل طرواده المحاصرة ، هم يعيشونها سطوتها حتى الثمالة وهم مجبولين على البقاء فيها، حتى من يحاول الابتعاد عنها نراه يعود إليها مرة أخرى مسرعا فى لهفة وشوق ، هى دائما الملجأ والغواية والفتنة والحياة على الرغم مما ينتابها أحيانا من أعراض الخراب والموت . ولكن كفافيس علاوة على هذه الرؤية المتأججة فى نفسه نحو الإسكندرية ، نجده يعبر أيضا عن رغبة فى الحب والحرية والمواطنة فى مدينة أخرى تعيده إلى ماضيه وجذوره القديمة ، وهى مدينة المثل العليا الأخرى البعيدة " ايثاكا " وهى الجزيرة البعيدة القريبة فى نفس الوقت التى تقبع قبالة الساحل الغربى لليونان فهى بالنسبة له يجب أن تكون مطمحا يوميا، إنها الإحساس والرغبة والإشتهاء والمتعة الجمالية ، إنها الموطن الأسطورى الذى طالما تغنى به لأدويسيوس ، ولكن المدينة الإسكندرية دائما هى الفتاة التى يعشقها دوما والتى لن يتركها أبدا بعد أن عاد إليها عام 1885 .
      وهكذا تستقر المدينة فى أعماق الشاعر رمزا للحياة والمصير الإنسانى المطلق ، وشيئا جوهريا فى مسيرته حيث دماء المغامرة ما زالت تجرى متأججة بوجدانه وعقله ، وتلك الحقيقة المطلقة هى قدره الذى ارتآه دائما وتاق إليه دوما، فهو موسوم بمدينته التى خرج منها بعد وصول البرابرة إليها ، هى تعيش معه دائما وتتواصل مع أنفاسه ، وتلاحقه أينما كان فى هذا الوجود ، وهنا نجد مستوى المكان والدلالة فى مدينة كفافيس يحمل طبعة عصرية لما يعيشه هذا اليونانى العتيق ، وهو رمز معنوى لما بداخله ، فالمدينة تعيش داخله وليست خارج نطاق تفكيره ، لذا نجد أن ناسها وشوارعها وأحيائها وبيوتها ولحظات تاريخها الحافل كانت هى الرمز الأم الذى ولّد منه كفافيس عديدا من الرموز والدلالات فى عطائه الشعرى شديد الثراء والخصوبة والشاعرية ، فهى شمعته المضيئة دائما والتى لا يرى سواها ولا يرنو إلا إلى أيامها المتوهجة، لذا نراه فى قصيدته " شموع " يحتفى بالرمز المجسد لهوى الأيام المنبعثة من الشموع المدينية المحترقة ، يقول كفافيس فى قصيدة " الشموع "
أيام الغد تقف أمامنا 
مثل صف من الشموع الصغيرة الموقدة
الشموع الصغيرة الذهبية ، الحارة ، والمتوهجة 
الأيام المنصرمة تبقى وراءنا ،
صف مفجع من الشموع المحترقة ،
أقربها لا يزال يزفر الدخان
الشموع الباردة ، ذائبة ، ومحنّية 
لا أريد أن آرنو إليها ، إن جرمها يحزننى
كما يحزننى أن أتذكر ضوءها الأول 
إننى أتطلع إلى شموعى المضاءة
لا أريد أن التفت إلى الوراء وخشية أن أرى وأرتعد 
كيف يستطيل الصف الكابى سريعا ،
كيف تتضاعف الشموع المحترقة سريعا 
      فمن يغوى الإسكندرية وبفتن بها يكن له حجر فيها وظلال لا تنمحى وملامح تعيش طويلا، هكذا المدينة تحمل فى كل شبر فيها عبق الماضى وظلال الحاضر وعبقرية التأثير وروعة الإبداع الذى يشع من كافة جوانبها، فى حدائقها الخضراء الواسعة على شواطئ البحر، فى بيوتها المتلاصقة والمتجاورة والمتحاورة ، فى حواريها وأزقتها وشوارعها صاحبة العبق الخاص والعبقرية التى تشع دائما إنسانية وتلقائية ، فى مقاهيها الشعبية بروادها ودخانها وعبقها الخاص، فى أسواقها الزاخرة العامرة، فى كل شبر من عبقرية جنباتها،  هى مزيج من تراب عجيب يقال أنه زعفرانى ، ويود غريب يشع من البحر المتوسط معطرا ومضمخا برائحة الشرق والغرب معا ، يعيش فيها أولاد البلد والأجانب من كل الأجناس، لها سحر خاص ربما هو نابع من موقعها المتميز على شاطئ البحر، ربما هو نابع من أسرار مخزونة داخل أعماقها، ربما هو عبق التاريخ الطويل الذى عاشته المدينة فى هذا المكان المتميز من البحر ، ربما أشياء كثيرة مجهولة تعطى هذه المدينة العريقة هذا الألق الخاص، المهم أن سحرها يجذب إليها كل من يقع عينه عليها . لذا فكل من يحل فيها يقع فى آسر سحرها ، هكذا هى " الإسكندرية " . هى فى كل زمان لها غواية خاصة وفتنة آسرة لكل البشر، تضمهم إلى صدرها، خاصة المبدعين الذين يجدون فيها شياطينهم حاضرة، تمتزج الذات مع المخيلة لتنتج فى النهاية إبداعا يجول فى جنبات النفس . جاءها فلوبير زائرا فوقع فى غرامها وكتب عن رحلته إليها ، جاءها الكاتب والشاعر الأنجليزى لورانس داريل فوقع فى غرامها ومكث فيها سكندريا وعاش المواطنة السكندرية مخلصا، وكتب عنها رائعته السردية " رباعية الإسكندرية " وجسدها كحلم يغمره الضوء البرونزى الذى تلقيه البحيرة على ترابها ، جاءها أ . م . فورستر فوقع فى غرامها ولم يتركها إلا بعد أن ترك فيها كتابا مهما عن آثارها العظيمة، ودليلا رائعا يحدد ملامحها الخاصة وظلالها الآسرة ، زارها نجيب محفوظ والحكيم وتيمور وغيرهم من كبار المبدعين فلم ينقطعوا عنها أبدا صيف شتاء وأثمرت زيارتهم عن أعمالا إبداعية من وحى الإسكندرية ، ولد فيها كثير من المبدعين وكانت هى ملهمتهم الوحيدة ، أبدعوا فيها وعنها، حتى الذين ابتعدوا عنها لم ينسوها أبدا، إبدعوا عن الإسكندرية ما شاء لهم الأبداع ، إلا أن عظمة المدينة لم تضن على أبنائها بأسرارها فأعطتهم كل ما يريدونه من السحر والفتنة والغواية حتى أصبحت الأسكندرية المكان والزمان ملهمة القصيد، وخميلة الحكماء والشعراء كما قال عنها أمير الشعراء أحمد شوقى . من المبدعين الذين فتنوا بالإسكندرية وكانت المدينة غوايتهم وفتنتهم شاعر الإسكندرية الكبير " قنسطنطين كفافيس " والذى أصبح بفضل فتنة وغواية الإسكندرية من أهم شعراء العالم قاطبة . ولد كفافيس فى التاسع والعشرين من أبريل عام 1863 ومات فى نفس التاريخ من عام 1933 أى اختطفه الموت بعد سبعين عاما ، أبدع فيها شعرا غنائيا ودراميا،  وخلد أسمه فى سجل عظماء الشعراء وكانت الإسكندرية هى عالمه الشعرى الأثير ومهبط إبداعه ، وفاتنته الساحرة لذا فهو يقول عنها فى قصيدته " البحر فى الصباح " :
فلأقف هنا ، ولأرى الطبيعة مليا
شاطئ بحر رائع ، أزرق أصفر، فى صباح سماؤه صافية
كل شئ جميل مفعم بالضياء
فلأقف هنا ، ولأخدع نفسى بأنى أرى هذه حقا
ولا أرى خيالاتى ومتعة وهمية
     فى هذه المدينة فتح قنسطنطينوس . ب . كافافيس أو قسطنطين . ب . كافافى - كما يعرف اليوم - عينيه فى منزل والده الكائن بشارع شريف باشا، حيث ولد فى عالم رغد العيش لمكانة والده بيتر جون المرموقة بين كبار رجال صناعة القطن فى الإسكندرية، وكان شخصيتة فى الحياة الدينية والتجارية فى المدينة كبيرة ، ولكنه كان أوروبيا فى مظهره ، كما لم يكن أصدقاؤه ومعارفه الذين كثيرا ما يغص بهم منزله من بنى وطنه اليونانيين وحدهم ، ولكن كان بينهم أيضا عدد من رجال الصناعة والأعمال الذين ينحدرون من قوميات مختلفة ، ويشكلون الطبقة الأرستقراطية فى الإسكندرية بوضعها المالى والإجتماعى المتميز . فى هذه البيئة الرغدة العيش شب كفافيس عن الطوق حتى كان عام 1882 حين ضرب الأنجليز الإسكندرية، رحلت على أثرها الأسرة إلى الأستانة ثم عادت مرة أخرى بعد عدة أشهر إلا أن كفافيس وشقيقته خاريكليا لم يعودا إلا عام 1885 ، وكانت مصر التى عاد إليها كافافى ، قد أصبحت آنذاك مستعمرة إنجليزية بالفعل ، مما أدى إلى تدمير الحياة التجارية للجالية اليونانية فيها ، بحيث أصبح من الصعوبة بالنسبة لليونانيين السكندريين أن يعيدوا بناء حياتهم ومراكزهم من جديد ، فى الوقت الذى خيمت فيه على البلاد مظاهر البؤس والتدهور العام ، ويصف ستراتيس تسيركاس آخر من أرخوا لحياة كافافى ، هذه المرحلة فيقول – كانت قد طمست المعالم المادية والمعنوية لمصر التى كانت تعرفها أسرة كافافى .. ولم يشارك كافافى قط ، طوال حياته فى أى نشاط سياسى ولكنه كان ليبراليا وإنسانيا فى تفكيره ، لذا فقد ولدت لديه هذه الظروف شعورا بالأكتئاب ، وتعكس قصائده الأولى التى كتبها إبان هذه الفترة تشاؤمه المفرط .و قد استمر كفافيس طوال السنوات السبع التالية لعودته من الأستانة فى تكريس وقته للدراسة والكتابة، وتوسع فى قراءة التاريخ والأدب البيزنطى والهيلينى ، وقد أثار إعجابه وشهيته لهذا الإطلاع كتاب الأمثال الشعرية للبيزنطيين والسكندريين القدامى من أمثال سيمونيدس أو كيوس وكاليماخوس وميلياجيرو لوسيان ، وقاده إهتمامه باللغة اليونانية الديموطية إلى الدراسات اللغوية التى كتبها بانيس بسيهاريس الذى سخر من اللغة الرفيعة ودعا إلى التبنى المطلق للغة الديموطية باعتبارها الأمل الوحيد للأدب اليونانى والتطور الثقافى للشعب اليونانى . كما قرأ كفافيس بنهم خلال هذه الفترة الأدب اللاتينى والفرنسى والأنجليزى ، وفى قصيدته " فى انتظار البرابرة " وهو نفس العنوان الذى استخدمه الروائى الجنوب أفريقى " جون ماكسويل كويتزى " الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2003 لروايته الذى حصل بها على الجائزة . فى هذه القصيدة الرامزة إلى مزج الحضارة القديمة بواقع ما عاشه وعايشه كفافيس إبان وصول برابرة الأستعمار البريطانى وضربهم مدينته الإسكندرية والذى دمر فيه منزل عائلته الكائن بشارع شريف باشا ، يقول كفافيس فى هذه القصيدة :
ما الذى ننتظره ، باجتماعنا فى الساحة العامة ؟
سيأتى البرابرة اليوم .
لم هذا الجمود فى مجلس الشيوخ ؟
لماذا يجلس الشيوخ بدون أن يصدروا قوانين ؟
لأن البرابرة سيأتون اليوم .
أية قوانين أخرى يستطيع الشيوخ إصدارها ؟
عندما يأتى البرابرة سيسّنون القوانين .
لماذا استيقظ أمبراطورنا فى مثل هذه الساعة المبكرة .
ليجلس عند بوابة المدينة الرئيسية ، 
لأن البرابرة سيأتون اليوم .
والإمبراطور ينتظر لأستقبال رئيسهم ، حقا ، لقد استعد
ليقدم له قرطاسا حفر عليه
العديد من ألقاب واسماء الشرف .
لماذا خرج حكامنا وقضاتنا اليوم
وقد إتزروا بشملاتهم الحمراء المطرزة ،
لماذا يلبسون الأساور المرصعة بالأحجار الكريمة الزرقاء ،
ويأتلقون باللآلئ البراقة اللامعة ؟
لماذا يمسكون العصى الثمينة المطعمة بالفضة والذهب اليوم ؟
لأن البرابرة سيأتون اليوم .
ومثل هذه الأشياء تخطف أبصار البرابرة .
لماذا لا يأتى الخطباء المفوّهون كما يحدث دائما لإلقاء خطبهم ،
ليقولوا كلمتهم ؟
لآن البرابرة سيأتون اليوم ،
والبلاغة والخطابة ، تصيبهم بالضجر ،
لماذا هذا الأضطراب ، والهرج المباغت ؟
( يا لليل الذى كسا الوجوه )
لماذا تخلو الشوارع والساحات بهذه السرعة ،
ويعود الجميع إلى بيوتهم ، منغمسين فى التفكير ؟
لأن الليل قد حل هنا ولكن البرابرة لم يأتوا ،
حضر بعض الناس من الحدود 
وقالوا لم يعد هناك أثر للبرابرة ،
والآن ما هو مصيرنا بدون أى برابرة ؟
أولئك الناس كانوا نوعا من الحل .
     بهذه القصيدة وغيرها من القصائد لم يعترف كفافيس فى أعماله الشعرية الكاملة بحقيقة المواطنة العربية الخالصة ، بل كان دائما يعايش عصورا قديمة، وأحلاما شائهة، وأوهام الماضى العتيق  ، فهو لا زال يعيش فى عصور هيلينية وهيلينيسية متصلة ، ولا يتردد فى سبيل إستكمال حلقات السلسلة أن يملأ الفراغ بالوهم الذى عاشه ، وبالرغم من ذلك فقد ترك ثلاث قصائد شارك فيها مشاعر ووجدان الإنسان المصرى ، منها قصيدة ساذجة عن شم النسيم ، وقصيدتان تنمان عن انفعاله بحدثين وطنيين راح ضحيتهما شابان مصريان ، ولكن هذه القصائد تدخل ضمن إنتاجه الشعرى المبكر الذى اوصى بعدم نشره . 
     يشكل قسطنطين كفافى علامة إبداعية ضخمة فى تاريخ الشعرالمعاصر، فهو يونانى عاش الإسكندرية ، وسكندرى كتب عن الماضى اليونانى بلغته ، مارس الحياة بأفق شمل ثقافة الذات مع مخزون ثقافى كبير جال فيه ببصره وبصيرته الشاعره ومزجها بواقعية قام باستعراضها بعين العالم ، كما مزج ماضيه الحضارى مع حداثة الحاضر ودفعته ظروفه الخاصة إلى شبه الإنقطاع التام عن الحياة المعاصرة والإتصال بالماضى . فهو يرجع دائما إلى مدينته الموغل فى القدم ، لأن لتاريخها عبقه الخاص ونبراته التى لم يكتسبها الحاضر بعد ، لذا نجده يستحضر لنا من تاريخها اليونانى والهيلينى القديم رموزا وشخوصها وأحداثا يستخلص منه مغزى الحياة الإنسانية بكل ما تحوى من أحداث درامية . كما أن مصداقيته الشعرية والمعبرة عن كنه الحياة وعما يدور فيها من ممارسات قد تصل إلى مناطق لا يصل إليها الآخرين، وهى التى أعطت كفافيس أبعادا ونظرات حققت من خلالها شعر هذا الرجل الذى كانت تجاربه الشخصية هى نوع من البوح والإعترافات الخاصة المفجرة لمنابع الصدق فى إبداعاته الشعرية والذاتية . وقد أثر كفافيس فى شعراء عديدين منهم الشاعر الأمريكى و . ه , أودن حيث يقول أودن : " منذ أن تعرفت لأول مرة على شعره بفضل الراحل ر . م . دوكينز منذ أكثر من 30 عاما خلت ، ولا يزال ك . ب . كافافى يؤثر فى كتاباتى ، أو بقول آخر ، أستطيع أن أذكر قصائدى التى لو لم أتعرف على كافافى لكنت كتبتها على نحو مغاير أو ربما لم أكتبها على الإطلاق ، ومع ذلك فأنا لا أعرف كلمة واحدة من اللغة اليونانية الحديثة ، مما جعل سبيلى الوحيد لقراءة شعر كافافى ، من خلال ترجماته الإنجليزية والفرنسية .
     فكفافيس باستخدامه للماضى من أجل الحصول على مثل هذا الأثر إنما كان يشق طريقه نحو شئ أكثر مهارة وعمقا . فاهتمامه بالتاريخ كان اهتماما واسعا قاده إلى تعلم تلك الدروس بدقة بالغة مما جعله قادرا على تلمس العلائق بين العديد من تلك الأحداث الشهيرة والقضايا الإنسانية المتواترة . كان رد فعله الأول هو الخروج من الحادثة بما يمكن أن يكون . كما يبدو له الحقيقة الدائمة . ويقدمها بطريقته الخاصة فهو يرى فى قصيدة " الطرواديون " قصة الطرواديين المحاصرين وكأنهم فى الحالة النفسية التى يدرك الإنسان فيها حتمية هلاكه ولكنه يواصل الصراع بحيث يؤمن فى لحظة ما انه قادر على الانتصار . وفى قصيدة " منتصف آذار " يلتقط قصة النبوءة التى تقولها العرافة لقيصر ان احذر منتصف آذار ، ويجعل منها درسا هاما لكل الرجال الذين يتوصلون إلى ذروة السلطة . إن مثل هذه النبوءة ، كما يقول ، لها أهميتها البالغة ويجب أن لا يغفل عنها أحد مهما كان منصبه ، وفى قصيدة " الله يخذل انطونيو " يقدم تصوره الشخصى للقصة التى رواها بلوتارخ ونقلها عنه شكسبير حول تخلى هرقل عن انطونيو . يعتقد كفافيس أن ذلك يمكن ان يحدث لأى إنسان غارق فى السلطة والملذات . إنها ليست مناسبة للندم بل دعوة للشجاعة والإمتنان لذلك الماضى العظيم :
فلتصغ ، تلك هى بهجتك الأخيرة ، إلى الأصوات ،
آلات الفرقة السرية المدهشة 
وقل دائما ، وداعا للأسكندرية التى أنت فاقدها 
وفى قصيدة " إيثاكا " تصبح قصة غياب أوديسيوس الطويلة عن وطنه عظة لكل محاولات الاستقصاء الطويل حيث يخلص للقول أن البحث والاستقصاء أهم من الهدف نفسه وما يترتب على ذلك من تجربة لا تضاهيها قيمة . تتسم هذه القصائد بلهجة الوعظ لذلك فهى جافة ورسمية . ومع ذلك فهى تمثل بداية احساس كفافيس بأن موضوعات الماضى يمكن أن تنسحب على الحاضر وأن تنطبق عليه . مثل هذه القصائد أكثر حبكة وخصوصية .
     وفى خضم هذا العمل استطاع كفافيس أن يبلور اسلوبا فنيا يناسب موهبته الخاصة انتج به معظم أعماله المتميزة . ففى هذه الأعمال يقدم حدثا ماضيا بطريقة تبدو وكأنها موضوعية بحتة حيث لا يعلق عليها ولا يستخلص منها أى مغزى أخلاقى . إنه يبدو وكأنه معنى كليا بالحالة ذاتها فقط . وهو فعلا كذلك رغم أنه من الطبيعى أن تتم هذه المعالجة بذوق ذاتى شديد . ففى قصيدة " الخطوة الأولى " يروى كيف يقوم الشاعر ثيوقريطى بتوبيخ الشاعر الشاب أيمنيس لتخاذله عن بلوغ العظمة حيث يخبره بأن مجرد اتجاهه نحو الشعر هو انجاز بحد ذاته . لا بد أن تعكس هذه آراء كفافيس الخاصة التى لا يشكل زيها القديم شيئا أساسيا بالنسبة لها . ولكنه فى قصيدة " وقع الخطى " كان أكثر اتقانا حيث تصور القصيدة قلق الألهة التى تحرس نيرون بسبب سماعها اصواتا مرعبة عن السلام فتقع فوق بعضها البعض :
إنها تفهم معنى ذلك الصوت
وتعرف الآن وقع خطى المنتقمين
     تبدو الحالة هنا شيئا مستقلا وتظل اللمسة الذاتية تحت السيطرة ، فالمقصود هنا هو تلك اللحظة من حياة نيرون حيث يأخذ القدر المحتوم بالتصدى له . لا تقل قصيدة " الملك ديميتريوس " القصيرة موضوعية ونجاحا ، فالملك ديميتريوس بعد أن خذله المكدونيون ، ينزع اروابه ويلبس ملابس بسيطة ويهرب :
شأنه شأن آى ممثل
فحين تنتهى المسرحية
يغير ملابسه ثم يرحل
يتم تقديم هذه الأحداث الشعرية بحس تاريخى ودرامى فائقين ، ولكنها تستمد قوتها الخاصة من الحقيقة الواقعة وهى ان هذه الأحداث دائمة التكرار وأن مثلا واحدا منها يستدعى للذهن سلسلة من الأحداث المشابهة . هكذا بدأ كفافيس باستخدام الماضى كوسيلة لتحليل الحاضر وطرائق البشر الواقعية التى لا تتغير . بهذه الطريقة سرعان ما اكتسب هذه الفن العمق والتعقيد والتميز . ففى قصيدة " فى انتظار البرابرة " التى سبق أن تحدثنا عنها والتى كتبها كفافيس عام 1911 يعرض اسطورة فعلية تشكل بحد ذاتها قصة متكاملة تحكى عن مدلول وتأويل الحاجة إلى البرابرة حتى تتعادل وتتوازن المعادلة الصعبة للحياة لذلك فهى غنية بمدلولاتها الكونية ونهايتها تحتفى برؤية كفافيس نحو ماضيه الهلينيى واليونانى القديم . والقصيدة يبدأ مشهدها فى فترة زمنية هى نهاية العالم القديم فى مدينة تنتظر هجوم البرابرة وبدلا من أن يسيطر الخوف على السكان ، ينهمكون بالتهيوء لاستقبال المحتلين . المجلس الأعلى لم ينعقد حيث لا حاجة لسن القوانين فالبرابرة القادمون سوف يسنونها ، يجلس الأمبراطور على عرشه عند بوابة المدينة لابسا تاجه منتظرا قائد البرابرة لكى يرحب به ترحيبا لائقا وقد لبس الموظفون أحسن ملابسهم . فى هذه القصيدة الرامزة يتعرض كفافيس لموضوع له شعبية واسعة فى زمانه ، فالكاتب الروسى فاليرى بريوسوف كتب قصيدة بعنوان " الهون القادمون " رحب فيه بتدفق المحتلين البرابرة على عالم متعب يحتاج لدم جديد وحياة جديدة . وبروحية مشابهة . كتب ستيفان جورج " احراق الهيكل " صور فيها بطريقة مسرحية ذلك الأعجاب الكبير الذى يحمله الناس للمحتل المتجبر الذى يدمر اقدس مقدساتهم . تتحدث القصيدتان بلغة الماضى ولكنها تعكسان هموم وآمال العصر ، وهو ما احسه كل من بريوسوف وجورج وكفافيس بان العصر مريض ولا يمكن شفاوءه إلا بكارثة كبيرة تلتهم حضارة القرون الأولى وهو ما تأثر به كفافيس وانعكس على شعره خاصة قصيدته " فى انتظار البرابرة " .
     وإذا كانت اللغة عند كفافيس تحتفى بكل تواضع فى صلب موضوعاتها باهتمام المثقف والملم بدقائقها . فمع أن كفافيس كتب بطريقته اللغوية الخاصة إلا أنه لم يجشم نفسه عناء الإستفاده من الأمكانيات المتنوعة التى توفرها اللغة اليونانية الحديثة للكتّاب . وإذا ما اعتبره انصار الأسلوب القديم المتجردين من كل زينة بأنه يتمادى فى تبسيط لغته فإن انصار اللغة الشعبية يعتقدون بأنه قد أهان اللغة الحية بقلة استخدامه لمفرداتها الوفيرة . هكذا يقف كفافيس موقفا خطرا بين خطين متطرفين فى تناقضهما ، وقد أساء ذلك إلى سمعته بعض الشئ  فى اليونان، ومع ذلك فقد استطاع بطريقته الخاصة أن يوجه مناوراته بمهارة عبر ذلك الخط المتعرج للغة اليونانية . فهو يلجأ أحيانا إلى تقديم مفردة شعبية خالصة من أجل خلق تأثير معين كما فى فى قصيدة " فى انتظار البرابرة " إذ يشير إلى " العصا " بتعبير يتردد عادة فى السوق والشارع ويطلب " نوعا من الحل " أو كما يقول فى قصيدة " ملوك سكندريون " بأن السكندريون قد عرفوا بالطبع قيمة الشئ . وبلغة الحديث اليومى ، يقدم أحيانا ضمن فواصل صغيرة بعض التعابير التى تفوح منها رائحة البلاغة الكلاسيكية أو لغة الكنيسة البيزنطية واليونانية . يقوم هذا التنويع فى اللغة بدور يتعدى حدود النبرة المتوخاة من أجل مناسبة معينة بواسطة كلمات تتناسب مع الزمن والمكان ، انه يؤكد على التنويعات المختلفة فى احساسيس كفافيس نفسه ونظراته الخاصة نحو الموضوع المطروح . وهو يوفر ذلك التجاذب بين الأرتفاع والهبوط الذى يمنح الحالة النفسية خصبها ويتيح المجال لردود فعل مختلفة فى لحظة ما .
     وإذا كانت احدى المشاكل الرئيسية التى واجهت الشعر الحديث هى كيفية الربط بين الأثارية الشعرية الخالصة ومدى إنعكاس جوهر الشعر على صيغة الواقع والأحساس الكامل بتعقيد الوعى الحديث ، فلا شك أن كافافى الذى بدأ العمل قبل نضوج هذه المشكلة فى كثير من أجزاء اوروبا ، قد وجد الحل الناجح لها . لاشك أن الأثارية التى وجدت فى شعر كافافى ليست تلك الأثارية لديناميكية التى عند ابولينير او لوركا ، كما لا يصل تعقيده إلى مصاف باسترناك أو اليوت وبورخيس واكتافيو باث ، لقد كانت مهمته الشعرية المستوحاة من مزج الحديث بالقديم، اسهل فى بعض وجوهها من تلك المهمات التى واجهت الشعراء الذين وجدوا انفسهم فى خضم الموروث الأوروبى الراسخ . فالتقاليد التى كان عليه تخطيها، والرؤية الشعرية التى كان عليه ان يدافع عنها كانتا اقل واصغر بكثير مما ترتب على الشعراء الآخرين . وهو لم يتوغل فى سبيل استكشاف حالات شبه الوعى التى وجد الشعراء الآخرون فيها مجالات خصبة لتجاربهم وارائهم انما هو قد ادرك حدوده واتقن فنه ضمن هذه الحدود . وهو بمعالجته مادته باسلوب درامى قد استطاع أن يسبر اغوار الكثير من الزوايا الغريبة فى النفس البشرية . فهو لم يكن معنيا بأهواء الطبيعة البشرية بقدر ما كان مهتما باسرارها وبالجماليات التى وضعها فى شعره وحمّله موروث الإسكندرية واليونانية الهيلينية القديمة .
المراجع
كافافى شاعر الإسكندرية ، إعداد وتقديم أحمد مرسى ، منشورات الخزندار ، جده ، 1992
كونستانتين كافافى ( قصائد ) ، ترجمها عن الفرنسية بشير السباعى ، دار إلياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة ، 1991
قسطنطين كافافى والماضى الأغريقية ، التجربة الخلاقة ، س . م . بورا ، ترجمة سلافة حجاوى ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 1986
( ملف خاص ) عن الإسكندرية ، مقالات عن المشهد السكندرى فى عيون أوروبية " إبراهيم فتحى " ، الإسكندرية فى شعر كافافى " د . نعيم عطية " جريدة القاهرة ، القاهرة ، ع 131 ، 15/10/2002








ليست هناك تعليقات: