بقلم : د . نجيب الحصادي
التطرف موقف مؤسس على حجة تعاني من خلل منطقي تعرف باسم أغلوطة أسود_أو_أبيض. التطرف يبادل بين موقفين، كل شيء أو لا شيء؛ والمتطرف لا يرى سوى لونين، ولذا فإنه لا يبدي استعدادا للتفكر في أية إمكانات أخرى. في المقابل، فإن الحلول الوسطى مفهوم ديمقراطي وبراجماتي ووجيه يؤمن بتعددية الألوان.
من أمثلة أغلوطة أسود_أو_أبيض قول من قال "إذا لم تكن معنا، فأنت ضدنا"، واستدلال من يستدل بقوله "إذا كان الناس أخيارا، فلا حاجة لقوانين تردع الجريمة، وإذا كانوا أشرارا، لن تنجح القوانين في ردعهم؛ ولذا فإنه لا جدوى منها أصلا". ولكن لماذا نذهب بأمثلتنا بعيدا، فكثيرا ما يحدث أن يشتكى زوج من كثرة الملح في طعامه، فترد عليه زوجته بتذكيره بأنه سبق له أن اشتكى من قلته، فهو إذا أكثرت الملح اشتكى، وإذا قللت منه اشتكى؛ ولذا فإنه لا شيء يرضيه.
من بين أسباب الوقوع في هذه الأغلوطة الخلط بين مفهومي التناقض والتضاد. يستحيل على القضيتين المتناقضتين أن يبطلا معا، فإذا بطلت إحداهما لزم صدق الأخرى. لكن هذا ممكن في حالة القضيتين المتضادتين (فقد تبطلان معا). لا وسط إذن بين النقائض، لكنه ممكن في حال التضاد. في مثال "إذا لم تكن معنا، فأنت ضدنا"، التي تعني "إما أنك معنا أو ضدنا"، ثمة بدائل تغفلها هذه القضية: قد أكون معك في أشياء، ضدك في أخرى؛ وقد لا أعبأ أصلا بأن أكون معك أو ضدك. أما في الحجة المتعلقة بعدم جدوى القوانين، فبيّن أنه يتم التغاضي عمدا عن أوضح البدائل: أن يكون بعض الناس أخيارا وبعضهم أشرارا، أو أن يكون الواحد منهم خيرا بعض الوقت، شريرا سائر الأوقات.
من ضمن تجليات أغلوطة أبيض أو أسود ما يعرف بأغلوطة قياس الإحراج. نقول إن المرء يواجه إحراجا حين يتعين عليه التخير بين بديلين، أحلاهما مر. ومن ضمن سبل الرد على مثل هذا القياس تشكيل إحراج مضاد. أحيانا نخطئ في الاستدلال ويرد علينا الآخر خطأنا بطريقة تسبب لنا بعض الحرج. يروى أنه كان لآينشتين قطتان، قطة كبيرة وأخرى صغيرة، وكانتا تسببان له إزعاجا في وقت الشتاء بسبب دخولهما المفاجئ عليه من الباب صحبة موجات البرد ونتف الثلج. هكذا اتفق أنه ذهب إلى نجار طالبا منه أن يحفر له في الباب دائرتين، واحدة صغيرة والأخرى كبيرة، يغطي كل منهما غطاء مشدود بلولب، بحيث يسهل عليهما دفعه؛ فما كان للنجار إلا أن سأله، "عزيزي آلبرت، ألا تكفي دائرة واحدة؟ أم أنك مصرّ على دخول القطتين معا في آن واحد؟".
غير أن الرد بقياس إحراج مضاد قد يعني الرد بتشكيل حجة تتخذ صورة منطقية مماثلة، وتستند على مقدمات شبيهة، لكنها تسلم إلى نتيجة مضادة. مثال ذلك الحجة التي تحاول فيها أم أثينية أن تثني ابنها عن الخوض في المسائل السياسية، حيث قالت له: "إذا قلت ما هو عدل، سوف تغضب الناس؛ وإذا قلت ما ليس عدلا سوف تغضب الآلهة؛ ولذا فأنت مغضوب عليك في الحالين". وقد رد ابنها على حجتها بقوله: "إذا قلت ما هو عدل، سوف أرضي الآلهة؛ وإذا قلت ما ليس عدلا سوف أرضي الناس؛ ولذا فأنا مرضي عني في الحالين".
يحكى أيضا أن برنارد شو بعث بتذكرتين إلى صديقه ونستون تشرشل، أرفقهما برسالة قصيرة يقول فيها:" السبت القادم موعد أول عرض لمسرحيتي الجديدة؛ أبعث لك بتذكرتين، واحدة لك، والأخرى لأحد أصدقائك؛ إذا كان لديك أصدقاء". فما كان من تشرشل إلى أن رد عليه برسالة يقول فيها: "أشكرك على دعوتك الكريمة، وأعتذر عن تلبيتها لانشغالي؛ غير أنني أعد بحضور العرض الثاني للمسرحية؛ إذا كان هناك عرض ثان".
أغلوطة الحل الكامل تجل ثالث لأغلوطة أسود_أو_أبيض، وقد يبدو التجلي الأكثر تطرفا، من وجهة نظر عملية على أقل تقدير. تقر الأغلوطة أن عجز البديل المقترح عن حل كل المشاكل، إنما يستوجب رفضه. هكذا فإننا نقع في هذه الأغلوطة حين نؤسس رفضنا لبديل مقترح على عجزه عن حل كل ما يعرض لنا من مشاكل. مثال ذلك أن يقترح أحدنا حلا لمشكلة الأكياس التي تملأ الشوارع، فيعترض آخر عليه بقوله: "وهل إذا قمنا بحل هذه المشكلة، انتهت كل مشاكلنا؟". مؤدى الافتراض الضمني هنا أن حل أية مشكلة إما أن يكون مثاليا، بحيث يخلصنا من كل المشاكل المتعلقة، أو لا يعد حلا أصلا. وكما يتضح، فإن الوسط بين هذين البديلين ليس مرفوعا. حقيقة أن كل الحلول تقصر عن معالجة كل الاختلالات التي يعاني منها أي مجتمع، لا تقلل بذاتها من وجاهة أي حل.
الراهن أن مطلب الحلول المثالية مطلب خطير، لأنه يشكك في أهمية أية خطوة يحرزها المجتمع على درب تنميته والإصلاح من أحواله. أكثر من ذلك، لو أننا طبقنا مبدأ الحل المثالي، لما تسنى لنا إحراز أي تقدم مهما قل شأنه. صحيح أننا نحتاج في بعض السياقات إلى تحديد الأولويات، وقد يكون لنا أن نعترض على الاهتمام بمشكلة ما تأسيسا على عوزها الأهمية نسبة إلى مشاكل أخرى؛ غير أن اشتراط قدرة أي بديل على تأمين منجزات شمولية قد يكون أقصر السبل إلى الرضا بالراهن وأيسر ذريعة للتطامن والتلكؤ والانتظار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق