الجمعة، 4 يوليو 2014

قصيدة النثر.. هل هي عميل إسرائيلي!؟






جميل حمادة

استأثرت قصيدة النثر باهتمام العديد من النقاد العرب، وكذلك العديد من الشعراء العرب، فمن رافض لها، على اعتبار أنها تكسر يوتوبيا القصيدة العربية التقليدية، فتصبح خارج الوزن والقافية، وذلك الايقاع المنتظم والجرس الموسيقى الخاص الذي طالما أضفى على القصيدة العربية موسيقى فخمة عالية ورثتها منذ قرون وعقود، والتي تعتبر ذات نمط إيقاعي متشابه ضمن إيقاعات البحور الشعرية الستة عشر المعروفة. وهؤلاء كانوا في العادة هم عدد لا يستهان به من الشعراء والنقاد الذين اعتادت مخيلتهم وقراءاتهم على مواكبة هذا الميراث الشعري العربي العظيم والهائل، كما اعتاد أقرانهم أو أبناؤهم أو أنصارهم على تلقي ومشاهدة وتمثل القصيدة العربية التقليدية العروضية، متناسين بذلك عن تجاهل غير مقصود بالمطلق التطور الذي حدث في كل مناحي الحياة، وفي العلوم والآداب والبناء والتطور والحضارة والمدينة وكل مظاهر الحياة العصرية.
وصار بعض هؤلاء النقاد والشعراء يتعاملون مع القصيدة الحديثة، وتحديدا قصيدة النثر وكأنها تكتب بلغة أخرى ولا تكتب باللغة العربية الفصحى.. بل أن بعضهم اعتبرها خطرا كبيرا على اللغة العربية، مع أن الأمر نفسه قد ينطبق على نحو أكثر خطورة على الشعر الشعبي أو الزجل أو الشعر النبطي الذي في اعتقادي هو من يشكل الخطر الحقيقي على اللغة الفصحى لغة القرآن الكريم. 
أنا أرى الأمر على نحو مختلف، فمثلا بامكاننا أن نعتبر قصيدة النثر، نثرا جميلا أو جنسا أدبيا بديعا ومبتكرا، مثلما حدث عندما تم ابتكار المقامة، التي كانت في سجعها وإيقاعها اللغوي أقرب إلى الشعر منها إلى النثر في أشكاله التي كانت سائدة في القرون الغابرة مثل الخطابة والرسائل والحكايات.. وهناك الكثير من الشعراء والنقاد الذي ركنوا إلى هذا الرأي ولم يحملوا سلم العداوة بالعرض لقصيدة النثر، وكأنها عميل صهيوني للسي أي. إيه، أو للموساد الإسرائيلي ويستهدف قلب الأنظمة العربية البديعة..! رغم أننا سوف نكون أكثر تساهلا بالتأكيد مع العميل الصهيوني والعميل الأمريكي، وربما نقدم له هدية من نوع ما..!

المشكلة في أكثر جوانبها حدة و "مأساوية" تتمحور في أن عدد لا يستهان به من الشعراء والنقاد التقليديين – إن وجدوا- يرى في القصيدة الحديثة، سواء قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، شكلا مرفوضا، فقط لمجرد أنها لا تخضع لقواعد القصيدة العمودية التقليدية التي قالها العرب منذ عصور قديمة – أي منذ ظهور اللغة العربية في شكلها الراهن، بعد الآرامية والهيروغليفية والسومرية واللغات العروبية القديمة - وفق إيقاع سلسلة تناغمت مع عصور موغلة في البدائية من جميع النواحي، وبالتالي كان الشاعر يأتي ليغني للإبل بقول جميل يجعل له لحنا خطر على ذهنه في حينه، أو يبكي على طلل مضى بايقاع شجي حزين، أو يرثي حبيبا قضى، ولم يكن حتى من السهل عليه أن يصنع نايا أو ربابة.. أو أن يجدها دائما.. كل هذه الايقاعات التي تأمل فيها العالم الكبير، الخليل بن أحمد الفراهيدي وجعلها قواعد مكتوبة ومموسقة.. بتسميات.. ولكنها على أية حال لم تنزل من السماء..!

ثم لماذا قبلنا حدوث كافة أشكال هذا التطور الكلي والشامل في كل أنماط حياتنا وأدواتنا ومساكننا ومركوبنا ومراحل حياتنا بالمجمل من السيف إلى المسدس والمدفع، هذا إذا كان لدينا مدفع، ومن البغال والحمير والخيل إلى السيارات والطائرات والسفن والدراجات البخارية التي لم نتمكن من صناعتها نحن العرب بعد..؟ لم نتقبل كل هذا التطور في أشكالنا وألواننا وطقوسنا وألبستنا ومركوبنا ومأكلنا وشكل منازلنا .. و"ماكياجنا"، أعني وسائل تجميلنا وحتى هودج عرائسنا وشعائر أفراحنا ومآتمنا، نقبل كل ذلك التطور والتغيير والإضافات.. ونرفضه فقط في القصيدة العربية.. ؟ مسألة غريبة تنم في نظري عن أمرين..  أولهما أن العربي اعتاد أن يكون هنالك لديه ضوابط وحدود وفواصل، وأن يتبع أوامر طرف آخر، ولم يعتد الحرية، رغم أن الصحراء العربية الرحبة تقول غير ذلك.  والثاني أن العربي مصاب بانفصام في الشخصية دائما، فلا علاقة لحكمه بالعقل والعلم والمنطق، بل له علاقة به هو نفسه، ومدى تقبله هو نفسه للأمر من ناحية مزاجية صرفة. 

وفي الختام، نريد أن نصل إلى خلاصة مؤداها، أنه كما كان الموشح العربي شكلا جديدا ومثلما كانت الموشحات الأندلسية شكلا متطورا فرضه شكل الحياة العربية السلسة (الباذخة) في الأندلس، والتطور الحاصل في شتى أنواع العلوم وأنماط الحياة، ومثلما انتقلت القصيدة العربية في مقدمتها من البكاء على الطلل إلى أن تصبح أحيانا خمرية أو حماسية أو رثائية.. أو غزلية، جاءت قصيدة التفعيلة لتغير قليلا في شكل القصيدة العربية التقليدية باختلاف في عدد التفعيلات، وإلغاء صدر البيت وعجزه بحيث يصبح البيت الشعرية جملة واحدة، وأمست القصيدة في الأغلم الأعم وحدة واحدة، تجمعها في كثير من الأحوال وحدة موضوعية واحدة، وهو مالم يكن يتوفر دائما في القصيدة العربية التقليدية. 
ثم إن إنتقال العربي من مساكن البادية إلى دخول المدينة، والتطور والاختلاف الذي طرأ على حياته المدينية الجديدة.. طرح وعلى نحو تلقائي فرضته سنة الحياة، شكلا أكثر سلاسة ويسرا وأبعد قليلا عن موضوعاته القديمة.. بالإضافة إلى حالة الاستقرار والثبات التي صنعها بروز الدولة العربية الاسلامية القوية المترامية. 


ليست هناك تعليقات: