أ.د. الصيد أبو ديب
نشر بالشمس الثقافي
متعددة هي الجوانب الموضوعية في شعر " الجيلاني طريبشان " الذي أودعه ديوانيه " رؤية في ممر عام 1974 " الصادر عام 1978 و" ابتهال إلى السيدة ن " الصادر عام 1999 . وتمثله قصائده المنشورة في عدد من الصحف والمجلات الليبية والتي لم تجمع بعد ، من ذلك تناوله قضية مهمة وعامة هي قضية الأدب والحياة التي تعد من أبرز قضايا الثقافة والفكر التي عرفها القرن العشرين .
فالشاعر جيلاني طريبشان لم يكن بمستطاع أن يهرب بشعره من واقعه بكل أبعاده ، وإنما عبّر بالكلمة المسؤولة عن مظاهر التحامه بالحياة في عمقها رغم قسوتها عليه ، ولم يخلع عنه ثوبها الذي كان يكتم أنفاسه ـ تاركاً للأعياء يصولون ويجولون ويعبثون فيها فساداً ..
أتيتك من عذاب الفقر
كان البحر أسود
والنسمات ماتت في عيون الطير والأطفال والسفن الشتائية
رأيت الحب مذبوحاً على الإسفلت
وما خفت طيور البحر تستر عورة الميت
لقد سخّر الشاعر جيلاني طريبشان شعره للإنسان مؤمناً به وهو يعانق الحرية ويموت من أجلها ، متطلعاً أن يتنفس في أجواء الفجر الندية ونسائمه الصافية ..
يحلم المتعبون بالماء والعشب
يجرون إلى ضفة النهر
يبنون أكواخهم
من الأحلام التي طاردتها الفصول
غير أن الفلول
أنهكتها المجاعة .. غرقت
ما عاد يجديها صبر أيوب
ولا قوارب نوح
ذبلت عيون أطفالها
صارت تبنش الصخر
فخاضت أقدامها في الوحول
لقد أدرك الشاعر جيلاني طريبشان مبكراً جداً أن الحياة الإنسانية مليئة بالآلام والأحزان ، وعلى شاعر أن يحاور هذه الحقيقة لغاية إنسانية وإن لم يفعل ذاك فلا خير فيه وفي شعره ..
ويحك يا حرفي الأعزل في الساحة ها أنت محاصر
درعك ورق وجوادك يكبو مكسوراً
الباء .. بانت في قلبي جراح الحزن الأولى
إن القارئ لديواني الشاعر الجيلاني طريبشان ، سيقف أمام مثال حيّ للشاعر الإنسان ويتأكد له صحة القول الذي يرى أن " الأصل في الشعر أن يخلق من الإنسان أسطورة ... فالعمل الإنساني الذي تسيطر عليه الحاجة وتوجهه المنفعة ليس في أحد معانيه سوى وسيلة، فهو يمضى غير مدرك في نفسه "
ملأى أكواب السادة
أما نحن الفقراء " السوقة "
لازلنا نغرق في العادة
تأسرنا الرتب المرموقة
لقد كان شعر جيلاني طريبشان استجابة واضحة للحياد والإنسان وتطلعاً واعداً لغدهما المشرق بهما رسم صوراً وغايات نبيلة شكلها من ذوب قلبه ورقيق مشاعره ، ومن أجلهما سخّر قلمه وإذا كان " المرء في صلته بعالمه ، تستليه الغايات ، والشعر بعكس هذه الصلة .. كما يقول سارتر – فإن الشاعر جيلاني طريبشان كذلك ، فقد عكس صلته بعالمه والناس والحياة ، مؤكداً بهذه الصلة أن " الغاية من الشيء هي إحالة الإنسان إلى ذاته لذلك كانت ذاته تطل علينا في قصائده محققاً " محاولة إنسانية ذات وجهين : نجاح وإخفاق في وقت معاً " .
يزدهر الصّبار في غد ، وتنضج الحقول
جيشاً من الحفاة والمقاتلين
سترفع الخيل هنا هاماتنا
فهذه الأرض غدت ملكاً لنا
لقد اختار الشاعر الجيلاني طريبشان الشعر دون غيره من أنواع الكتابة وأجناس الأدب لأنه أقرب إلى طبيعة مشاعره الرقيقة وأحاسيسه الناعمة الشفافة ورؤاه الحالمة ..
ولنا وطن ـ حين نبغي نفجره في قصيدة
ولنا الله والطفل والحجر
ولنا "رغم كل الظروف " سهوب المنافي البعيدة
تاركين لكم كل شيء
على أية حال إذا كان الأدب والفن في نظر البعض وسيلة من وسائل الهروب من الواقع ، فالأمر عند الشاعر جيلاني طريبشان أبعد من ذلك بكثير فبالشعر احتضن الحياة وعانق الواقع بكل متناقضاته ،حلوه ومره ، أفراحه وأتراحه ، نجاحاته وإخفاقاته ، ها هو يعنون إحدى قصائده بـ " كلمات الحزن والفرح " فيقول :
في جنح الليل المجنون الأسود
تصمت كل الأصوات الناعية القذرة
تسقط كل الرايات المرفوعة عنوة
يتبلسم جرح صديان عبر الصمت
تتحقق أحلام اليقظة
تبزغ في المحاق القلب الميت فجأة
تبزغ كلمة .. مرحى يا صاحبة المجد ، مولاتي الكلمة
لقد كان شعر جيلاني طريبشان بحق شعر حياة لا شعر كلمات جوفاء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق