شوقى بدر يوسف
نشر بالشمس الثقافي
يرتبط الأديب الكبير عباس محمود العقاد بفن القصة من خلال جوانب عديدة ضمنها مسيرته الأبداعية شأنه شأن جيله من كبار الأدباء الذين وجدوا فى هذه المنطقة من الإبداع مجالا رحبا وخصبا للمساهمة فى تأصيل ساحته، ومحاولة صياغة حكى وقص عربى جديد يواكب المؤثرات الأوروبية التى كان لها تأثير كبير على هذا الفن فى الساحة العربية آنذاك، وقد كانت الكتابة القصصية والروائية فى الساحة العربية فى ذلك الوقت لا زالت تتأرجح ما بين النضج الفنى ومحاولات اثبات تواجدها كجنس أدبى له خصوصيته ومذاقه وتوجهه، بفضل مساهمات العديد من الكتاب، الشعراء منهم والأدباء الذين ساهموا فى نهضة وتطور القصة والرواية العربية فى بداية بواكيرها الأولى . فقد ابدع كل من أحمد شوقى وحافظ إبراهيم والمويلحى وهيكل والمنفلوطى و طه حسين والمازنى والحكيم والعقاد فى مجال القصة والرواية المصرية إبداعات أثرت هذا الفن بنصوصها وأعمالها التى أصبحت هى الأرهاصات والركيزة الأولى فى هذا المجال للأجيال التى جاءت بعد ذلك .
ولعل رواية " سارة " للعقاد التى صدرت عام 1937 وتزامن صدورها مع صدور العديد من بواكير القصة والرواية العربية فى العالم العربى، والتى أصبحت بعد ذلك علامة هامة فى مسيرة السرد الروائى العربى الحديث، كانت هى بيضة الديك التى احتسبت للعقاد فى هذا المجال . وقد تناولها العديد من النقاد والباحثين بدراسات مستفيضة من جوانب وزوايا مختلفة بإعتبار أن خطوط تماسها السردية تجمع بين الفن الروائى الصاعد آنذاك وبين فن السيرة والترجمة الذاتية حيث تتطابق شخصية " همام " وهى الشخصية المحورية لهذا النص مع شخصية العقاد نفسه بكل ما تحمل من جوانب ذاتية وجسدية ومعرفية .
وعلى الرغم من أن العقاد كان مقلا فى مساهماته فى مجال القصة القصيرة والذى كان يسميها فى كثير من الأحيان " القصة الصغيرة " إلا تاريخ الأدب قد حدد لنا ثلاث من قصصه الصغيرة وهى "أحسن حمار"، "العذراء والشيطان"، و"المسرف الظريف" كما أنه ساهم أيضا فى هذا المجال بمجموعة قصصية وحيدة قام بترجمتها من الأدب الأمريكى تحت عنوان " ألوان من القصة القصيرة فى الأدب الأمريكى " ، تناولت العديد من نصوص بعض كتاب القصة فى الأدب الأمريكى، ويمثل هذا الجانب فى مسيرة العقاد الأدبية نوعا من التواصل المتواضع مع جنس أدبى هام من الأجناس الأدبية وهو فن القصة والذى ساهم فيه عن طريق الترجمة والأنتقاء الخاص بهذه القصص ومعالجتها سرديا .
ولعل أختيار العقاد لبعض النصوص القصصية من الأدب الأمريكى وقيامه بنقلها إلى العربية كان له مغزى ودلالة خاصة لديه، يظهر ذلك أولا من انتقائه لهذه المجموعة من القصص المتميزة، لبعض رواد الكتابة القصصية فى الأدب الأمريكى أمثال واشنطن ارفنج، إدجار آلن بو، مارك توين، توما بايلى الدريخ، جورج آد، ويلا كاثر، ستيفن فنسنت بنيت، ويعتبر هؤلاء الكتاب من كبار الرواد لهذا الفن فى الأدب الأمريكى، كما ترجم أيضا لكاتبين من الكتاب المعاصرين هما وليم فوكنر، وجون شتاينبك . كما أن اختيار العقاد لهذه القصص لهؤلاء الكتاب العظام لم يكن اختيارا عشوائيا، بل كان إختيارا موفقا إلى أبعد الحدود يتضح ذلك من اختياره لقصة " ريب فان وينكل " لواشنطن ارفنج، وقصتى " الخطاب المفقود " و " باطية النبيذ الشريشى " لأدجار آلان بو، والضفدعة النطاطة المشهورة " لمارك توين، وهى كنماذج للقصص التى تحمل سمات الموقف والحدث الذى يستغرق الحواس ويغمر النفس بالعاطفة المتقدة، وهى فى نفس الوقت تعبر عن رؤية العقاد تجاه مثل هذا النوع من القص والذى كتب عنه يقول : " فالقصة الصغيرة، أو الحكاية، لا تتسع لرسم شخصية كاملة أو عدة شخصيات كاملة من جميع جوانبها، ولا تتسع كذلك للحوادث الكثيرة ولا للحادثة الواحدة التى لا تتم الا مع التشعب والاستيفاء والاحاطة بأحوال جملة من الناس فى مختلف المواقف والأحوال، ولكنها قد تعطينا لونا من ألوان الشخصية كما تتمثل فى موقف من المواقف، فنفهمها بالايحاء والاستنتاج، وقد تعرض لنا موضعا نفسيا او موضعا اجتماعيا، ينفرد بنظرة عابرة ويؤخذ على حدة، فيدل كما تقدم دلالة الموقف والايحاء
من هنا كانت القصة الصغيرة كما سماها العقاد لونا من الكتابة مناسبا كل المناسبة للادب الأمريكى، منذ أن استقل هذا الأدب بأقلامه، ومواضيعه، وعرف له رسالة قائمة بذاتها غير المحاكاة والتقليد .
فالمواقف أكثر ما تكون فى بلاد الاقاليم والاجناس، وبلاد التاريخ المذكور الذى تلتقى فيه الوقائع الحاضرة بالذكريات القريبة، وتصطبغ فيه هذه الذكريات بصبغة الخبر تارة وصبغة الاسطورة تارة أخرى، على حسب النظرة اليها، وعلى حسب " الزاوية " التى ينظر منها المقيم فى هذا الأقليم أو ذلك الاقليم ، ويقول العقاد محللا قصص هذه المجموعة :
وسيرى القراء فى مجموعة القصص التالية مذاهب المؤلفين فى اختيار المواقف خلال القرن الاخير، فقد كان الموقف وحده لا يكفى لكتابة القصة قبل سبعين أو ثمانين سنة، بل كان من الواجب أن يكون الموقف رائعا أو كافيا لاستغراق الحواس وغمر النفوس بالعاطفة، فلم يزل هذا الموقف يتطور مع الزمن حتى أصبح " الموقف " جديرا بالتسجيل كلما كان فيه موضع للملاحظة القريبة، أو للمقارنة العاجلة، أو للتأمل الذى ينبعث فيه القارئ مع نوازعه وأهوائه، غير متقيد بالكاتب فى نزعته أو هواه، وفى العصر الحاضر أصبح الكتاب من طراز فولكنر أو همنجواى أو شتينبك يكتبون القصة لموقف واحد لا ينتهى الى قارعة، ولا يتبعه الكاتب أو القارئ الى نتيجة مقصودة، فمن مواقف اقاصيصهم موقف رجل يدخل الى بيته فتنبئه زوجته أنها عثرت بخادمة موافقة، فاذا بالخادمة " لا توافق " لان الرجل يعلم بعد ان يراها انها كانت زميلته فى الدراسة، ولا تزال هى وهو يتناديان بالاسماء دون الالقاب . ومن مواقفها موقف مصارع يأتمر به منافسوه ليقتلوه، فيتلقى الخبر ولا يتبعه بعمل، لان حكم الموقف يأبى عليه الهرب كما يأبى عليه ابلاغ ولاة الأمور.. ومن مواقفها موقف شيخ من الجيل الماضى يسئم السامعين المحدثين بأخبار الطواف الى الغرب، ثم التمادى فى الطواف، فلا يطيق المحدثون سماع هذه " الاعاجيب " التى كانت فى يوم من الايام تهز المشاعر وتكفى وحدها للتغريب ثم التغريب من غير قصد الى مكان معلوم، وانما هو كشف آخر من جانب البر بعد الكشوف الاولى من جوانب البحر، ولا محل له من السمر او الكلام بعد ان كشف المحدثون كل بقعة من بقاع الغرب، ونسوا أنه كان غبيا مجهولا قبل جيل، هذه القصص تختار لهذه الدلالة، وتفيد فى اختيارها الى جانب القصص التى سبق اليها المؤلفون قبل جيل واحد، فهى القصة الصغيرة فى معرض الاجيال على حسب اختلاف المواقف والاحوال، ولهذا توضع المجاميع المختارة من الوان الفن وضروب الكتابة، ولعل هذه المجموعة ان تكون لها رسالتها الكافية بين المجاميع " (1) . كان هذا رأى العقاد فى القصة القصيرة أو القصة الصغيرة كما اسماها من خلال مجال الترجمة الذى أسهم فيه بترجمة ألوان مختلفة من القصة فى الأدب الامريكى، واعتقد ان العقاد بترجمته لهذه المجموعة قد أضاف إلى حياته الأدبية كتابا هاما من كتب القصة يضاف إلى روايته الوحيدة فى حياته الأدبية وهى رواية " سارة " وبذلك يكون العقاد قد أسهم بسهم ولو ضئيل فى هذا الجنس الأدبى المراوغ والذى كان للعقاد معه رأى آخر، ولاشك أن آراء العقاد عن القصة والتى ذكرها فى بعض مقالاته عنها تعطينا دلالة عن جانب هام من الجوانب الأدبية فى حياة العقاد، وهو وإن كان قد قدم الشعر عنها إلا إنها كانت تراوده فى أحيان كثيرة ومن جوانب مختلفة، وقد سبق للعقاد أن قدم لقراء العربية قبل ذلك الشاعر والروائى الأنجليزى " توماس هاردى " عندما نشر فى جريدة " البلاغ الأسبوعى " مقالة بعنوان " أزياء القدر " فى 8 أبريل عام 1927 علق فيها على مجموعة وصلت إليه من شعر ونثر توماس هاردى بقوله " : المأساة فيها مأساة الصراع بين الناس وبين قدر لا يقسو ولا يستخف ولا يأمرك ولا ينهاك .. وجهد أمرك أن تسأم ثم أن تسأم السآمة فتعمل، ثم أن تعود إلى السآمة من جديد " أما عن منزلة هاردى فى الرواية فقد قال العقاد إنها " فى الذروة العالية "، إلا إنه عاد وقال : " وللشعر فضل فى بلوغه هذه المكانة العالية فى ميدان الرواية " (2) . كما تساءل العقاد فى أحدى مقالته : " لم لم يمنح هاردى جائزة نوبل وهو على هذه المكانة فى الشعر والرواية، وينقل لنا العقاد ما قاله مؤلف القسم الأدبى من كتاب نوبل " الرجل وجوائزه " : الفكرة التى كانت سائدة بين أكثرية أعضاء اللجنة هى أنه " شديد التشاؤم والاستلام للقدر المقدور على نحو لا يلائم روح الجوائز ومنحاها " (3) .
ولعل الجانب الرؤيوى للعقاد فى القصة القصيرة وهو الجانب الذى يعنينا فى هذا المجال ولم يلتفت إليه الباحثين والنقاد على أهميته، وكانت نظرته إلى القصة القصيرة بإعتبارها فنا بدأ يأخذ مكانته بجانب بقية الأجناس الأدبية الاخرى بل، وبدأ يزاحم الشعر والرواية والمسرحية أيضا فى ساحة الأدب نظرة لها أهميتها فى الجانب الفكرى عند العقاد . فقد كان له آراء لها أهميتها الكبيرة سجلها فى العديد من المقالات حول فن القصة تاريخا وتجديدا وتأصيلا . نذكر منها على سبيل المثال هذه المساجلة التى جرت بينه وبين الكاتب الكبير نجيب محفوظ فى منتصف الأربعينيات حول المفاضلة بين الشعر والقصة، وقد كان العقاد قد ذكر فى كتابه " فى بيتى " من خلال حوار دار بينه وبين أحد مريديه، حول ما تحويه مكتبته من دواوين الشعر بالمقارنة بالكتب المرتبطة بفن القصة والرواية، اعقبها بمقالة حول هذا الموضوع بمجلة الرسالة فى عددها الصادر فى 3 سبتمبر عام 1945 تحت عنوان " الشعر والقصة " معلقا على رأى ساقه الأديب محمد قطب فى أحد أعداد المجلة حول رأيه فى فن القصة، يقول العقاد : " ونحن فضلنا الشعر على القصة فى سياق الكلام عليهما فى كتاب " فى بيتى " فكل ما قلناه إذن هو أن الشعر أنفس من القصة، وأن محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة .
فلا يقال لنا جوابا على ذلك إن القصة لازمة، وإن الشعر لا يغنى عن القصة، وإن التطويل والتمهيد ضرورتان من ضرورات الشرح الذى لا حيلة فيه للرواة والقصاصين .
ويستطيع الأديب الأستاذ محمد قطب أن يقرر كما قرر فى ( الرسالة ) : " أن القصة دراسة نفسية لا غنى عنها فى فهم سرائر النفوس، وليس الشعر أو النقد أو البيان المنثور بمغن عنها، لأنها فى ذاتها أحد العناصر التى يحتاج إليها قارئ الحياة " . ويستطرد العقاد حول هذا الموضوع فيقول : " إننى لم أكتب ما كتبته عن القصة لأبطلها وأحرم الكتابة فيها، أو لأنفى أنها عمل قيم يحسب للأديب إذا جاد فيه .
ولكننى كتبته لأقول " أولا " إننى استزيد من دواوين الشعر، ولا أستزيد من القصص فى الكتب التى أقتنيها، وأقول " ثانية " إن القصة ليست بالعمل الوحيد الذى يحسب للأديب، وإنها ليست بأفضل الثمرات التى تثمرها القريحة الفنية، وإن اتخاذها معرضا للتحليل النفسى او للاصلاح الاجتماعى لا يفرضها ضربة لازب على كل كاتب، ولا يكون قصارى القول فيه إلا كقصارى القول فى الذهب والحديد : الحديد نافع فى المصانع والبيوت، ولكنه لا يشترى بثمن الذهب فى سوق من الأسواق " (4) . وكأنما كانت مقولة العقاد حول القصة هى النار التى انتشرت فى الهشيم فقد أنبرى لها العديد من الأدباء على رأسهم أديب شاب ضرب بسهم وافر فى مجال القصة والرواية هو الكاتب الكبير نجيب محفوظ، وكان فى هذا الوقت لم تصدر له سوى الثلاثية الفرعونية ورواية خان الخليلى، وعدد لا بئس به من القصص القصيرة نشرت فى أعداد المجلة الجديدة التى كان يصدرها سلامه موسى، ورسالة الزيات، وثقافة أحمد أمين ومجلتى التى كان يصدرها أحمد الصاوى محمد .
وقد رد نجيب محفوظ على مقالة العقاد بمقالة فى نفس العدد تحت عنوان " القصة عند العقاد " فند فيه مزاعم العقاد فى انتصاره للشعر على القصة، قال نجيب محفوظ : انظر الى العقاد وقد لاحظ حواريه " فى بيتى " صغر نصيب القصص من مكتبته فأجابه قائلا : " لا اقرأ قصة حيث يسعنى أن اقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول " . فالرجل الذى لا يقرأ قصة حيث يسعه أن يقرأ كتابا أو ديوان شعر ليس بالحكم النزيه الذى يقضى فى قضية القصة . والرجل الذى يلاحظ على مكتبته صغر نصيبها من القصة ينبغى أن تكون القصة آخر ما يرجع إليه فى حكم يتصل بها . بل إنه يفضل النقد – لا الشعر والنثر الفنى وحسب – على القصة . والمعروف أن النقد ميزان لتقويم الفنون، فكيف يفضل على أحدها ؟ ! وهل تنزل القصة هذه المنزلة عند شخص إلا إذا كان لها كارها وعليها حاقدا ؟ ! فحكم العقاد على القصة حكم مزاج وهوى لا حكم نقد وفلسفة . بيد أنى أريد أن أتناسى ذلك . وأريد أن أنظر نقده بعين مجردة ، لأن لكلام العقاد قيمة خاصة عندى، ولو كان مصدره المزاج والهوى " . ويستطرد نجيب محفوظ للدفاع عن فن القصة فيقول : " فالقصة لا ترمى لمغزى يمكن تلخيصه فى بيت من الشعر، ولكنها صوره من الحياة، كل فصل منها يمثل جزءا من الصورة العامة، وكل عبارة تعين على رسم جزء من الجزء، فكل كلمة وكل حركة تشترك فى إحداث نغمة عامة لها دلالتها النفسية والإنسانية، وكل جملة – فى القصة الجيدة – تقرأ وتستعاد قراءتها ولا يغنى عنها شئ من شعر أو نثر، ولا تحسبن التفاصيل فى القصة مجرد ملء فراغ، ولكنها ميزة الرواية حقا على فنون القصة الأخرى وفنون الأدب عامة، وهى لم توجد اعتباطا ولكنها جاءت نتيجة لتطور العصر العلمى العام " . وكما انتصر العقاد للشعر فى مقالته، انتصر نجيب محفوظ للقصة فى رده على هذه المقالة، ويستطرد نجيب محفوظ فى ذلك فيقول " أجل إن القصة لا تزال أعظم انتشارا من الشعر ولكن أكان ذلك لسيئه فيها أم لحسنة ؟ إن الخاصة التى تقرأ الشعر الرفيع وتتذوقه تقرأ القصة الرفيعة وتشغف بها، وإذا كان العقاد لا يقرأ القصة إلا مضطرا فطه حسين والمازنى والحكيم وايزنهاور* يقرءونها بغير اضطرار، ولئن انتشرت القصة فى طبقات أخرى فما ذلك لسيئه بها ولكن لحسنتين معروفتين : سهولة العرض والتشويق . فانتشار القصة الجيدة بين قوم لا يهضمون الشعر الجيد مرده الى أن القصة فى ظاهرها حكاية تروى يستطيع أن يستمتع بها القارئ العادى لسهولتها وتشويقها . وليس بالسهولة من عيب يجرح الذوق السليم، ولا بالتشويق من انحطاط يؤذى الفهم الرفيع وهى بعد ذلك تحوى قيما إنسانية كالشعر الرفيع يتذوق القارئ منها على قدر استعداده . وحسب القصة فخرا أنها يسرت الممتنع من عزيز الفن للافهام جميعا، وأنها جذبت لسماء الجمال قوما لم يستطع الشعر على رسوخ قدمه رفعهم إليها، فهل يكره العقاد ذلك أو أنه يحب كأجداده كهنة طيبة أن يبقى فنه سرا مغلقا إلا على أمثاله من العباقرة !! " (5) .
وعلى الرغم من آراء العقاد التى ساقها نحو القصة والشعر والمفاضلة بينهما، إلا إنه كان يحتفى دائما بنهضة الأدب العربى فى أى مجال من مجالاته شعر أو قصة أو رواية أو نقد وكان يطمح دائما فى أن تتقدم الفنون والآداب وأن تنال نصيبها من الرقى والتسامى والأنتشار، ويرجو لهذه الفنون أن تتجه نحو الأرفع والأنفع للمجتمع ولقراءه من الجنسين حيث أشار إلى : " أن نصيب القصة فى الكتابة المنثورة آخذ فى الازدياد والانتشار، وأن فن القصة بين الآداب العالمية . وفى بعض القصص التى تؤلف فى هذه الفترة نزوع إلى ما يسمى بالأدب المكشوف ترتضيه طائفة من قراء الجنسين، ولا يقابل بالرضى عنه من جمهرة القراء، ثم يلاحظ مع هذا أن الترجمة تنقص فى الربع الثانى وأن التأليف يزداد ويتمكن فى كثير من الأغراض . ولعل مرجع هذا إلى نمو الثقة بالنفس فى الأمم العربية، وإلى ظهور طائفة من الكتاب يستطيعون الكتابة فى موضوعات مختلفة، كانت وقفا على الترجمة قبل ثلاثين أو أربعين سنة " (6) .
وفى مقالاته التى كان يؤصل بها فن القصة، ويؤرخ لجوانبه المختلفة كتب العقاد افتتاحية أحد أعداد القصة التى كانت تصدرها مجلة الهلال فى الأربعينيات، وهو عدد شهر أغسطس عام 1948 تحت عنوان " قصة القصة " يقول العقاد فى هذه الإفتتاحية : " ولدت مع الأسرة، ودرجت مع القبيلة، ونمت فى المجتمع القديم وبلغت أشدها فى المجتمع الحديث، وكان موضوعها أبدا هو أقدم موضوع وأخلد موضوع، شغل به الناس وتشوقوا إلى سماع الحديث فيه .. وهو – أو هى مواضيع – الحب والبطولة وعجائب الأخبار وخفايا الدنيا . ولم يعرف التاريخ قصة أقدم من القصة المصرية، لسبب ظاهر .. هو أن المجتمع المصرى كان أقدم مجتمع عرفه التاريخ، كما كان للشرقيين السبق فى ميدان القصة بعد زوال دولة الفراعنة، فظهرت القصة فى الأسكندرية وسوريا، قبل أن تظهر فى آسيا الصغرى وسائر بلاد الأغريق، وان كان الاغريق عرفوا الملاحم الشعرية قبل ذلك . ولم تزل قصب السبق فى أيدى الشرقيين الى اوائل القرون الوسطى . فاستمع الناس فى مصر وسوريا وفارس إلى الرواية والمحدث، قبل أن تقرأ القصة فى أوربا ببضعة قرون . وبدأت سلسلة ألف ليلة وليلة فى القرن العاشر للميلاد، ولم يؤثر نظير لها فى الغرب قبل القرن الحادى عشر " أحاديث الغرام " للايطالى فرنسسكو بربرينو، ولعله كما يدل عليه أسمه Barbareno من أصل مغربى او من بلاد البربر على الاجمال، وتلاه بوكاشيو باصابيحه العشر " الديكامرون " على نسق الف ليلة، مستبدلا الأصباح بالمساء . ثم انتقلت قصبة السبق فى هذا المضمار من يد الشرق إلى يد الغرب بعد القرن الخامس عشر، ولكنه كان كانتقال الكتاب من يد المعلم إلى يد التلميذ، لأن سرفانتس صاحب دون كيشوت – واكبر قاص فى القرن السادس عشر على الاطلاق – قد عاش زمنا فى افريقيا الشمالية، وردد كثيرا من الامثال العربية فى قصته الكبرى التى نعى بها عهد الفروسية، ولكنه مبتكر من جانب الموضوع أو جانب القدرة على خلق الشخصيات . ويقال أن دانيال ديفو اكبر القصاصين الأنجليز بين القرن السابع عشر والثامن عشر، قد وضع روايته الشائقة عن " روبنسون كروزو " على نسق " حى ابن يقظان " . اما القصة فى طورها الأخير، فهى بحق وليدة المجتمع الاوربى الحديث، ولم يكن من المستطاع ان تظهر قبل ذلك . ففى القرن الثامن عشر ولدت القصة الحديثة، وأصبح القصص فنيا مستقلا عن سائر الفنون، او اصبح موضوعا جديرا بالقراءة لغير التسلية وتزجية الفراغ، لانه اشتمل على الدراسات النفسية والدراسات الاجتماعية والدراسات التاريخية، وتخصص له كتاب مبرزون . وكان للقصة فى نشأتها الاولى من أقدم العصور، كبرياؤها التى تلازم كل شباب، فكانت لا تتنزل إلى الكلام عن أحد من غير زمرة الابطال والامراء، ولا تتنزل الى الحكاية عن حادث غير حوادث العجائب والغرائب، وقلما عنيت بحديث فى الحب إلا أن يكون حبا بين أمير وأميرة، أو بين شموس وأقمار " (7) .
وفى العدد الخاص بالقصة من مجلة الهلال الصادر فى يوليو عام 1949 كتب العقاد مقالة تحت عنوان " القصة والخرافة " يقول فيها : " اسم ( القصة ) عندنا اكرم لهذا الفن من معظم اسمائها فى اللغات الاوربية، ان لم يكن اكرم من جميع اسمائها . فهم يطلقون على الموضوعات القصصية كلمة واحدة هى كلمة " فكشن " أو Fiction باللغة الأنجليزية، مع تصحيف يسير فى نطق الكلمة باللغات الأخرى . ومادة الكلمة فى أصلها لا تدل على شئ غير معنى التلفيق والتزوير، وليس من كاتب فى العصر الحديث يرضى لمؤلفاته ان تنعت بالتلفيق والتزوير، بل لا يرضى لها ان تنعت بمجرد المحاكاة والتقليد، وهما معنى من معانى التزييف فى بعض الاحوال . وعندهم كلمة اخرى تطلق على الرواية وهى كلمة " رومان " Roman منسوبة إلى اللهجات " الرومانية " المستحدثة فى اللغة اللاتينية القديمة فى اقطار اوربا الجنوبية . وقد جرت عادتهم فى تلك الاقطار ان يلفقوا القصص بلهجاتهم المستحدثة، وهى لهجات عامية بالقياس الى اللاتينية الفصحى، ويديرون موضوع القصص فيها على ابطال الفروسية فى عهد اللاتين، وعهد الرومان الأولين، ويملأونها بالغرائب والمبالغات والأمانى الكاذبة التى يطلقون عليها احيانا " بناء القصور فى الهواء " . وقد صنعنا نحن فى العربية مثل ذلك حين الفنا بالعامية أقاصيص الاغراب والاعجاب بابطال العرب الأقدمين، كالزير سالم، وسيف بن ذى يزن، وعنترة العبسى، وغيرهم ممن غبروا قبل ظهور اللهجات العامية . والقصة بهذا الاعتبار طبقة لا تتجاوز فى القيمة الفنية طبقة هذه الملاحم التى يرويها شعراء القهوات البلدية لمن هم فى الغالب أميون لا يكتبون ولا يقرأون . وأصح كلمة عربية لترجمة " الفكشن " و " الرومان " بمعناهما هذا هى كلمة الخرافة " . أما اسم " القصة " بالعربية، فهو على خلاف ما يسبق على الخاطر، يفيد معنى غير معنى التوهم وخلق الحوادث على سبيل المحاكاة، أو الحكاية ! . ومعناه مأخوذ من قص الأثر . لأن الذى يقص الأثر يتتبع اخبار القوم ويعرف مذهبهم فى الأرض ومقامهم فيها . فهى مادة بحث وتحقيق، وليست مادة توهم وتلفيق . ومن ثم كان " القاص " عند العرب هو من يأتى بالقصة على وجهها، كأنه يتتبع معانيها، او كأنه يتتبع " قاص الأثر " انباء القوم فى عالم المكان .
وفى القرآن الكريم عن أم موسى عليه السلام حين فقدته : " وقالت لأخته قصيه " . أى أبحثى عنه . فالقص من هذه المادة هو المعرفة الصحيحة عن بحث وهداية، وليس هو التوهم والتخيل للتلفيق والاختلاق .
وقد شارك العقاد فى العديد من الندوات المرتبطة بالقصة ولعل الندوة التى عقدتها دارالهلال ونشرت بالعدد الخاص بالقصة فى يوليو 1949 وكان موضوعها أثر السينما والأذاعة فى القصة كانت نموذجا حيا لهذه الندوات التى تتناول القصة فى ذلك الوقت، وقد شارك فيها كل من الدكتور محمد حسين هيكل باشا والأستاذ عباس محمود العقاد والاستاذ محمود تيمور بك والأستاذ توفيق الحكيم والأستاذ طاهر الطناحى . وقد تحدث العقاد حول " حديث عيسى بن هشام " وأشار إلى أنها مقامة مطولة نسج فيها المويلحى على منوال مقامات الحريرى والهمذانى، ويبدو أن عنايته فيها كانت موجهة إلى اللغة أكثر منها إلى الاسلوب القصصى . على أن جانب القصة فيها يمكن أن يعد أساسا للمحاولات التى تلت ذلك، كما يمكن أن يعد من هذا القبيل أمثال " أم القرى " و " طبائع الاستبداد " للكواكبى ، وقصة " سابور " لشوقى . كما عرج العقاد للحديث عن الحوار العامى فى القصة حيث قال : " ولعل اقدام هيكل باشا على اجراء الحديث فى قصة " زينب " باللغة العامية كان متابعة للأستاذ لطفى السيد باشا واستجابة لما كان يدعو اليه من ذلك فى " الجريدة " . وأشار العقاد إلى المقالة التى كتبها أحمد لطفى السيد حول الكتابة باللهجة العامية تحت عنوان " اللغة العامية ما لها ؟ إذا كتبناها زى ما هى ، يجرى ايه ؟! " . وقال العقاد أيضا ردا على تعليق لتوفيق الحكيم حول اتجاهات القصة العربية حيث قال : " اعتقد ان القصة يمكن أن تقسم إلى قسمين : اجتماعى، وانسانى، ففى القسم الأول يكون ابطال القصة ممثلين للمجتمع الذى يعيشون فيه . وفى القسم الثانى يكون ابطالها صورا عامة شائعة للمشاعر الانسانية فى كل زمان وكل مكان . وعندى ان القصص الانسانية مثل " هاملت " وغيرها من قصص شاكسبير، وقصة " أهل الكهف " للأستاذ توفيق الحكيم اكبر نفعا وابقى أثرا . وفى الاستطاعة ترجمتها الى جميع اللغات، وان تقبل عليها وتفيد منها مختلف الطبقات . كما علق العقاد على رأى الدكتور حسين هيكل حول رأيه فى أنه لا خوف على القصة من الأذاعة والسينما . يقول العقاد : " إن القصص الفنية التى تقوم على التحليل النفسى وتصور مختلف ألوان التفكير والعواطف البشرية، لن تضيرها السينما والاذاعة شيئا . وانى لأوثر ان اقرأ قصة لكرامازوف او تولستوى على أن اشاهدها فى السينما . اما القصص الشعبية و " الحواديت " الموضوعة للتسلية ففى ميدان تلخيصها والاقتباس منها متسع للسينما والاذاعة والصحافة، كما هو مشاهد الآن . ولعل بعض هذه القصص يزداد الاستمتاع بها اذا شوهدت فى السينما او سمعت فى الاذاعة . كما أشار العقاد ايضا حول كتابنا وكتاب الغرب بقوله : " لعل الفرق بين الشرق والغرب فى انتاج القصة يرجع اكثره الى توافر اسباب النشر والرواج فى الغرب نظرا لتقدم الطباعة وكثرة القراء . ومما يذكر انه ظهرت هناك قصة فى سبعة مجلدات عن أحداث العالم . أما كتاب القصة عندهم وعندنا فليس ثمة فارق كبير بينهم (8) .
وقد اشترك العقاد فى تحكيم العديد من مسابقات القصة ولعل المسابقة التى اقامتها دار الهلال للقصة القصيرة فى نهاية الأربعينيات وظهرت نتيجة المسابقة فى العدد الخاص بالقصة فى أغسطس 1948 تعتبر نموذجا لهذه المسابقات التى كان الغرض منها البحث عن اقلام جديدة ومواهب شابة تدفع بدماء جديدة فى مجال القصة القصيرة، وكانت شروط المسابقة هى أن تكون القصة شرقية عربية تدور حول الوطنية والبسالة ولا يزيد عدد كلماتها عن 1500 كلمة، وقد اشترك فى هذه المسابقة 275 كاتبا، وتكونت لجنة التحكيم من : الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور طه حسين والسيدة أمينة السعيد ومحمود تيمور بك والسيدة بنت الشاطئ والدكتور أحمد زكى بك والاستاذ طاهر الطناحى، وقد فاز بالجائزة الاولى فى هذه المسابقة الأديب محمد عبد الحليم عبد الله عن قصته " ابن العمدة " وكانت قيمة الجائزة خمسون جنيها، وفاز بالجائزة الثانية الأديب سليم اللوزى عن قصته " البطل " وكانت قيمة الجائزة ثلاثون جنيها (9) .
لعلنا فى هذه الأطلال الخاصة بعلاقة العقاد بفن القصة، نكون قد دخلنا إلى منطقة لم يطرقها أحد من الباحثين قبل ذلك من التاريخ الأدبى للعقاد، وهو التاريخ المضئ المتوهج فى كافة مجالات الفكر والإبداع، وإن كانت القصة لم تحظ منه إلا بالقليل، إلا أن هذا القليل كان علامة مضيئة فى الساحة الإبداعية فى تاريخ الأدب العربى الحديث، حيث كانت روايته " سارة " والمجموعة المترجمة من الأدب القصصى الأمريكى وآراؤه حول فن القصة وما قدمه للأدب فى هذا المجال هو خلاصة فكر العقاد وبصماته القوية العملاقة فى النهضة الأدبية التى ظهرت بعد ذلك، ومهدت الطريق إلى أجيال جديدة جاءت من بعده أثرت فن القصة والرواية الحديثة بأعمال توجت بعد ذلك بحصول الرواية العربية متمثلة فى شخص اديبنا الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب .
الهوامش
القصة الصغيرة ، عباس محمود العقاد ، مجلة الشهر ، القاهرة ، ابريل 1959
هاردى والعقاد ، د . سليمان محمد أحمد ، الآداب الأجنبية ، دمشق ، ع 50/51 ، شتاء/ربيع 1987 ص 118
نفس المصدر ص 119
الشعر والقصة ، عباس محمود العقاد ، الرسالة ، القاهرة ، ع 635 ، 3/9/1945 ص 939
نشرت هذه المقالة فى سبتمبر عام 1945 أى بعد أنتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة وكان أيزنهاور وقتئذ القائد الأعلى لقوات الحلفاء المنتصرة فى الحرب، لذا كان التمثيل باسمه من السمات التى تعطى للموضوع أهمية خاصة .
القصة عند العقاد ، نجيب محفوظ ، الرسالة ، ع 635 ، 3/9/1945 ص 952
الاتجاهات الحديثة فى الأدب العربى ، عباس محمود العقاد ، الرسالة ، القاهرة ، ع 606 ، 12/2/1945 ص 137
قصة القصة ، عباس محمود العقاد ، الهلال ، القاهرة ، ج 8 المجلد 56 ، أغسطس 1948 ص 3
أثر السينما والاذاعة فى القصة ( ندوة الهلال ) ، اشترك فى الندوة كل من الدكتور محمد حسين هيكل – الأستاذ عباس محمود العقاد – الاستاذ محمود تيمور بك – الاستاذ توفيق الحكيم ، الهلال ، القاهرة ، ج 7 ، المجلد 57 ، يوليو 1949 ص 110
مسابقة القصة ، الهلال ، القاهرة ، ج 7 ، المجلد 57 ، يوليو 1949 ص 122
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق