الجمعة، 4 يوليو 2014

عام على رحيل محمود درويش







                                                                                     محمد الغزي
الآن، وبعد مرور سنةٍ على رحيل محمود درويش أعودُ إلى ديوانِهِ أقرؤهُ غير عابئٍ بِكُلِّ مَا قَالَهُ النُقَّادُ، أتَأمَّلُهُ دونَ وَسَائطَ، أعْقِدُ حِوَارًا مَعَهُ، أصْغِي إلى نِدَاءَاتِهِ الكثيرة...ألْحَظُ، أوّل مَا ألْحَظُ، أنَّ هَذَا الدّيوان كان ، في الواقع، دواوين كثيرة...يخْتَلِفُ بعْضُهَا عن بعْضٍ لُغَةً وَصُورًا وطرائقَ بنَاءٍ. لكأنّ درويش شعراء كثيرُونَ، كُلّ شاعرٍ من هؤلاءِ الشعراء يَنْتَمِي إلى زمنٍ شعريّ خَاصٍّ. فَدَرويش ظَلَّ،كما أشَرْتُ في دراسَةٍ سابقةٍ يسيرُ مَاحِيًا آثارَ خُطاهُ، ما يكتُبُهُ يَعُودُ عليه فيشطُبُهُ، ومَا يؤسّسُهُ يَرْجِعُ عليْهِ فَيُقوّضُهُ. فالكتابةُ عِنْدَهُ خرُوجٌ مستمِّرٌ من الأمَاكِنِ المأهُولة ودُخُولٌ دائِمٌ في الرّبوعِ الخاليةِ. لاشَيْءَ ثابِتٌ في قَصَائدهِ، كُلّ شَيْءٍ فيها إلى تحوّلٍ وتغيّرٍ مستمّرين. لذَا وَجَبَ عَلى القارئ أن يتَدَبّر النّتائج التي استصفاهَا مِنْ ديوانِهِ يُرَاجعها، ويعيد تقويمها.
لكنّ هذهِ القصَائِد تَبْقَى عَلَى اختلاف مَرَاحِلها، وتعدّد أسَاليبها تَهْجِسُ بسؤالٍ واحِدٍ هُوَ سؤال الكتابةِ. الكتابة من حَيْث هِيَ نُشْدَانٌ للمَعْنَى، وبَحْثٌ مُمِضٌّ من أجْل الظّفرِ بِهِ. لا شيْءَ يُسَوّغُ فِعْل الكتابة عِنْد درويش غير ذلك النّشْدَان، وهَذَا البحْث. ولعَلَّ هذه القُدْرة العجيبة عَلَى الاستمْرَار في تَعَقّبِ المَعْنَى وملاحقته هِي التي قَادت الشاعرِ إلَى ذُرًى تعبيريّة جديدَة.
اكتُبْ تَكُنْ.
بِهَذه النّبرةِ النبوئيّة يُخَاطِبُ درويش نَفْسَهُ. فالشّاعِرُ هُوَ سليل اللّغة مِنْهَا ينحدِرُ وإليْهَا يَعُودُ. فَعَلاقَتًهُ بِهَا ليْسَتْ عَلاَقة ذَاتٍ بموْضوع وإنَّمَا هِيَ عَلاَقةٌ رحميّة فيها تَتَضَايفُ المعرفة بالوُجودِ
من لُغَتِي ولدْتُ...
أنا لُغتِي
بالشّعْرِ يكونُ الشّاعِرُ، وبالشّعْرِ أيْضًا يكونُ العَالم، وتَكُونُ الأشياء.فالرّغْبَةُ فِي الكتابة تَنْطوي دَائمًا عَلَى شَهْوَةٍ عَارمةٍ فِي إعَادَةِ تَنْظِيم العَالمِ، وفي إعَادَةِ تشكيلهِ أيْ في إعَادَةِ صيَاغتِهِ وخَلْقِهِ وابتكاره. وربّمَا لوّحت اللّغةُ العربيّة إلى هذه الدّلالة مِنْ خِلاَل الاسم الآخر للشّعْرِ وَهْوَ النّظْم، ولكنَّ هَذَا المصطلح، كَمَا لاحَظَ بَعْضُ النُقّادِ أفْرَغَتْهُ البلاغةُ التقليديّة مِنْ مُحْتَوَاه العميق وجعلتْهُ رديفَ الصنَاعَةِ وقرينَهَا.
فالشاعِرُ، كلّ شاعرٍ يَرَى إلى العَالم سديمًا لا نِظامَ فِيه وَلاَ تَسَلْسُلَ فَيَسْعَى عَنْ طريق اللّغةِ إلى إعَادَةِ تَرْكيبِه قَصْدَ الانتصار على فَوْضَاه.
وتتجَلَّى هذهِ الدّلالة أقْوَى مَا تتجَلَّى في قصائِدِ الشّاعِرِ الأخيرة. هذه القصَائد التي أفصَحَتْ عَمَّا ظَلَّ في المجاميع السَّابقة مُضْمَرًا خفيًّا.
إنّ الشّعْرَ في هذه القصَائدِ لاَ يُخْبِرُ عن العَالم وإنّمَا يَخْتَبِرُهُ، يَكْشِفُ عَنْهُ. فوظيفةُ الشّعْر، فِي هذه القصائدِ تَتَمثَّلُ فِي إحْكَامِ قَبْضةِ اللّغةِ عَلَى الوُجُودِ، في احتوائِهِ وامتلاكِهِ.
لقد اختَفَتْ فِي هَذِهِ القصائد أطْيَافُ الرؤيا الرومنطيقيّة التي تحكَّمَتْ في مجاميع الشاعِرِ الأولى ووَجّهَتْ صُورَها ومجمل رُموزها ومِنْ خَصَائصِ هذهِ الرؤيا أنّها تَعْتًبِرُ الشّاعِرَ إنْسَانًا مَخْصُوصًا برسَالةٍ يَمْضِي مُبَشِّرًا بنبوءتِهِ، مَفْتُونًا بالموت يتَوّجُ تََمَرُّدَهُ وَقَامَتْ مَقَامَهَا رسَالةٌ أخْرَى تَقُول«انّهُ لا يُمْكِنُ الانتصَارُ على الموت أو تجَاهل نداء الحياة»
كُلّ مَا يحيطُ بالشّاعِر يَرْشَحُ بِمَعَانِي المَوْتِ لكنَّ الشَاعِرَ يَسْتَنْفِرُ كُلّ طاقاتِ اللّغةِ ليُوَاجِهَ هَذَا الموتَ بأكثر مِنْ حَيَاةٍ أَيْ بأكْثَرَ من قَصيدَةٍ.
هَذَا الإحسَاس القوّيُّ بالموْتِ يلتَهِمُ كُلّ الأشيَاءِ لمْ تُرافقْهُ في قصائد درويش نبرة نُدْبٍ وتفجّع. ففِعْلُ الكتابةِ، في جَوْهرهِ، استدراكٌ على البِلى والزوال، شَهَادَةٌ على الشّعر يُقَاوِمُ الزَّمَنِ، يُمْسِكُه من قَرْنَيْهِ ويُمْعِنُ في مُنازَلَتِه هكذَا تُصْبِحُ القصيدة الدّرعَ الباقية يَحْملها الشاعِر في وجْهِ الموتِ، تصبحُ حجّتَهُ الأخيرة على إمْكَانِ البقاءِ، عَلَى إمْكَان المُقَاومَةِ.

نشر في الشمس الثقافي الليبية

ليست هناك تعليقات: