الخميس، 10 يوليو 2014

سامحنا يااااااااااا قسومة


غسيل محلي قابل للنشر.. حول مؤتمر الأدباء والكتّاب العرب المنعقد في بلادنا / ابوالقاسم المزداوي


                                                                                                                                                           ابوالقاسم المزداوي/
14/10/2009

لابد  لي من توخي الحذر أولاً فيما أود قوله حول ما يطبخ هذه
 الأيام في كواليس رابطة الأدباء والكتّاب من وجبات نتمناها أن 
تكون شهية، ولو بالنسبة للضيوف الأعزاء من الأدباء والكتّاب 
العرب الذين سيحضرون المؤتمر القادم بمدينة سرت بعيداّ عن 
وجع الدماغ بخمسمائة ك م، والذين هم بدورهم لن يتعبوا 
أنفسهم كما اعتادوا  حتى بالسؤال عن وضع الرابطة وسبب 
مقاطعة  الأدباء والكتّاب الليبيين لمؤتمرهم العام والمنعقد على 
أرضهم، رغم أن أغلب هؤلاء له علاقة وطيدة بعدد كبير من 
الكتّاب الليبيين بل وتربطه علاقة جيدة بهم، ما يجعلهم يسألون 
عنهم ويتفقدون أحوالهم فقط  خارج قاعة المؤتمر وذلك 
بالاتصال بالهاتف أثناء فترة الاستراحة بقصد رفع العتب ليس 
إلا، وهو ما يثير الاستغراب من مثل هذه المواقف السلبية 
المتكررة . 

ولذلك وبناءً عليه فإن الإخوة القائمين والمشرفين على هذا 
المؤتمر سيتعمدون عملية التعتيم عن هذا الموضوع بل وتحاشي 

الحديث عنه بأي وسيلة ممكنه، وإذا لزم الأمر فهناك من هو 
مستعد من ( الزمزاكة) بالتطوع بحزمة من الأكاذيب وربطة من 
التلفيق والمناورات بحثاً عن مبررات يمكنها أن تُسِكت الضيوف 
( ليس بالضرورة إقناعهم ) كي يمر الموضوع بسلام كما مر في 
المناسبات الماضية في مؤتمر الخرطوم وكذلك مؤتمر سرت 
مثلاً، واللذين عاد منهما بعض هؤلاء المشاغبين من الكتّاب 
العرب وهم قلة ببعض الشكوك حول ما يجري بالضبط في رابطة 
الأدباء والكتّاب الليبيين دون محاولة التأكد أو البحث عن حل 
بطرح الموضوع للنقاش علانية لأن الغالبية منهم عمل وفق 
المثل الليبي القائل (املأ البطينة تستحي العوينة) وعليه فلابد 
لهم من الكف عن الأسئلة حول هذا الموضوع إذا  أرادوا الهدنة 
التي تعني توجيه الدعوة لهم في مناسبات قادمة، مع التكفل بدفع 
مصاريف السفر والإقامة وهذا أقصى ما يطمح إليه البعض من 
هؤلاء الكتّاب خصوصا لو كان هناك مصروف جيب أيضاً 
وبالدولار أو باليورو!!!

أما ما يجري في الداخل بخصوص هذا المؤتمر فان الأغرب من 
ذلك أن الإعلام الليبي لا يعرف عما يجري خلف الكواليس سوى 
الإعلان المتواضع الذي نُشِر من مدة عن هذا المؤتمر ومازالت 
تتناقله وسائل الإعلام العربية كما هو، أما الأدهى والأمرّ في هذه 
الحالة أن  الأخت أمينة الشؤون الإدارية  للرابطة في طرابلس لا 
تدري بكل ما يجري في سرت ولو من باب العلم، وهذا ما ذكرته 
لمصدر موثوق  وبعظمة لسانها وهذا أغرب من الخيال  
باعتبارها هي المسئولة الأولى والأخيرة عن الميزانية، وما 
يدخل للخزينة وما يخرج منها وفق السياق الوظيفي خصوصا 
وأن الرابطة تستعد لهذا الحدث العربي الكبير الذي يتطلب 
استعدادات وأموالاً ليست بالقليلة والتي لابد وأن تكون السبب في 
هذا التكتم وهذه القطيعة بين أعضاء أمانة الرابطة، لأن الكعكة 
مهما كبر حجمها لا تتحمل كثرة السكاكين خصوصاً إذا كان 
الجوع قد استبد بالبطون وبالتالي أعمى العيون وأجهز عما تبقى 
من البصر والبصيرة .

هذا ما يجري على مستوى  القمة بالنسبة للرابطة أما على 
مستوى القاعدة فإن (مهمة) في الشهر إلى أي بلد تكفي 
لسكوتهم لأن المقصود هو قرار الإيفاد وبعض المستحقات وما 
يملأ سطور المقالة الأسبوعية المليئة بما لذ وطاب من الموائد و
(الزرايد) وبعض المشاهدات الجميلة من رقصات وعادات 
وتقاليد في جيبوتي مثلاً أو حتى في موريتانيا .

أما فيما يتعلق بالمناشط الأدبية أو مجلة الفصول الأربعة، وما 
يجري من أحداث وحوادث على مستوى الثقافة والفنون فإن 
نظرية ( الراعي ربي) هي الأقرب للتطبيق، اتكاءً على أن  
التأجيل المتواصل للتصعيد وغياب الحسيب والرقيب وفقدان 
الأمل في إحياء القضية المرفوعة ضد أمانة مؤتمر الشعب العام 
المتعلقة بعدم شرعية تصعيد أعضاء الأمانة الحاليين وقديماً قال 
أجدادنا (الرزق السايب يعلم....أشياءً عديدة) .

من هذا المنطلق  لا أجد ما أقوله لأعضاء الأمانة  الحاليين سوى 
كلمة طريفة غالبا ما نرددها في حالة اليأس: هيا ... زيطوا فيها ....... 

الكاتب الليبى فتحى نصيب /أنا أعشق اللغة العربية، مفرداتها وظلالها وجمالياتها


                                                             حاوره / عذاب الركابي
بدأ حياتهُ الأدبيّة قاصّا، وتميز منذ البداية بلغته، وتقنيته القصصية وموضوعاتهِ المنتقاة بذكاء من الواقع.. وهو ناقدٌ أيضا يربض فى إيقاع الكلمة.. يُصغى لفعلها الإنسانيّ، ويجد ُ فى دويّها وصخبها نافذة مطر وريحان للدخول فى عوالمها المختلفة.. والجميلة!فتحى نصيب.. يكتب لأنّه يجدُ لذة فى الكتابة..، ويكتبُ ليحاور -بكلّ شفافية- الأشياءَ التى تحيط به.. لا تملك إلا أنْ تبارك قريحته.. وتحترم جنون أصابعه التى تعد بالكثير من الإبداعات الجديدة والمثيرة!فى هذا الحوار الدافىء، يُدافع عن الكلمةِ النزيهة.. المعافة تماما من فيروس الرياء والإطراء..، ويُراهنُ على فعلِها وهى تغير وتوقظ تارة، وتارة أخرى تشعل - بأسئلتها الضرورية- الحرائق..!واقعنا العربيّ سرياليّ بامتياز* فتحى نصيب، كاتب وناقد وصحفى ومحاور جيد، ما جدوى الكتابة فى زمن ترتفع فيه لغة وأصوات الجرافات والقاذفات فى مدننا العربية؟ -أقول وبكل مرارة أننا نعيش عالماً لا واقعياً، يعجز حتى كتاب الواقعية السحرية فى أمريكا اللاتينية عن تخيله أو تصوره. واقعنا العربى "سريالي" بامتياز؛ فعلى الصعيد العربى – العربى غابت لغة الحوار سياسيا وثقافيا، ولم يعد العربى يسمع أخاه، داخل البلد الواحد وبين قطر وآخر. وعلى الصعيد العربى – الخارجي، انقسم العرب بين تابع للهيمنة بكل أبعادها وبين رافض لها. والنتيجة العملية ما يحدث فى فلسطين والعراق وغيرهم ينتظر دوره على القائمة.لقد تساءل "سارتر" يوما عن جدوى الكتابة فى عالم يتضور جوعاً، وأضيف ما جدوى الكتابة فى واقع يرتفع فيه أزيز الطائرات ولعلعة الرصاص وتنتشر فيه الأمية الأبجدية والثقافية ويشيخ فيه الأطفال قبل سن الرشد؟ إن العالم من حولنا فى آسيا وأمريكا اللاتينية يشد الرحال نحو مصاف الدول المتقدمة ونحن من محيطنا إلى خليجنا نتراجع بانتظام وإصرار غريب نحو الخلف؟ هل تعلم أن جزيرة "مالديف" سوف تصنف فى عام 2012 من ضمن الدول المتقدمة؟ لم تعد دول آسيا كما كانت، ففى خلال مدة وجيزة أصبحت من "النمور"، وكذلك الحال فيما كانت تسمى "بجمهوريات الموز" أو حديقة أمريكا الخلفية. واقعنا بائس، ولا استغرب إذا استمر المنوال على ما هو عليه أن نوضع إلى جانب الديناصورات المنقرضة فى متاحف العالم.المثقف – المبدع ُ صانعُ ضمير الأمّة* هل يمكن أن نسمى هذا العصر.. عصر الهزال الثقافي؟ لماذا صارت الثقافة هزيلة وإعلانية وشكلية؟ ما أسباب هذا الهزال؟ أين الثقافة التى كانت تفعل فعل الرغيف والطعنة والرصاصة؟- أولاً إجابتى السابقة تحمل إجابة عن سؤالك، وثانياً أنا ضد تضخيم دور الثقافة والمثقف، فإذا كانت الكلمة رصاصة كما تقول فإن ذلك يستدعى أن تستخدم الرصاصة لقمع الكلمة، وأنا ضد لغة الرصاص بأى حال من الأحوال.وثالثاً أن الكاتب أو الفنان مثل الطبيب والمهندس والعامل، أى أنه ينتج سلعة ثقافية مثل غيره من المنتجين، الاختلاف فى الأداة فقط، كأن تكون اللغة أو الألوان أو الأصوات.. بمعنى آخر أنا –شخصيا- لا أعرف ولم أسمع عن رواية أطاحت بنظام سياسي، أو قصيدة دفعت بلداً إلى اتباع سياسة رأسمالية أو اشتراكية، أو مسرحية حققت توزيعاً عادلاً فى الثروة.. إن هذه التغيرات تحتاج إلى عشرات الشروط التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، بعضها داخلى وبعضها إقليمى أو خارجي.. هناك تضخيم مبالغ فيه من قبل المثقفين أنفسهم وكذلك من قبل بعض الأنظمة لما يسمى بشريحة المثقفين ودورهم فى قيادة المجتمعات.إن المثقف – المبدع من وجهة نظرى هو أحد صناع ضمير الأمة ولكنه ليس الأول وليس دوره هو المؤثر الوحيد.أما فيما يتعلق بما أسميته "بعصر الهزال الثقافي" فأنا اتفق معك، فلم يعد أحد يقرأ كالسابق ولم يعد أحد يرتاد المسرح الراقى كما فى الماضي، وربما يعون "هزال الثقافة" إلى جرأة البعض على اقتحام عالم الفكر والثقافة دون أن يمتلك الأدوات الحقيقية، فأصبحنا نقرأ ونسمع سخافات -فى القصة والشعر والرواية والمسرح الخ..- ليس لها علاقة بالأدب والفكر، إن الكتاب -أو المسرحية أو الفلم- الجيد الذى يمنحنى متعة ويثير فيّ تساؤلات ويحفزنى على إعادة النظر فى الحياة ويثير بداخلى أسئلة عن الواقع المعاش ويمنحنى القدرة على الحلم. غير متوفر فى معظم الإنتاج الأدبى والفنى السائد الآن.* تكتب القصة القصيرة بجمال وشفافية، وبينك وبين كلماتك وقصصك يلاحظ القارئ مودة كبيرة، هل تعيش قصصك؟ أم أنها تكون جاهزة –كما يعبر ماركيز- فى ذهنك ومختمرة فى رأسك؟- سؤالك ملتبس وغامض، وسأجيب عنه كما أفهمه، صحيح أننى كغيرى من كتاب القصة أو الشعر أعيش لحظات شفافة أثناء الكتابة وهناك ما أسميته بالمودة مع الكلمة، أو لنقل مع اللغة، أنا أعشق اللغة العربية، مفرداتها وظلالها وجمالياتها.. أقرأ بالإنجليزية والفرنسية ولكن متعتى الحقيقية هى القراءة بالعربية والكتابة بها.. أحاول فى كتابتى للقصة أن أقدم متعة للقارئ من خلال اختيار المفردة والصورة والفكرة.. أنا لا أميل إلى المحسنات البديعية المعروفة فى لغتنا، وأسعى إلى إنجاز جماليات أخرى لا تعتمد فقط على الجناس أو الكناية أو الاستعارة فقد يأتى الجمال من خلال تجاور كلمتين، أو من خلال استخدام مفردة تحمل أكثر من معنى، إن أسلوبى المفضل يكمن فى استخدام لغة تبدو –ظاهريا- بسيطة ومباشرة، ولكنها –فى العمق- تحيل إلى لغة أخرى وفكرة خفية، وقد يجد القارئ متعة فى استبطان ما هو خفي، إنها لعبة الخفاء والتجلى إن شئت.وفيما يتعلق بالشق الثانى من السؤال، لا أعتقد أن أى كاتب توجد لديه فكرة جاهزة وناجزة، من الصعب معرفة "كيمياء" الكتابة، وأنت شاعر وتفهم ذلك، وما أود قوله هو أن الكاتب تظهر لديه فكرة أثناء قراءة كتاب ما أو من خلال مشاهدة "فلم" سينمائى أو لقطة عابرة فى الحياة اليومية، الفرق هنا بين الكاتب وغيره من الأفراد، إن الكاتب يملك إمكانية تحويل الجملة أو الصورة التى لاحظها إلى عمل فني، فهو يختار من بين عشرات الأفكار والصور، لقطة واحدة يعتقد أنها تمتلك قوة أو طاقة تحول إلى عمل فني، ثم تبدأ عملية اختيار الأسلوب الأمثل لصياغتها، وبعدها يشرع فى الكتابة، وتأتى أخيراً مرحلة التنقيح والحذف والإضافة الخ..وبالمناسبة فإننى أحب "ماركيز" وقرأت معظم ما كتب، وهو لا يقول بوجود الفكرة الجاهزة فى الذهن بل إنه يبدأ الكتابة من خلال صورة يراها ومن ثم تحفزه على الكتابة منطلقا منها، ولعلك تقصد أنه قال أن "مائة عام من العزلة" ظلت فى ذهنه لأكثر من خمسة عشر عاماً، هذا صحيح، ولكنه كان مشغولاً بأعمال أخرى ككتابة سيناريوهات الأفلام كى يعيش من دخلها، وحين سنح له الوقت شرع فى كتابة "مائة عام.."، وإذا قرأت الرواية تشعر أنه بدأ من خلال تصور مدينة "ماكوندو" ولخص من خلالها تجربة أمريكا اللاتينية فى محاربة الفقر والاستبداد من خلال تراكم التجارب التى مرت بها هذه الشعوب وخاصة "كولومبيا".هناك فرق بين وجود فكرة جاهزة مسبقاً وبين التأثر بالواقع اليومى والمعاش ثم التعبير عنه فنياً وأدبياً، وأعتقد أنك تقصد هذا المعنى.الفنّ هو تحويل الوهمِ إلى واقع* هل أجابت قصصك على أسئلتك، بل أسئلة من تعيش معهم؟ أليست الكلمة منجم أسئلة؟ قل كيف تصف للقارئ علاقتك بالحرف، بالكلمة؟- القصة عندى تساؤل، ويعتمد نجاح القصة على نقل هذا التساؤل للقارئ، فإذا جعلته يعيد قراءة نصي، أو إذا جعلته يفكر ويتساءل فور قراءة القصة فإننى أعتبر نفسى ناجحاً قصصياً. وهذا ما أحاوله وأسعى إليه، والذين قرؤوا لى قالوا أننى قد أثرت فيهم فكرة أو تساؤلاً ما.اللعبة الفنية –كما أتصورها- تكمن فى أن أقدم قصة تبدو وكأنها حدثت بالفعل، فى حين أن كل قصصى هى نتاج المخيلة، الفن هو تحويل "الوهم" إلى "واقع". صحيح أنه لا أحد تقريباً ينطلق من لاشيء، إلا أن المعادلة هى كالآتي: واقع معاش أو تجربة حياتية –وهم أو خيال- واقع فني.ما أسعى إليه هو تصعيد لحظة عابرة –يراها العشرات غيرى غير ذات أهمية- إلى صورة جمالية وكأنها حدثت كواقعة حقيقية. وبالمناسبة أقول لك أن الكثيرين من الأصدقاء حين يقرؤون قصصى يقولون لي: أن هذه حكايات حدثت وأنت نقلتها لنا كما هي، فى البداية كنت أغضب أو أحزن ولكن بعد تأمل طويل اكتشفت أننى قد نجحت فى كتابة قصة جيدة، أى وصلت إلى تلك النقطة التى يعتقد معها القارئ أنه يقرأ حادثة حقيقية، أى وقعت بالفعل، فى حين أنها من خيالى ولم تحدث قط، وهذا يعنى أن القارئ اقتنع تماماً بواقعية ما قرأ، أى أنه صدق الوهم الذى رويته له، وإذا طالعت الأعمال الفنية الكبرى "كالأخوة كرامازوف" أو "هاملت" أو "مائة عام من العزلة" أو "العطر" أو "اسمى أحمر"، تكتشف أنك تقرأ عن أماكن وشخصيات وأحداث حقيقية، أو أنها أكثر واقعية من الواقع المعاش، فى حين أن كتاب هذه الأعمال كتبوا من خلال الخيال ونسج الوهم ورواية اللاواقع وسرد اللامرئى وحكى غير المتعين.إنها لعبة تشبه المرايا المتعددة التى توجد فى "السيرك"، حيث ترى صورتك منعكسة فى عشرات المرايا، وكلما أردت الخروج تكتشف أنك اصطدمت بصورتك فتعيد البحث من جديد وقد لا تخرج إلا بصعوبة كما حدث لى فى إحدى المرات، فما تعتقده حقيقياً يتجلى من سراب وهكذا..لايوجد نقاد حقيقيون عندّنا.* هل أنصفك النقد؟ كيف تنظر إلى من ينتقد قصصك سلباً أم إيجاباً؟- إذا كنت تقصد من ينتقدنى فهذا يحيل إلى معنى سلبى بالتأكيد لأن هناك فرق بين النقد والانتقاد. وإذا قصدت النقد أقول لك بصراحة: لقد أنصفنى النقاد العرب، فقد كتب عنى نقد فى مصر والعراق والجزائر وفرنسا، وأذكر على سبيل المثال أن الناقدة العراقية "لطيفة الدليمي" قرأتنى نقدياً وأشادت بأعمالى المبكرة.أقول لك ما قلته فى لقاء سابق لى مع صحيفة مصرية: أن قطار الإبداع الليبى يسير بقوة الطاقة الكهربائية، فى حين أن "النقد" يسير بالطاقة البخارية، عندنا أسماء كبيرة ومهمة قصصياً وشعرياً وروائياً من جيل السبعينات وما بعدها ولكن –وبكل صدق- لا يوجد من حاول قراءتهم نقدياً، من جهتى كتبت نقداً عن هؤلاء المبدعين ولكن نحن نحتاج إلى صحوة من مثقفينا وكتابنا لكى يقرؤوا الأدب الليبى بحب وليس بدافع الحسابات والمحسوبية، وأعتقد أن معظم المبدعين الليبيين يتفقون معى فى هذا الرأي.* من يعجبك من النقاد الليبيين والعرب والغرب.. وما هو الكتاب الذى شحذ ذاكرتك وحمل الماء والشمس إلى موهبتك؟- لا يتعلق الأمر بالإعجاب هنا، النقد عمل جاد، وكتابة حول كتابة وما أصعب الكلام على الكلام كما يقال.. اقرأ مثلا ما كتبه "كارلوس بيكر" عن "همنجواي" أو "جينت" عن "مارسيل بروست".. تشعر أنك أمام نقاد كبار بذلوا جهداً يوازى إن لم يكن أكبر من جهد الكاتب نفسه وأسألك أنا: هل هناك ناقد ليبى واحد فى قامة ومستوى هؤلاء؟.ونتيجة لغياب النقاد المتخصصين فقد لجأ المبدعون أنفسهم إلى مناوشة الكتابة النقدية لشعورهم بعدم وجود نقاد، مثلما فعل "محمد الفقيه صالح" و"مفتاح العماري" و"سالم العبار" وغيرهم كثير فهم بالأساس شعراء وقصاصون.. وأشيد بتجارب نقدية أخرى ومعظمها من الأجيال الحديثة مثل: رامز النويصرى وعبدالحكيم المالكى والفيتورى وحواء القمودى وخليفة حسين مصطفى وآخرين لا تحضرنى أسماؤهم الآن.. إلا أن ليبيا تعانى من فقر حاد من النقاد المتخصصين فى الرواية أو المسرح أو الشعر كما هو الحال فى دول أخرى كمصر أو المغرب أو العراق مثلاً.* إلى أى مدى تأثرت بالشعر؟ ومن من الشعراء مازلت تحب قراءته؟- على الصعيد العربى أحب ولازلت اقرأ الشعر الذى سبق ظهور الإسلام ولا أسميه شعراً جاهلياً، أجد متعة عندما اقرأ معلقة "طرفة بن العبد" أو "عنترة" أو "عمر بن كلثوم" مثلاً، فأجد فيها فخامة الكلمة وجزالة المفردة وجمال التصوير، وقوة السبك، والتساؤلات الوجودية والوجدانية، وزخارف اللفظ، ومتعة الاكتشاف فى كل قراءة لهؤلاء العباقرة، لا أحب "المتنبي"، هو شاعر ولاشك، محترف بمعنى الكلمة، ولكن هل المتنبى هو الذى مدح "كافوراً" ووضعه إلى جانب القمر، أم هو الذى خسفه خسفاً ومسح به الأرض؟ "أبوفراس الحمداني" كان صادقاً مع نفسه، اقرأ "رومياته" حين كان أسيراً عند الروم.فى العصر الحديث أحب كثيراً "السياب" لأنه –بحياته وشعره- اختصر معظم تجارب الشعر والشعراء العرب. حياته مأساة وموته مأساة وشعره يختزل التاريخ الشعرى العربى فى تجاربه المختلفة، أيضاً "أمل دنقل" ومحاولته الجريئة فى توظيف النثر اليومى وعناصر الحكاية فى شعره، على الصعيد الليبى اقرأ للرقيعى وعلى صدقى عبدالقادر والجيلانى طريبشان ومعظم الأصوات الجديدة ومن الصعب أن أسرد قائمة بهم، وعالمياً أحب قراءة "سان جون بيرس" و"كمنجز"، إن الشرط الأساسى –لي- هو التميز، أى أعجب واقرأ لكل شاعر يختلف عن غيره من الشعراء وهؤلاء لا يتكررون إلا بعد عشرات السنين.الثقافة العربيّة فى حالة مخاض* كيف تقيم الفضاء الثقافى العربي؟ وكيف برأيك يمكن تكوين هوية ثقافية متميزة قادرة على إثبات حقنا فى الوجود والحرية والإبداع والحياة؟- لا أعتقد أننى بحجم من يقدر على تقييم أو "تقويم" الفضاء الثقافى العربي، وبكل تواضع أقول لك أن الثقافة العربية فى حالة مخاض، إما أن تسفر عن ولادة حقيقية وإما أن تصاب بإجهاض، وأسباب ذلك أن الثقافة مؤشر على الحياة العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أى أنها تصعد وتنخفض وفق الشروط التاريخية والجغرافية، قد توجد –تاريخيا- استثناءات كظاهرة "ابن خلدون" مثلا.. إن حقنا فى الوجود والحرية والإبداع والحياة يجب أن نثبته على الصعيد العربى أولاً كى نستطيع فرضه على العالم من بعد ذلك.* ماذا تقرأ هذه الأيام ولمن؟ مَنْ مِنَ الكتابِ يستفزك؟ ما جديدك؟- انتهيت من قراءة رواية "العطر" وأعيد قراءة كتاب أمريكا اللاتينية، رواية وقصة، واقرأ رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ وهى بنظرى أهم أعمال نجيب ولم تنل حقها من النقد.. والكتاب الذين أقرأ مؤلفاتهم دائماً هم كتاب الواقعية السحرية من أمريكا اللاتينية الذين علموا الكتاب الأوروبيين كيف يكتبون الرواية والقصة.جديدي: بصدد كتاب يحتوى مقالاتى النقدية ولدى مجموعة قصصية أخرى وأعد برنامجاً للإذاعة.أشكر لك اهتمامك وأحيى فيك عمق أسئلتك وليكن شعارنا معاً أن أجمل الأيام هى التى لم نعشها بعد، وربما لن نعيشها أبداً.

طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء



شعـر : عـمر الكدي 
                                                                                             نشر بمجلة ثقافة ليبيا
طرابلس زهرة الصبار
حورية عند البحر تستريح
طرابلس تنهيدة الوداع
ونورس يقبل من بعيد
هل غرسها الفينيقيون هناك
ليستريحوا في ظلها من الحنين والتعب؟
أم أنها كانت هناك منذ الأزل؟
لؤلؤة قذفتها الأمواج
أو درة دحرجتها رمال الجنوب 
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
منحها الرومان اسما يليق بثلاث مدن
وانجبوا بقربها الاباطرة وكبار الفاتحين
تركوا أقواس نصرهم، ومرمر مجدهم
والزيتون والرمان والعنب
منحها العرب لسانهم، ولون جلدتهم إلى الأبد
رفعوا في سماءها القباب والمآذن
نظروا إلى بحرها بريبة
وغادروا إلى حيث صهيل الخيول ورغاء الإبل
الأمريكيون وهم يبحرون نحو تفردهم
تعثروا بعش القراصنة
تركوا خلفهم فيلادلفيا تحترق
وحملوا معهم اسم طرابلس
الذي التصق في نشيد بحريتهم إلى الأبد
لم يترك الأتراك إلا قهوتهم الثقيلة
والطرابيش الغبية
وكرابيج الانكشاريين، وأسواقا مسقوفة
وجوامع بناها باشاوات عابرون
وأشرعة القراصنة تجوب البحر الكبير
وتركوا لذة المحشي، والظولمة، والبراك والبوريك
وحلويات مطعمة بالفستق
وتركوا فينا الطاغية إذا لم يأت نصنعه بأيدينا
وثنا من تمر وزيت
الايطاليون الذين أبادوا نصف شعبنا
أخرجوها عنوة من أسوارها القديمة
فتفتحت مثل وردة في حوض من الدماء
تركوا المشانق يتدلى منها رجال بأسمال بالية
تركوا الشوارع المعبدة
والأروقة الطويلة التي تهجع تحت أقواسها الظلال
وتركوا المعجنات، وحلويات مزينة بالفواكه والقشدة
أضواء المرور، والسينما والمذياع
وكنائس بقرميد أحمر، وكاتدرائيات يهدل فوقها الحمام
سراويل "البوطويل" والقبعات
النظارات الطبية، وأسماء قطع الغيار
قصر بالبو، مبنى البلدية، بنك روما
مبنى رئاسة الوزراء، والحانات
الحصان الأسود، وتمثال الغزالة
وقوارب شراعية تبحر فوق أعمدة من رخام
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
البريطانيون الذين انتزعوها من الفاشيست عنوة
طوقوها بثكنات مثل حدوه حصان
الثكنات التي صارت وكرا للانقلابيين، وعرينا للطغاة
وتركوا أزيز عجلات اللاندروفر يجري خلفها أطفال حفاة
وتركوا جيشا في بدلات كاكية، وبوليسا ببدلة سوداء
وموجهي اللغة الانجليزية، ومستشارين لمملكة قادمة
استقلت بفضل إسهال داهم سفير هايتي
في هيئة الأمم في لحظة الاقتراع
باب على البحر وأبواب على الصحراء
كانت لنا ذات يوم مدينة
بيضاء نظيفة وصغيرة
كنا حين ندخلها
نخلع عند أبوابها نعالنا البدوية
ومثل خفراء مدججين بالريبة نتجول في شوارعها
لاجمين طقوسنا في البصق والتبول
نمضي مثل جثث تسير خوفا من التفسخ
ومنبهرة بطراوة الحياة
لليهود حاراتهم الضيقة
وللغزاة الشوارع الفسيحة المعبدة
ولنا الأرصفة، ودكاكين أبوابها نصف مشرعة
نشرب من حنفيات الحكومة ونستحم في بيوت الله
ونمضي إلى السينما حيث تعلمنا كلمات الغزل
وكيف نقبل النساء وأعيننا مغمضة
غير أن للبدو عنادا لا يرى مثل ظلام يدوس على الحقول
لذلك اخترقناها من عيوبها القديمة الجيش والبوليس
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
طرابلس ليست لنا
منذ أن وصلها بيترو دي نفارو
متعقبا الأندلسيين الهاربين
من عرب وأمازيغ ويهود
انكفأ البدو إلى صحرائهم
وأعتصم الجبليون بجبالهم
وحتى عندما انتزعها الأتراك عنوة
لم تعد طرابلس لنا
تحولت قلعتها الحمراء إلى مأوى لباشاوات متغطرسين
من أبوابها تخرج جيوش الانكشاريين
لتنتزع منا قوت عامنا، وتشنق المعدمين
ومن نفس الأبواب ندخل على صهوات جيادنا
لنرد عنها الغزاة والقراصنة
بيننا وبين طرابلس جرح نرجسي
نحبها ونكرهها من بعيد
مثل معشوقة استسلمت إلى الغرباء
لذلك حكمها الصقلي جورج ميخائيل
وأسبان، وفرسان القديس يوحنا
وأتراك لا يجيدون غير التركية
وحكمها طابور من الأعلاج لمجرد أنهم أسلموا
وحكمها قهوجي من أزمير
وشاويش أمي
ورجل من البندقية يدعى يلك محمود
وحكمها تارزي، وشائب العين
وحكمها علي برغل بفرمان مزور
وأيضا حكمها ولد الجن
ومن أجلها قتل يوسف باشا شقيقه وهو في حضن أمهما
ومن مخدعه حكمتها الملكة استير
وحكمها جنرالات ايطاليا من قصر بالبو
ومن نفس القصر حكمها حفيد مهاجر جزائري
وأخيرا حكمها ملازم في سلاح المخابرة
وبعد أن رقى نفسه دفعة واحدة إلى رتبة عقيد
وقف أمام أهلها في ميدان الشهداء
وقال : إلى الخلف قليلا
فتحولت من أنظف مدن العالم إلى مكب للنفايات
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
دخلتها في الثالثة من عمري
ورأيتها لأول مرة من فوق كتف أبي
لابد أننا دخلناها في الربيع
كانت الأشجار مزهرة
تغرد فوقها آلاف الطيور
وخرير المياه لا يتوقف أبدا من حنفيات الشوارع
مررنا تحت أقواس مهيبة وعالية
ولأول مرة أرى القرميد الأحمر والشرفات وأمام المستشفى المركزي رأيت الموز والتفاح والكمثرى
ورأيت الخبز يخرج من المخابز ذهبيا شهيا وساخنا
ومنذ أن رأيت الخيول تقف في الإشارة الحمراء
نسيت قريتي البعيدة والتصقت بشارعي الجديد
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء
في الأربعين من عمري، وأنا في طريقي إلى منفاي
قررت أن أودعها، وقد تحولت عروسي الأثيرة إلى عجوز شمطاء
كيف تهضمين يا طرابلس كل هؤلاء البدو؟
دون أن تصابي بالإمساك
أشفق عليك من رغاء الإبل والقبلي والأشواك
نظرت إلى بحرك الأزرق
وتذكرت البيوت التي سكنتها
والعتبات التي تخطيتها
غرف الفنادق، وزوايا مقاهي المفضلة
المدارس والمطاعم والمكاتب والمكتبات
رفاق عمري، ونساءك المستحيلات
شارع الزاوية، مدرسة الفنون والصنائع
باب بن غشير، غرفة مجاهد
مربوعة نصري، مسرح الكشاف
طريق السور، الشيخة راضية
مطعم البرعي، أجنحة الشاطئ
وشرفة رابطة الأدباء والكتاب
ماذا سأنتقي منك يا طرابلس وبيوتك لا تزال بلا أرقام؟
سوق الحوت، والجمعة، والثلاثاء
بائعي ورق البوريك ،ورشدة الكسكاس
محطة التاكسيات، شارع الرشيد
مقهى مصطفى الايطالي عند الفجر
مطعم الشجرة، سوق المشير
الحواجز الأمنية، مشانق الجامعة
ومكبات النفايات
أعبر الآن ساحة مطلية باللون الأخضر
تبول فيها سكير فسجن خمسة أعوام
مارا بنفس المكان الذي استلم فيه موسوليني مفتاح المدينة
وسيف الإسلام
بالقرب من نفس المكان الذي كان يقف فيه
الإمبراطور سبتيموس سفيروس
وقد اختفى إلى الأبد مبنى رئاسة الوزراء
تطالعني خيول حجرية من نافورة ميدان الشهداء
أدخل سوق الترك من نفس المكان
الذي مر به يوسف باشا وهو ضرير
تقوده ما تبقى من نساءه الخلاسيات
ألمح من بعيد رجالا يسكبون القصدير
في أواني من نحاس
رغم الطرقات المحمومة، وصراخ الباعة
أشعر أن الجميع في حالة انتظار
كل الساعات المعروضة للبيع لا تتحرك عقاربها
وكذلك ساعة مصرف الأمة
ومعاصم المارة خالية من الساعات
عند جامع أحمد باشا تنشقت المدينة دفعة واحدة
ومسحت دمعة واحدة، وقبل أن أخرج إلى المنفى
تأملت برج الساعة راجيا أن تدور عقاربها من جديد
طرابلس باب على البحر وأبواب على الصحراء 

عيشة الطبيبة ،، مصطفى السعيطي


                                                                                  نشر بالشمس الثقافي
مازلت أذكر – على مر السنين – تلك المرأة بتقاسيم وجهها البريء الذي يحتل الوشم الخفيف حيزاً منه متسربلة في (جردها) المخطط، فيما تبدو ساعة رجالية نوع (هيرما ذات الهلال المعروف) تلوح في معصمها ..
تخرج من بيت وتلج آخر وهي تحمل صندوقاً صغيراً تتشبث به .. هذا الصندوق الذي كان مثار قلقنا واشمئزازنا نحن الصغار! وما أن تحل على بيت من بيوتنا حتى تعلن درجة الطواريء القصوى ، ويرين الصمت والخوف ، وترتعد الفرائص ، وتنكمش الأجساد الصغيرة خلف ظهور الأمهات .. ولاتفلح جميع المحاولات الخرافية لتسكين روعنا جراء هذه الزيارة المزعجة وحلول عمتي عيشة بالمكان .. ولن تهدأ النفوس ، حتى تنتهي هذه الزيارة غير المرغوب فيها من جميع الصغار ، الذين يعرفون أنها زيارة غير عادية تبدأ بالخوف وتنتهي بالصراخ والعويل .. هذا الخوف ليس من عمتي عيشة الهادئة المستكينة الصامتة .. بل من ذلك الصندوق الصغير الذي يكتظ بكل ما يبعث على الهلع .. إنها الإبر والحقن !
ومن بعيد تظل الأعين الصغيرة تبحلق في توجس في تلك العدة الجهنمية التي يحويها الصندوق .. وتتابع الخطوات التالية في انكسار .. فبعد السلام الاعتيادي المستعجل ، تفتح عمتي عيشة كنزها الرهيب تخرج الإبر و(السرنقات) وتطلب (البابور) من أهل البيت ، ثم تضع عليه إناء به ماء وتغلي ما به جيداً .. وريثما يفور الماء وتتعقم الإبر ، تتناول عيشة الطبيبة (الروشيتة) من الأم بيد واثقة ، وتقلبها أمام عينيها لتعرف مقدار الحقنة ، وإن كانت تستلزم اختبار الحساسية ضد البنسلين ومشتقاته ، أو إن كانت في العضل أو في الوريد .. وأقول تعرف !! .. لأنها تقرأ ولاتكتب بأي لغة ! .. بل تعرف من نظرة واحدة إلى الوصفة نوعية ومقدار الحقنة .. وسبحان الله الذي يودع أسراره في خلقه الذين فطرهم على فطرته .. فهذه المرأة التي لم تدخل مدرسة في حياتها تلجؤها الظروف والحاجة إلى فك رموز الروشيتة وضرب الحقن وقياس الحرارة بذكاء حاد وإلهام فطري لايخطيء.
وعمتي عيشة تعرف – بحكم ممارستها لهذه المهنة – أنها ضيف غير مرغوب فيه من قبل الصغار .. لكنها تعرف أكثر أنها تحمل في صندوقها العجيب الشفاء العاجل – بإذن الله – لهذا الطفل الذي أقعده السعال أو التهاب اللوزتين أو نزلة حادة عن مغادرة الفراش والخروج إلى الشارع ، أو الالتحاق بأترابه في المدرسة .. فيداخلها شعور كبير بالاطمئنان لما تقوم به في ذات الوقت الذي حكم فيه المجتمع أحادي النظرة على المرأة بالنظر إلى الدنيا من خلال فتحة (الجرد) وعدم تجاوز عتبة المطبخ .. فكانت عمتي عيشة مثالاً للمرأة الصلبة الجريئة التي اقتحمت هذا العالم الموحش منذ زمن مبكر.
وتغادر عمتي عيشة البيت بعد أن تدعو بالشفاء .. فيما نقابل نحن الصغار دعاءها بدعاء آخر مغاير ، يعني فيما يعني الرغبة في عدم رؤيتها من جديد !..
عيشة الطبيبة .. لعلكم علافتم السر وراء هذا اللقب الحركي الذي ظلت تجره خلفها حتى رحيلها عن عالمنا .. لكنها جاءت إلى هذه المدينة بلقب آخر من واحة الكفرة البعيدة .. إنه لقب (التارقية) .. هناك يعرفونها بهذا اللقب ، نسبةً إلى أمها التي تنتمي إلى قبيلة الطوارق .. أما اسمها مجرداً فهو ( عائشة بلقاسم عبد العالي دخيل) من قبيلة ازوية من بيت السديد (منايع) .. ولدت في الكفرة سنة 1928ف .. ودخل حياتها ستة رجال ، أنجبت من أربعة منهم .. لكنها غادرتهم جميعهم لأسباب مختلفة .. لكن لعل السبب المشترك الذي جعلها تنفصل عنهم هو الحرص الشديد على مصروفات البيت ، وحجب التموين في صناديق مغلقة .. (هذه المعلومة أوردها ابنها الحاج سعد الشاكة ، حين سألها عن سبب طلاقها من أزواجها الستة !) .. لأنها كانت على النقيض منهم جميعاً .. إذ كانت كريمة تكره البخل والحرص وأهله .
ووجدت عمتي عيشة نفسها تعيش استقلالاً ذاتياً وتعتمد على نفسها ، فتعلمت حياكة القبعات البيضاء (المعارق ) .. لتعيش من ثمنها ، ثم اقتنت ماكينة خياطة بعد آنست في نفسها خياطة وتفصيل الملابس .
وفي االعشرين من عمرها صحبت آخر أزواجها إلى أجدابيا .. ولم تطل حياتها معه .. فوجدت نفسها بعد خمس سنوات ، وتحديداً سند 1953ف تلتحق بالعمل كعاملة في مستشفى (سعد الله بن سعود – أحد وزراء أول حكومة ليبية) الذي يستغله الهلال الأحمر الآن ، براتب قدره (سبعة قروش!) في اليوم .. أي مايساوي جنيهين وعشرة قروش في الشهر .. ولأنها لم تدخل المدرسة ، فلم تكن مؤهلة لدخول عالم التمريض الذي كانت تحبه وتجد فيه ذاتها مثلما فعلت زميلتها السيدة الفاضلة (حليمة خفاجي) التي تٌعد أول ممرضة في إجدابيا في الخمسينيات .. لكن كان عليها أن تعتمد علي ذكائها ليقودها إلى تعلم ضرب الإبرة ومعرفة نوعها ومقدارها .
ولعمتي عيشة أسلوب آخر في حياتها ، تلوذ به حين تطبق عليها لقمة العيش ولسعي المضني وراءه .. فلم تنس أن تغتصب لنفسها المكدودة وقتاً ممتعاً عندما تركن إلى ذلك المذياع العتيق (فليبس) بأزراره الكبيرة المرصوفة على واجهته ، وبطاريته الضخمة التي تربض بجانبه وهوائيه المتصل بعلبة صفيح مملوءة بالتراب والفحم .. وكثيراً ما يفاجئها أهل بيتها وهي تهز رأسها طرباً لصوت شادي الجبل أو علي الشعالية ، أو نوبة المالوف .. فخلال هذه الساعات التي تختلسها من ضرب الحقن وخياطة الملابس و (المعارق) ، كان يحلو لها أن تدعو جاراتها القريبات لمشاركتها هذا الاحتفال الصغير والاستماع إلى برامج الأسرة المشهورة (عبده الطرابلسي) ، والاستمتاع معها بتناول الشاهي والكاكوية والغريبة الهشة المتوجة بحبات القرنفل .
وظلت حياتها على هذا المنوال .. بين صندوق الحقن والماكينة ومسؤوليات ذلك البيت الذي شرع سكانه في النمو على نحو مضطرد .. وتحتَم على هذه المرأة أن تتحدى معاناتها وآلامها وحياتها القاسية ، عندما كانت تصارع ضغوط يومها ، في محاولة خرافية لتأمين الترر اليسير من قوت أسرتها على هذا النمط .. فلم تستسلم لنكبات الزمن .. بل هبت ابتسامة القناعة تغمر روحها المتحدية .. ولم يُنسها كفاحها اليومي وجولاتُها المكوكية على البيوت أن تفرض نظاماً صارماً على كل من حولها .. لأنها تدرك أن الأفراط في التدليل سيعود عليهم سلباً .. فحرصت على تربيتهم على الصدق ونبذ الكذب والرذيلة .. وفي هذا يروي ابنها ما حدث له حين حاولت نفسه الصغيرة الكذب عليها .. فقد أرسلته أمه ليبيع آخر (معرقة) فرغت من حياكتها .. وكان ثمنها عشرة قروش .، بعد أن تضاعف ثمنها بالتدريج من ثلاثة قروش إلى عشرة قروش ، ووسوست له نفسه ان يختلس منها قرشاً ويشتري به علبة بسكويت .. وجعل التسعة قروش الباقية في صرة ورمى بها في حجر أمه ، ظناً منه انها لن تعد المبلغ .. لكن خاب ظنه سريعاً عندما عدت أمه النقود واكتشفت اختفاء قرش منها .. فسألته عنه ، فادعى أنه ضاع في الطريق .. ولم تصدق الأم هذا الإدعاء لأن قلبها دليلها واكتشفت تلعثم ابنها في الإجابة .. لكن الابن فضل عدم الانهزام ، والسير في إدعائه إلى النهاية .. وتصر الأم على كشف كذبته الصغيرة .. فجاءت بغربال ، وطلبت منه مرافقته إلى حيث فقد القرش .. وعبثاً حاول ابنها غربلة أكوام التراب ، لأنه يعلم جيداً أن القرش هو الآن في بطنه بعد أن تحول إلى قطعة بسكويت .. وتستمر الغربلة .. والأم تقف على رأس ولدها الشقي مثل مقص .. وينثال العرق .. وتزداد الربكة .. وتنذر الأجواء بالعقاب الوخيم .. فلم يجد بداً من الاستسلام لرحمتها .. معتمداً على حنانها وحده .. فهو الوحيد الذي سينقذه من هذه الورطة .. ويعترف الابن بسرقة القرش .. فابتسمت في وجهه ، انتصاراً لحدسها الذي لايخيب ، لأنها كانت تنتظر هذا الاعتراف .. وسحبته من يده إلى البيت لتخرج له من درج الماكينة قطعة بسكويت .. وتعنفه على هذه العادة الذميمة .. ولم تتركه حتى اغتصبت منه وعداً بعدم معاودة ما فعل .
لم يُعرف عن عمتي عيشة وهي تنتقل بين البيوت الناس نقلها لأسرار ساكنيها .. او المشي بالفتنة بينهم .. فهي بطبعها قليلة الكلام ، لاتحب الثرثرة وكثرة القيل والقال .. ولأن وقتها لايسمح لها بالبقاء بعد إعطاء الحقنة .. فحافظت على مساحة من الود والتوقير في محيطها سبعة وعشرين عاماً حتى اختارها الله إلى جواره سنة 1980ف  بعد أن صحبت صديقها السكر لعشرة أعوام كاملة ، ثم تلاه جاره العنيد الضغط .. وتوفيت بمستشفى الهواري ودفنت بمدينة اجدابيا .
أثنان وخمسون عاماً هي كل ما اختلسته من الدنيا .. اثبتت فيها أن الحياة قد تعوض الإنسان بعض ما أخذته منه .. وعمتي عيشة عرفت كيف تأخذ حقها من الحياة .. فعاشت كما ينبغي .. وماتت كما ينبغي .. رحمها الله .. وجعل قبرها روضةً من رياض الجنة .. حتى يلقاها وهو راضٍٍ عنها .

كومو تي كياما ؟ بقلم ابوالقاسم المزداوي


                                                              بقلم ابوالقاسم المزداوي

ما حدث لي هو أشبه لما حدث  للمزارع الليبي إبان الاستعمار الإيطالي البغيض


 والذي كان يعمل بأجر يومي في مزرعة أحد المستعمرين الطليان والذي أنهكته

 الشيخوخة بعد خمسة عشرة عاما قضاها الرجل  كدا وعرقاً بأرض لم ينل منها إلا

 المشقة والتعب حينما حاول أن يبدي رغبته في ترك العمل و الحصول على 

مستحقاته نظير هذه المدة الطويلة التي قضاها كداً وتعباً في هذه المزرعة فما كان

 من ( الطلياني) المتعجرف بعد أن نظر إليه نظرة احتقار وتعال إلا أن يسأله قائلا :

 كومي تي كياما ؟ أي من أنت أوما هو اسمك ؟ 


فلقد قضيت صحبة بعضا من زملائي اثني عشر عاما متواصلة بحلوها ومرّها في

 العمل بالملحق الثقافي بصحيفة الجماهيرية متجاوزاً الأزمة تلو الأخرى (أزمة 

ورق- أزمة أقلام – أزمة مادية – أزمة معنوية – أزمة كراسي – أزمة طاولات –

 أزمة مكاتب – أزمة تقنية – أزمة إمكانيات – أزمة استكتاب – أزمة مستحقات


 مالية للكتاب (باستثناء النصف الأخير من السنة الماضية ) كل هذا والملحق يشق

 طريقه بصعوبة بالغة وهو يحاول الصمود لاسيما وأنه ظل طويلا يمثل النافذة

 الثقافية الوحيدة التي يطل منها مبدعونا بمختلف اتجاهاتهم وإبداعاتهم كل أسبوع

 على القراء .


طيلة هذه المدة إلا قليل منها لم يسمع فيها احد لنا شكوى بل ولقد نسينا فيها

 حضور مناسباتنا الاجتماعية والتي كانت من سوء حظنا أنها لا تقام إلا في أيام

 الخميس وهو اليوم الذي كنا نعد فيه هذا الملحق والذي لم يتغير موعده حتى هذه

 الساعة حتى أنني شخصيا تعودت على  (زعل) الأصدقاء والأحباب والأقارب ومنهم

 من خسرتهم جراء ذلك إلى الأبد .


بالإضافة إلى ظروف وعوامل أخرى مساعدة حتى أنني كنت في كثير من الأحيان

 أخرج بعد منتصف الليل وفي عزّ الشتاء لأجد أوصال سيارتي العجوز وقد تجمدت

 من البرد حتى أن دفع الأصدقاء والمتطوعين لها لن يحرك أو يحنن لها قلباً ما

 يجعل من عودتي إلى البيت عن طريق ( ألأوتو ستوب ) أو في أحسن الأحوال

 (بالأفيكو) أمراً محتوماً .


نتيجة لهذا وبناء على رغبتي في التغيير وربما إيمانا مني بالتداول المهني أو

 الوظيفي (على غرار تداول السلطة) فلعله جاء  الوقت ليحل غيري مكاني مع

 ألإحساس  بالإرهاق وعدم تحمل المزيد من الضغوط بفعل تقدم العمر فلقد رأيت

 ومن وجهة نظري أن ترك الملحق قد حان وقته 

لكنني صُدمت برفض طلبي عديد المرات ولأنني كنت مصراً على ذلك، وبعد مداولات

 ومحاولات وتدخل شخصي من قبل السيد أمين الهيئة والذي قام مشكورا

 بدبلوماسيته المعهودة بفك الاشتباك وفض الارتباط فقد وجدت نفسي وبعد هذه

 المدة الطويلة خارج الملحق ، لكن الذي عكر صفو هذا الانجاز إذا جاز التعبير هو

 حذف اسمي من هيئة التحرير في اليوم التالي دون الإشارة إلى ذلك و سنين العمر

 التي انسلخت مني في هذا الملحق . ومع هذا حمدت الله على أنه لم يعد الأمر كأيام

 زمان عندما كان يُشترط في الالتحاق بأي عمل جديد ضرورة إحضار شهادة حسن

 السيرة والسلوك  من العمل السابق وإلا ( كنا رحنا فيها )


ولكنني ومع هذا وكعادتي ورغم ما جرى لابد لي من التوكيد بأنني لا أكُنّ أي ضغينة

 ولا حقد لأي من زملائي الذين سأظل أحترمهم وأقدرهم بداية من السيد أمين

 التحرير وحتى أحدث فرد في الصحيفة والتي عشت فيها ربما أحلى وأمرَ أيام

 حياتي ولكنني رأيت وأعتقد بأن هذا من حقي بأن ألوم زملائي وأعاتبهم على هذا

 التوديع ( الصامت) الذي لا يليق بنا نحن معشر العاملين بهذه المهنة الحضارية

 لأننا أبناء هذا المجتمع الطيب و لسنا من طينة الطلياني الذي لم يستطع إخفاء

 عجرفته وسوء منبته عندما سأل ذاك الرجل الطيب عن اسمه بشكل يعني عدم

 الاعتراف به كإنسان وهو الذي لم يفعل عيباً سوى أنه طالب بحقه المشروع كأي

 شخص قام بواجبه وبالتالي من حقه المطالبة بأبسط حقوقه. 

حوار مع الكاتب الليبي أبو القاسم المشاي ،، رواية اليوم تشهد على راهنها عبر كثافة الواقع الإفتراضي


أبو القاسم المشاي كاتب وباحث تتماس في إبداعاته الفلسفة بالفكر بالنقد الأدبي عبر أدوات ما بعد الحداثة فإضافة إلى انشغاله بالنص الشعري واحترافه التشكيل اللوني له مساهمات مقدرة تمثلت في عديد المقالات والأبحاث حول الفكر الحديث وعالم ( الإفتراضي ) .صدر له : " حافة القراءة " ، " نزيف الطمأنينة " ، " السلطة واللغة " . وينجز الآن رواية بعنوان : " استديو العرافات " . فإلي الحوار .
                                                           حاوره : أبوبكر حامد كهال
                                                                 نشر بالشمس الثقافي
* لنتحدث عن الشعر ومفرداته اليوم . كيف تحدثنا عنه ؟ 
أبو القاسم المشايفي البداية يتأسس الخطاب على : ما هو مفهومنا وتصورنا للشعر سواء ما بعد حداثة ، حداثة ، ما قبل حداثة .. لأننا أمام الشعر لا يمكن أن نجد سوى الشعر ، دون قطيعة ، بالرغم أن الشعر سر ولادة لحظته وبيئته ورمزيته اللغوية ومكوناته الثقافية .. ، وروحها التى ينطق بها ويحدس عبرها ويتأوه بحنجرتها ويتلذذ بإيقاعها و .. ، ولكن مع بودلير الذى أقفل رمزية وروح المخيلة وأزاح عنها ستار من بياض الكفن حين أعلن : " كلنا نذهب معهم في الجنازة الصامتة ، جنازة لا أحد ، إذ ليس هناك أحد ما لندفنه "  ، وهذه لحظة انحباس في غشاء المعنى ذاته الذى نقوله عن شعر الحداثة أو خطاب الحداثة الشعري .. ، حيث نهاية الحرب العالمية وتضميد النزيف ومحاولة تأبين الألم بالصدمة الشعرية ، وإعادة تحرير الجسد من إيقاعاته الجامدة / وما يعصر خلاياه من حزن .. وذكريات قاسية حاكتها حروب وملايين الجثث ، والمعاناة الفائضة عن الذات واللغة .. وهي عكست روح وطيف معناها وأناشيدها وهذيانها على ظهور حركات جديدة ، تتلو على الجسد وباللغة ذاتها نصوصها النثرية .. قداسة الجسد ، وهى ذاتها المدونة التى كتبت انتسابها حيث كلما شطح الجسد أينعت أنوثة الحكمة ( ؟؟ ) وداخل النسيج الإفتراضي .. والسايبر- نت والكتابة الإلكترونية ونهاية المشاهد والتمركز السمعي - بصري نعلن عن عبر – جسدي يمحو النص شاعريته داخله ويعيد تدوينها من ذات الامحاء وتأبيد المعني .. وكلما فاض الجمال عن روح الأفتراضي سأخرج من اللغة ( ؟؟ ) .وشعر ما بعد الحداثة يعدّ ذاته كسؤال مربك ويتيم لعيون الشعرية ورمزيتها الصوروية وديمومتها بغض النظر عن حدود فهمنا أو تسطيحنا للشعرية بالتصنيف:. شعبي ، فصيح ، عمودي ، أفقي ، موزون ، عامي ، نبطي ، عربي ، فرنسي ، ياباني ، سورينامي  .. ، ومن أي بيئة وعن أي معني / يتجه لمستقبل سؤاله ليختفي في ظل ( الدال ) أو الدليل الذي يقود عمى المعني إلى حدوسات مؤبدة او مفترضة للحظات مارقة عن كنه المعنى ذاته الذي اسس للسؤال الذي يطل كلما أمعنا التآمل في بصيص القراءة للمستقبل ( وما يدوم وحده يؤسسه الشعر !! ) .
* ما هي الرواية المعاصرة ومستقبلها داخل هذا التزاحم وعصر الصورة والفيديو ؟ وأين وصلت بروايتك ؟ 
الرواية وجسدها ولعبتها السحرية ، واللغز ، البيان ،  .. الذي تولده وتحدثه في القارئ لا يمكن أن يتجاوز الشعر .. وبالتالي الرواية حالة كائنة برمزيتها وكل ما يعبر عنها ويحمل منها رواية سردية ، ما وراء حكائية ... بالضرورة نابع من الشعرية وما دامت الحالة الشعرية واليقظة التنبؤية للعبث داخل سيرة الذاكرة الحاضرة / الماضية / ومستقبلها وتفكيكها لعالمها ومحورها وأرشيفها وذاكرتها الإنسانية  فهي أيضاً ترتبط جينياً وجنينياً ( جينالوجيا معرفية ) بذائقة الشعر والفن عموماً ، وهي روح تعبيرية .. وهي من ذات الروح التى تصنعها السخرية .. لغة الفلسفة ذاتها . وهي سخرية من الذات / الجسد / من الحياة وأغلب الروايات الكبيرة نسجت من هذه المواد مكوناتها وبنيتها ووضعت خرائط تفكيكها ومطاردة حدوثاتها ومشاهدها بكل ما تحمله من ألم ، لذة ، سخرية ، فضح ، معاناة ، .. فهي تتبع الطريق ولكنها عبر التوجس ، الخوف ، الرغبة ، العنف ، الجمال ، العرافة ، الاثم ، المغفرة ، الجهل ، القوة ، .. ورواية اليوم تشهد على راهنها عبر كثافة الواقع الإفتراضي ، وعبر تفكيك شفرة الخيال ، ونثرها عبر متاهة جديدة . . وكأننا نشهد على ولادة جيل جديد ( تائه أبداً ) داخل خضم وتزاحم الافتراضي وتسارع المحاكاة والشفاهية عن بعد ، الخطاب عن بعد ، لغة السايبر- نت وعصر التدوين ، ونص الومضة أو نص المفارقات الكبرى ، والعناوين الاختراقية ويظهر مستقبل الرواية والمنهجيات النقدية لما يطلق عليه رواية ميتا – حكائية ، أو رواية ما وراء الحكائية تظهر مغمضة في أيضاح مستقبل الرواية ، بالرغم من أن الرواية تشهد على صعودها وكثافة انتاجيتها وتنوعها .. وموضوعاتها والبحوث والدراسات التى تعيد المسح على مرآة مشاهدها . . وعلى ذات العتبة التى تعلن عن نهاية المشاهد . ومن هنا تطفو أسئلة الروية في مستقبلها القريب / وتسارع الكتابة الرقمية ، وتنامي الصورة ، الفيديو – الشاشات الفضائية ، السينما ، DVD   ، .. جميعها تتنافس للسيطرة على ( التمركز السمعي – البصري ) أي السيطرة على عقل وروح المتلقي ( القارئ ) ، مع الحضارة الافتراضي وتقنياتها ووسائطها وأدواتها و . . وذوبان حدودها فإنها تقف على سطح الخواء ، هل سنتفق على شاهد انتصارها لصالح الافتراضي أم نوثق لحظة اندثارها وتحللها داخل الرقميات وعبر أوعية الديجيتالية !! .ومن ذات السؤال أين سنجد هذا القارئ الافتراضي ؟ بأي لغة سنكتب له نص قراءته ؟ بأي اندماج نحاول أن نسلب قشرة المعني لنقدم له فاكهة التلذذ بقراءة روايتي القادمة ( أستديو العرافات ) ربما تصدر بعد حين !!  . 
*  برأيك كيف يقرأ الأديب والمثقف الأزمة الإقتصادية .العالمية اليوم ؟ 
ج /  توجتّ خطابات العولمة ، نهاية العمل ، التجارة الالكترونية ، هجرة الوظائف، ثقافات عابرة للحدود ، وغيرها من المفاهيم والأطروحات التى انتجتها نهايات وبدايات . . أزمة التواصل و ( ما يعرف ) بالنظام الغائي للتاريخ البشري والذي لا يصل في الوقت المحدد ، ومن هنا بدأت تطل اشكاليات كبرى داخل خرائط العالم (القديم) وهوياته والتى ارتبطت بما رسمته الهيمنة منذ بدايات القرن السادس عشر، وما طرحته من حلول وقدمته من أفكار تنويرية واختراعات علمية ساهمت في بناء العالم الإقتصادي وحركته النقدية وسيولة انتاجياته وضمن هذه الأطياف الفكرية وقراءاتها وتدارسها ( النقدية ) أخذت علاقات السوق والبضاعة علامتها وروحها ضمن حقول تنوعها الايديولوجي وقواعد السيطرة والتنافسية والتبادلية التى أنتجت علاقات ( القيمة ) المالية للنقود مهما كان نوعها وضمن حدود المضاربات والتنافس وصراع العلامات التجارية . . . 
* ولكن ماذا سيضمن لنا ( إقتصاد المستقبل ) ؟ .. 
وكما قلنا في بداية الحوار بأن عتبات حضارة جديدة في طورها الثالث تشكلت كمرحلة تطور فكري إنساني بالضرورة ، وحيث كانت إلى أجل قريب ( بدايات الستينيات  من القرن الماضي ) كانت الأفكار تتقدم على العالم . . . وبقيت الفكرة بعيدة معلقة على جدار المستقبل ، ولكنها ضمن حضارة اليوم وعصبها فأن الفكر إستثنائي وتنبؤي وصار ضمن ( الآن ) ، وصارت المدارس ( التقدية ) التآويلية ، التكوينية ، السيميائية ، . . أرث فكري أو شكل من الرومانسية ( الفكرية ) النقدية التاريخانية  وما أنتجته تكنولوجيا المعلوماتية ولغة الافتراضي وعصر الشاشة  شكل قاعدة وركيزة تحول تاريخي ( مصيري ) لمختلف انماط الحضور المجتمعي حيث أختفت الحدود وقواعد عمل السوق وقيم التبادل ومختلف التنظيرات التى شكلت ( المادية التاريخية ) ومفاهيم وبناء الدولة التقليدية ونظم الاقتصاد وهذه المرحلة ( ساهمت في تذويب المسافات ) وضخت الوهم في قلب الخواء بوصفه معني جديد أي جعل المأزق النقدي الايديولوجي العقائدي . .  لا يري ولا يقرأ بأن العالم هو بالذات اختفاء للعالم  . . وما تقدمه الأفتراضية واحتراق أفران ( المطابخ ) الاعلامية  ووسائطها التقنية امام البث المتجاوز للخطابات الممنهجة والمؤطرة حسب مقاسات السوق .. صار من الماضي ومن التراث وتبدلت إستراتيجية الدليل وتبدلت لعبة السوق وقيم الاستعمال على حساب نظام قيم التبادل ذاته اللذان شكلا أصل النظام الاقتصادي الذي قرأناه عبر الفكر الماركسي أو غيره من النظريات الاقتصادية التى تأسست على واقع يرسم الزمن على لوحة مظلمة . .ومع الانحباس ألمفاهيمي وتوسع الاستهلاك ونمو أسطورة الإرهاب وأزمة الطاقة . . . انفلات وتكدس البضاعة وانحسار قيمها الاستعمالية . . وتفكك خرائط (ديمغرافية ) اقتصادية واجتماعية جديدة . . ومع نمو تكتلات عملاقة للهيمنة وفق مقتضيات التنبؤية بمستقبل كثيف ومتسارع ومع ظهور ( أيدبولوجيا !! ) التواصلية خارج ما بشرت به الايديولوجيا القديمة للرأسمالية ومع نهاية ما يعرف بالاقتصاد السياسي . . والقطيعة الكبري مع التبادل الرمزي ؛ للنقود وعمليات التبادل العيني ( نهاية Cash Money )   ، وما يعكسه على مختلف قواعد الممارسات الاجتماعية والثقافية وعمليات الشراء والتبادل للبضاعة  . . . وغيرها، وعلى أثرها فأن النظام ذاته الذي شكل قواعد اللعبة سيطيح بذاته أمام تكنولوجيات الافتراضي التى تلغي المسافة والحواجز وتحيلنا إلى هويات رقمية افتراضية أي ندخل في عمق السر الذي يصوغ النص ..الفكرة ..الوهم أن ندخل إلى قلب وذاكرة النظام  الجيني للجسد ذاته الذي يشكل دالة وجودنا . 
* وكأننا وفق ما تنتجه الحضارة اليوم ، نعيش مأزق فكري ؟! ولكننا نعيشه وكأنه مأزق اقتصادي ؟! 
ومع سقوط الجدران والحواجز وانهيار الخرائط القديمة ومع تعددية طيفية لغوية وعرقية وهوياتية ..كما هي عليه اليوم (الاتحاد الاوربي) واندماجه الاقتصادي وبعملة واحدة..نجد على ذات الخرائط قيام جدران وحواجز جديدة..الدكتاتورية،القمع،صراع الهويات، ..التفكيك كما حدث في يوغسلافيا.. وعلى سقف هذه المفككات ينمو عصب الشبكات وتتمدد الفجوة الرقمية..
وبينما ينهار جدار برلين وتنهار الحواجز الايدلوجيا في الاتحاد السوفيتي سابقا (أي نهاية اتحاد واعادة بناء اتحاد جديد.. !!) كما تقام حواجز العزل على فلسطين ويتزايد حدة فهو يتأسس كجدار مادي خرساني شائك ومن جهة فالحرب والابادة وانعدام التوافق تمارس ترسيخا وتكريسا ..وجميعها تتأسس بذات المنهجيات وبذات الكائنات التي تتحدث بأسم السلام والتعايش .. اذن تتحول التعددية مشروع انفصامي تناقضي في بنيته الافهامية والمفاهيمية.. وجميعها مولدات للازمة وان اخذت طابعا كونيا ولكنها بتراكما وتناسلها ..تمنحنا صورة لابعاد الازمة وهوامشها !!مع نهايات القرن الماضي وفي تسعينياته تنبه الفكر لأسئلته ومأزقه .. فالمرحلة التنبؤية كانت حاسمة مع عديد المفكرين .. اذ تم وضع خرائط الطريق الى الحضارة الجديدة وما يعرف في ادبيات اليوم (اقتصاد مجتمع المعرفة).. ولكننا نتسأل اين نحن من كل هذه الانوار التي يتم تعليقها داخل كهف وجودنا وفوق اسقف جماجمنا وامام ابصارنا وعلى صدى سمعنا.. اي عتمة دخلنا اليها دونما فتيل اشتعال او عود ثقاب..؟؟؟ 
* هل يمكن فهم واقعنا وعالمنا بأعتباره مدهش أو لأنه مؤلم معيش عالم الحرية وحياة البؤس ؟ 
مشدوهين من هول الفاجعة ومن جانب من عدم قدرتنا على التصديق او المفاضلة بين جميع الخيارات المطروحة.. من اجل بناء قرارت جديدة قادرة على مواجهة الازمة او تقديم الحلول التي نتوقع انها قادرة على حل الاشكاليات او الازمة.. وبالتالي فأي المعلومات صحيحة وايها خاطئة ..!! وفي ذات الوقت الذي تزايدت فيه مساحات حرية التعبير و الاراء العابرة للحدود.. وانتهت الرقابة التقليدية ..وتزايدت قوة الراى العام العالمي عموما.. في ذات الوقت الذي تقلصت فيه حرية الفرد امام امكانية الخوض في خياراته دونما خوف.. او دونما خضوع لما يبثه الافتراضي والفضاء المرئي.. وغيره من الوسائط التواصلية التي تشحن محيطنا ووجودنا كل يوم باختراعات جديدة وافكار جديدة ..صار من غير الممكن الالمام بكل خفاياها .. وبكل ما تقدمه لنا او ما يمكننا الاعتماد عليه.. ومع تدني مستويات المعرفة ودخول البث الافتراضي والفضائي الى حياتنا الشخصية بغض النظر عن المكان ومع ذوبان المسافات داخل شبكات الانترنت... صارت داخل هذه الفوضى العارمة والكثافة المعرفية وداخل الشبحية المزيفة ومع كل وهم جديد يتم ضخه صار الفكر النقدي التقليدي يمارس افسادا للفكرة ذاتها التي نشهد على انتصارها ونعيش مجدها.. وعلى ذات الصفحة التي نقول فيها بتدهور النوع الانساني نتاج الحروب والامراض والتدمير البيئي و البطالة والارهاب والدكتاتورية وتنامي القمع والعنف......في ذات الصفحة نعلن عن مرحلة انهيار الايدلوجيات والمرجعيات التي اعاقت الفكر لازمنة طويلة .. وهددت الحياة الانسانية وسكبت فوق راس الازمة راسمالها الملعون .. انها لحظة التحرر من الوصايات ومن الحدود ..مرحلة الاختلاف المبجلة باصل السؤال الذي نحته الفكر الانساني على قضبان التاريخ ومسيرة الانسانية ..
* بين مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة انتقال وعبور لحضارة وبداية طور حضاي جديد . كيف يمكن قراءة هذا العبور بمفاهيمنا وتصوراتنا ؟!  
ما هو مهم وسيبقى دائماً .. التفرد الشعري للتحليل والقراءة ، فهذا التفرد هو الذي سيعب داخل كل قابلية وداخل كل شفافية مزيفة ، ولا يمكن بالمطلق حل التناقضات إلا داخل اللغة ذاتها وعبرها وداخل رمزيتها وغوايتها للفكر .. ومادامت أزمة اليوم ترسم ظلها على حوائط المستقبل ، وتصنع أحداثها الكبري عبر شحن الواقع بأقصى حدود التزييف والتحريف .. وتحت منشيتات وأوهام وهي في ذاتها ليست سوى استراتيجيات انتقام .. أو تقويض للاختلاف الذي صاغ مشروعية الحداثة  وروح الأنوار لمرحلة مراها ونشهد على تواريها وتوريتها وكأنها حدث عرضي وعلى حد ما يصوغه هوبر ( إني لا أرسم الخوف والوحدة ، ولكن فقط الضوء على هذا الحائط ) . ولأننا نخوض في ذات المفاهيم التى تنسحق تحت مطرقة وأنفجار مفاهيمي  جديد ومغاير وعلى انقاض مأزق نقدي أيديولوجي للعالم برمته .. ولكننا نعلق الأزمة على عنق الوسائط والوسائل المكممة أصلاً والمشوهة بأرث ( القمع ، العنف ، .. ) المادي المعنوي ، وما تحققه الهيمنة والتسلط على الوسائل والأدوات وعلى ذوات الأفراد بحجة ( النظام ) ، في ذات الوقت الذي لم يعد هناك  نظام أصلاً .. ، أي بمعني ثورة اللا – يقين ، وتناسل الاقتصاد السياسي داخل جينالوجيا الاخلاق / الوعي ، وأمام نقطة أو برزخ اللا – عودة إلى مفاهيم مرحلة ماضية إلا كحالة ( رومانسية هاربة ) ، ومع اختراع الألواح الإفتراضية  والكتابة الرقمية ، وهي الطور الثالث لمرحلة انفجارات معرفية حيث صاغتها تطور  أول الكتابة على الألواح الطينية وجذوع الأشجار والجلود .. إلى مرحلة الطباعة وسرعة الانجاز والتواصل مع مرحلة الحداثة بأنواعها الساطعة والخافتة لنطل اليوم على أنفجار معرفي غير مسبوق يمجد العقل وينتصر للانسان حيث الكتابة الافتراضية والخبر الضوئي ، والكتابة باللمس .. ، أي أن التأسيس والمؤسسة ( المنطق ) سوف يجد ذاته وصورته أمام تحول جذري وفوضي ، ولكنها في مواجهة الابتذال والتسطيح تنتصر للعقل الإنساني .. وكما شهدت القرون الماضية ( مرحلة الحداثة ) ووسائطها وأدواتها .. وتمركزها على العقل ، فهي اليوم ومع الفكر التنبؤي الذي وضع أسئلتها في أواخر القرن الماضي تشحذ تمركزها على السمعي – بصري - ، تضلله الكتابة بالضوء وتعيد بثه في أوعية افتراضية عابرة للحواجز والحدود / عابر عن أي إمكان بإيقافها أو تضليلها .. فقط بما تمليه الافتراضية ( كعتبة حضارية ) وتطور تقني لم تشهده البشرية من قبل ، يتجسد عبر سحق الذات داخل الفضاء والأوعية اللا – مادية للافتراضي ذاته .. حيث الهوية الافتراضية و ( الأنا ) المقدسة ، التى تعيش بملامح الإنسان – آلة ، واختراق الجينات وإعادة بثها والتدخل في معطياتها ونشؤها البدئي ( أنا ) جديدة يُعاد اخصابها ( بين ) الوعي واللا –وعي / بين النظام واللا – نظام ، بين الانساني واللا – انساني .. !! تكفينا مشاهدة وقراءة ميسرة لما ينشر ويبث من حولنا وأمامنا ، وعلى مختلف الواجهات والمستويات , وما تقدمه وسائط التواصل والإعلام وبخطاباتها اللا – نهائية ، والأحداث المتواترة والمتسارعة .. ، وشحن العالم بالخوف والإرهاب وقيم الاستبداد والهيمنة والدكتاتورية .. وتنامي أشكال القمع والفيروسات .. وتزايد اسطورة الإرهاب البيولوجي ، الفكري ، الديجيتالي  ، .. ومع كثافة المعلومات وتسارعها وتذويب المسافات .. لنقف أمام أزمتنا .. أزمة العالم من حولنا ، ومع تشابك العلاقات والمصالح .. تناقضها وتضاربها .. تنافرها وانصهارها .. حيث يجف منبع الضوء القديم ويعيد بناء جداره الجديد .. من واقع السخرية ذاتها والتى ما فتئت تعلن عن حدود النهايات بدء من نهاية التاريخ ، ونهاية الايديولوجيا ، نهاية المشاهد .. ، وهي ذاتها المأزق الذي يلغي حدوده داخل ( المعنى ) !! .
كما يمكنني القول تعقيباً على الأسئلة الواردة بهذا الحوار  وبما كان يجول بيننا من نقاش يخوض داخل بنية الوهم واستراتيجية  ( الفروض ) التى يمليها الواقع ويحتمها الافتراضي .. وعلى أثر ذلك فأن الفكرة لم تكن بتاتاً بهذه الصورة ، ولكنها حالة امحاء والغاء عند خط التقاطع او القطيعة بين ما هو حداثي / أو بعد حداثي ، بين المعنى واللا – معنى ، بين هذه القراءة وبين عدم وجودها على صفحات الجريدة أو على الواح الضوء الافتراضي ،، وكأننا على ذات الضوء وبصيصه نعمق الفجوة التى يقول بها سؤال الفكر ذاته .. وهي الهوة بين الفكر والواقع !!