نشر بالشمس الثقافي
مازلت أذكر – على مر السنين – تلك المرأة بتقاسيم وجهها البريء الذي يحتل الوشم الخفيف حيزاً منه متسربلة في (جردها) المخطط، فيما تبدو ساعة رجالية نوع (هيرما ذات الهلال المعروف) تلوح في معصمها ..
تخرج من بيت وتلج آخر وهي تحمل صندوقاً صغيراً تتشبث به .. هذا الصندوق الذي كان مثار قلقنا واشمئزازنا نحن الصغار! وما أن تحل على بيت من بيوتنا حتى تعلن درجة الطواريء القصوى ، ويرين الصمت والخوف ، وترتعد الفرائص ، وتنكمش الأجساد الصغيرة خلف ظهور الأمهات .. ولاتفلح جميع المحاولات الخرافية لتسكين روعنا جراء هذه الزيارة المزعجة وحلول عمتي عيشة بالمكان .. ولن تهدأ النفوس ، حتى تنتهي هذه الزيارة غير المرغوب فيها من جميع الصغار ، الذين يعرفون أنها زيارة غير عادية تبدأ بالخوف وتنتهي بالصراخ والعويل .. هذا الخوف ليس من عمتي عيشة الهادئة المستكينة الصامتة .. بل من ذلك الصندوق الصغير الذي يكتظ بكل ما يبعث على الهلع .. إنها الإبر والحقن !
ومن بعيد تظل الأعين الصغيرة تبحلق في توجس في تلك العدة الجهنمية التي يحويها الصندوق .. وتتابع الخطوات التالية في انكسار .. فبعد السلام الاعتيادي المستعجل ، تفتح عمتي عيشة كنزها الرهيب تخرج الإبر و(السرنقات) وتطلب (البابور) من أهل البيت ، ثم تضع عليه إناء به ماء وتغلي ما به جيداً .. وريثما يفور الماء وتتعقم الإبر ، تتناول عيشة الطبيبة (الروشيتة) من الأم بيد واثقة ، وتقلبها أمام عينيها لتعرف مقدار الحقنة ، وإن كانت تستلزم اختبار الحساسية ضد البنسلين ومشتقاته ، أو إن كانت في العضل أو في الوريد .. وأقول تعرف !! .. لأنها تقرأ ولاتكتب بأي لغة ! .. بل تعرف من نظرة واحدة إلى الوصفة نوعية ومقدار الحقنة .. وسبحان الله الذي يودع أسراره في خلقه الذين فطرهم على فطرته .. فهذه المرأة التي لم تدخل مدرسة في حياتها تلجؤها الظروف والحاجة إلى فك رموز الروشيتة وضرب الحقن وقياس الحرارة بذكاء حاد وإلهام فطري لايخطيء.
وعمتي عيشة تعرف – بحكم ممارستها لهذه المهنة – أنها ضيف غير مرغوب فيه من قبل الصغار .. لكنها تعرف أكثر أنها تحمل في صندوقها العجيب الشفاء العاجل – بإذن الله – لهذا الطفل الذي أقعده السعال أو التهاب اللوزتين أو نزلة حادة عن مغادرة الفراش والخروج إلى الشارع ، أو الالتحاق بأترابه في المدرسة .. فيداخلها شعور كبير بالاطمئنان لما تقوم به في ذات الوقت الذي حكم فيه المجتمع أحادي النظرة على المرأة بالنظر إلى الدنيا من خلال فتحة (الجرد) وعدم تجاوز عتبة المطبخ .. فكانت عمتي عيشة مثالاً للمرأة الصلبة الجريئة التي اقتحمت هذا العالم الموحش منذ زمن مبكر.
وتغادر عمتي عيشة البيت بعد أن تدعو بالشفاء .. فيما نقابل نحن الصغار دعاءها بدعاء آخر مغاير ، يعني فيما يعني الرغبة في عدم رؤيتها من جديد !..
عيشة الطبيبة .. لعلكم علافتم السر وراء هذا اللقب الحركي الذي ظلت تجره خلفها حتى رحيلها عن عالمنا .. لكنها جاءت إلى هذه المدينة بلقب آخر من واحة الكفرة البعيدة .. إنه لقب (التارقية) .. هناك يعرفونها بهذا اللقب ، نسبةً إلى أمها التي تنتمي إلى قبيلة الطوارق .. أما اسمها مجرداً فهو ( عائشة بلقاسم عبد العالي دخيل) من قبيلة ازوية من بيت السديد (منايع) .. ولدت في الكفرة سنة 1928ف .. ودخل حياتها ستة رجال ، أنجبت من أربعة منهم .. لكنها غادرتهم جميعهم لأسباب مختلفة .. لكن لعل السبب المشترك الذي جعلها تنفصل عنهم هو الحرص الشديد على مصروفات البيت ، وحجب التموين في صناديق مغلقة .. (هذه المعلومة أوردها ابنها الحاج سعد الشاكة ، حين سألها عن سبب طلاقها من أزواجها الستة !) .. لأنها كانت على النقيض منهم جميعاً .. إذ كانت كريمة تكره البخل والحرص وأهله .
ووجدت عمتي عيشة نفسها تعيش استقلالاً ذاتياً وتعتمد على نفسها ، فتعلمت حياكة القبعات البيضاء (المعارق ) .. لتعيش من ثمنها ، ثم اقتنت ماكينة خياطة بعد آنست في نفسها خياطة وتفصيل الملابس .
وفي االعشرين من عمرها صحبت آخر أزواجها إلى أجدابيا .. ولم تطل حياتها معه .. فوجدت نفسها بعد خمس سنوات ، وتحديداً سند 1953ف تلتحق بالعمل كعاملة في مستشفى (سعد الله بن سعود – أحد وزراء أول حكومة ليبية) الذي يستغله الهلال الأحمر الآن ، براتب قدره (سبعة قروش!) في اليوم .. أي مايساوي جنيهين وعشرة قروش في الشهر .. ولأنها لم تدخل المدرسة ، فلم تكن مؤهلة لدخول عالم التمريض الذي كانت تحبه وتجد فيه ذاتها مثلما فعلت زميلتها السيدة الفاضلة (حليمة خفاجي) التي تٌعد أول ممرضة في إجدابيا في الخمسينيات .. لكن كان عليها أن تعتمد علي ذكائها ليقودها إلى تعلم ضرب الإبرة ومعرفة نوعها ومقدارها .
ولعمتي عيشة أسلوب آخر في حياتها ، تلوذ به حين تطبق عليها لقمة العيش ولسعي المضني وراءه .. فلم تنس أن تغتصب لنفسها المكدودة وقتاً ممتعاً عندما تركن إلى ذلك المذياع العتيق (فليبس) بأزراره الكبيرة المرصوفة على واجهته ، وبطاريته الضخمة التي تربض بجانبه وهوائيه المتصل بعلبة صفيح مملوءة بالتراب والفحم .. وكثيراً ما يفاجئها أهل بيتها وهي تهز رأسها طرباً لصوت شادي الجبل أو علي الشعالية ، أو نوبة المالوف .. فخلال هذه الساعات التي تختلسها من ضرب الحقن وخياطة الملابس و (المعارق) ، كان يحلو لها أن تدعو جاراتها القريبات لمشاركتها هذا الاحتفال الصغير والاستماع إلى برامج الأسرة المشهورة (عبده الطرابلسي) ، والاستمتاع معها بتناول الشاهي والكاكوية والغريبة الهشة المتوجة بحبات القرنفل .
وظلت حياتها على هذا المنوال .. بين صندوق الحقن والماكينة ومسؤوليات ذلك البيت الذي شرع سكانه في النمو على نحو مضطرد .. وتحتَم على هذه المرأة أن تتحدى معاناتها وآلامها وحياتها القاسية ، عندما كانت تصارع ضغوط يومها ، في محاولة خرافية لتأمين الترر اليسير من قوت أسرتها على هذا النمط .. فلم تستسلم لنكبات الزمن .. بل هبت ابتسامة القناعة تغمر روحها المتحدية .. ولم يُنسها كفاحها اليومي وجولاتُها المكوكية على البيوت أن تفرض نظاماً صارماً على كل من حولها .. لأنها تدرك أن الأفراط في التدليل سيعود عليهم سلباً .. فحرصت على تربيتهم على الصدق ونبذ الكذب والرذيلة .. وفي هذا يروي ابنها ما حدث له حين حاولت نفسه الصغيرة الكذب عليها .. فقد أرسلته أمه ليبيع آخر (معرقة) فرغت من حياكتها .. وكان ثمنها عشرة قروش .، بعد أن تضاعف ثمنها بالتدريج من ثلاثة قروش إلى عشرة قروش ، ووسوست له نفسه ان يختلس منها قرشاً ويشتري به علبة بسكويت .. وجعل التسعة قروش الباقية في صرة ورمى بها في حجر أمه ، ظناً منه انها لن تعد المبلغ .. لكن خاب ظنه سريعاً عندما عدت أمه النقود واكتشفت اختفاء قرش منها .. فسألته عنه ، فادعى أنه ضاع في الطريق .. ولم تصدق الأم هذا الإدعاء لأن قلبها دليلها واكتشفت تلعثم ابنها في الإجابة .. لكن الابن فضل عدم الانهزام ، والسير في إدعائه إلى النهاية .. وتصر الأم على كشف كذبته الصغيرة .. فجاءت بغربال ، وطلبت منه مرافقته إلى حيث فقد القرش .. وعبثاً حاول ابنها غربلة أكوام التراب ، لأنه يعلم جيداً أن القرش هو الآن في بطنه بعد أن تحول إلى قطعة بسكويت .. وتستمر الغربلة .. والأم تقف على رأس ولدها الشقي مثل مقص .. وينثال العرق .. وتزداد الربكة .. وتنذر الأجواء بالعقاب الوخيم .. فلم يجد بداً من الاستسلام لرحمتها .. معتمداً على حنانها وحده .. فهو الوحيد الذي سينقذه من هذه الورطة .. ويعترف الابن بسرقة القرش .. فابتسمت في وجهه ، انتصاراً لحدسها الذي لايخيب ، لأنها كانت تنتظر هذا الاعتراف .. وسحبته من يده إلى البيت لتخرج له من درج الماكينة قطعة بسكويت .. وتعنفه على هذه العادة الذميمة .. ولم تتركه حتى اغتصبت منه وعداً بعدم معاودة ما فعل .
لم يُعرف عن عمتي عيشة وهي تنتقل بين البيوت الناس نقلها لأسرار ساكنيها .. او المشي بالفتنة بينهم .. فهي بطبعها قليلة الكلام ، لاتحب الثرثرة وكثرة القيل والقال .. ولأن وقتها لايسمح لها بالبقاء بعد إعطاء الحقنة .. فحافظت على مساحة من الود والتوقير في محيطها سبعة وعشرين عاماً حتى اختارها الله إلى جواره سنة 1980ف بعد أن صحبت صديقها السكر لعشرة أعوام كاملة ، ثم تلاه جاره العنيد الضغط .. وتوفيت بمستشفى الهواري ودفنت بمدينة اجدابيا .
أثنان وخمسون عاماً هي كل ما اختلسته من الدنيا .. اثبتت فيها أن الحياة قد تعوض الإنسان بعض ما أخذته منه .. وعمتي عيشة عرفت كيف تأخذ حقها من الحياة .. فعاشت كما ينبغي .. وماتت كما ينبغي .. رحمها الله .. وجعل قبرها روضةً من رياض الجنة .. حتى يلقاها وهو راضٍٍ عنها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق