نشر بالشمس الثقافي تحت زاوية "مسافات"
(1)
لم أجد في هذا الليل الوحيد شرفة صغيرة،
أضع خدّي على نقاوة رخامها ،
مرتشفا نكهة برودته المنعشة
لعلّي أستمتع قليلا برؤية الريح والأطفال والحدائق والأعياد .
لم أجد بابا رحيما أطرقه ،
أو قصيدة نثر نظيفة من ترّهات البكتريا .
لم التق شاعر حداثة ،
إلا ويدّعي الصداع وغزو الحانات ،
وتفكيك الجسد ، وطرد الجنّ من أودية الموسيقى .
لم أجد في صندوق بريدي رسالة واحدة ،
أثق في نزاهة صدقها أو نقاوة حبرها
لكي أبادلها الحنين كلاجئ أو عاشق أو شحاذ ،
لم أجد وردة أطمئن إلى شوكها حتى أضعها كتاج من الوجد
على رأس حبيبتي ..
لأني لم أجد في آخر طبعة رديئة من كتاب ( طوق الحمامة ) ،
حبيبة واحدة لم تغدر بي نزوتها ، كلما سرقني الوجع
بعيدا عن مزاج مخالبها .
فما أكاد أتشبّث بمتن امرأة
حتى تنهار جدران محبّتي اثر أول هزّة ليقين الخديعة .
ولأنّي أيضا .................
لم أجد في كل المصنّفات الأثيرة ،
من ألف ليلة وليلة إلى (12 دقيقة ) لباولو كويلهو ،
مرورا بقفشات الشيخ النفزاوي
غير نسخة رثّة لامرأة مفتونة بتاريخها السرّي ،
تقشّر في كل ليلة لاهبة برتقال نشوتها ،
وتفلّي ذاكرة أيميلها بحثا عن عشاق الأثير .
(2)
يلزمني إذن فصد هذه الهشاشة التي تجعلني أتشظّى تيها ،
كلّما تجرأت امرأة عاشقة على شطيرة قلبي ،
انهمر متضرّعا تحت قدميها ،
ومثل صوفيّ شفّه الوجد، أقبّل أحذية كل الأنبياء ،
لكي يقودوا شعوب الأرض بقضّها وقضيضها إلى الجنّة الموعودة ،
ويتركوا لي صدرها جحيما أتمرّغ على تاريخه بفم الغابة ،
وذاكرة المجاعات الأفريقية .
لكني الآن أتوسّل لهم خاشعا ،
أن يأخذوا جميع المعاجم الصفراء ومعابد العشق ،
وحقول تفاح الغواية ، وتضاريس البذاءات المغرورة بأكاذيبها ،
ودواوين الأشعار الثملة بسكر خلاعتها ،إلى المتاحف
والمخازن و المعتقلات .
لأنّي لم أعد مولعا بسحر هذا المنفى الملائكيّ
الذي اخترته فيما مضى طوعا ، وأنا في كامل ثيابي العقلية .
لهذا قررت أخيرا أن أستأصل هشاشة قلبي
لعلّي أستردّ ما تبقّى من أحلامي المعتقلة .
(3)
لم تعد تغريني كما كنت أهوى ، فكرة الموت بين أحضان
غيمة تمطر ، أو على صدر أنثى فتية ،
فقد طلّقت شغفي بالنجوم والنبيذ والغناء ،
والسفر في قطارات الليل ،
واختراق السّرر الفاتنة لعواصم المجون
وأقبية المسرّات .
(4)
لاشيء الآن يجعلني سعيدا
سوى النوم في صحراء قصيدتي ،
في كهوف صمتها ،
والنظر إلى جدرانها البدائية ،
خالية من المسامير والضوضاء و فيشات الكهرباء .
لأنّي انتزعت كل اللوحات وصور العاشقات وعناوين الرغبة
من بريد قلبي وخزائن ولهي ..
ولم اترك شيئا يستحق الذكر سوى نسيج العنكبوت .
فقط ،
سأظلّ في ما تبقّى من رحلة الرئة ،
أعني رئتي التي امتصّت كل أنواع السموم
وحقن الكيماوي ، وغبار القارات البعيدة ، ورحيق الشفاه
رئتي التي رشفت رضاب الألفة ، وسحب التبغ الرخيص وعطر الحرائق
و عواء الحروب وهي تلفظ في شرايين قلبي حمّى منجنيقاتها ،
من دون أن تهبني سانحة آمنة ..
لكي أحمل خيالي نظيفا إلى السرير
وأطفالي إلى برّ الأحلام البريئة
وجراحي إلى الجنّة .
.............
سأظل في القصيدة ،
سأظل، أنا الحبيب ، لا أحد ...
لا نساء ،لا نبيذ ، لا رسائل ، لا بلد .
(5)
سأظل رهنا بوله قصيدتي،
متيما بها وهي في أبهى تجليات عريها ،
صامتة وماكرة ومستوحشة ،
ووحيدة كلغم مهجور
يترقّب فاجعة ضحاياه
من الغاوين الذين ترمي بهم النزوات
على تخومها ، وقد علقوا بزغب حراشف جبّها الشبق .
ما أن تلمس أصابع شهوتهم الثملة حلمة الدنس النافرة ،
حتى تتفتّت قباب لذّتهم ،
وقد تحولت إلى مزق من الحكايات المحزنة .
مدينا في ذلك لامرأة النور الملائكي ،
الفاتكة بفتنتها الضالة ،
التي حولتني من عابد مهووس بخرائط المتع ،
إلى راهب سرّ ،
وكاهن خفاء ،
وملك فتوحات .
(6)
أعرف الآن كيف استخلص خيمياء النار
من عصارة الظلمة .
لا شيء يستفزّني أو يستنفر شهوتي بعد هذا الصحو المبارك ،
والصبح العارف الذي انبثقت حكمة براهينه
من زوبعة بلهاء ، لم تعد جديرة بهبة الكاريزما ،
بعد أن أهملت بصيغة المضارع ، جعجعة تفسخّها
تتعفّن منبوذة في وكرها العطن .
(7)
المجد إذن لهذا الخسوف الذي اكتشفت هدي بصيرته
حين علقت فراشة مزهوة بنفسها بين براثن زهرة ضارية ،
فسبحان الجليل الواحد الأحد الذي لا أحد إلا هو ،
إذ يودع السرّ في أضأل خلقه .
هكذا صرت موقنا قبل فوات الأوان
: أن ليس كل ما يلمع ذهبا ..
هكذا أولا ، وهكذا أخيرا ،
: يصل النثر إلى مطافه الآمن ،
قابضا بمخيلة واثقة على حجّة اليقين ،
من دون أن يهزأ من روح الموسيقى ،
أو يخلع حدس النار .