الأربعاء، 9 يوليو 2014

فصد معلن لتاريخ الوله .. مفتاح العماري



نشر بالشمس الثقافي تحت زاوية "مسافات"
                 (1)
لم أجد في هذا الليل الوحيد شرفة صغيرة،
 أضع خدّي على نقاوة رخامها ،
مرتشفا نكهة برودته المنعشة
 لعلّي أستمتع قليلا برؤية الريح والأطفال والحدائق والأعياد .
لم أجد بابا رحيما أطرقه ،
 أو قصيدة نثر نظيفة من ترّهات البكتريا .
لم التق شاعر حداثة ، 
إلا ويدّعي الصداع وغزو الحانات ،
 وتفكيك الجسد ، وطرد الجنّ من أودية الموسيقى .
 لم أجد في صندوق بريدي رسالة واحدة ،
 أثق في نزاهة صدقها أو نقاوة حبرها
 لكي  أبادلها الحنين كلاجئ  أو عاشق أو شحاذ ،
 لم أجد وردة أطمئن إلى شوكها  حتى أضعها كتاج من الوجد
 على رأس حبيبتي .. 
لأني لم أجد في آخر طبعة رديئة من كتاب ( طوق الحمامة ) ،
حبيبة واحدة  لم تغدر بي نزوتها ، كلما سرقني الوجع 
 بعيدا عن مزاج مخالبها .
فما أكاد أتشبّث بمتن امرأة 
حتى تنهار جدران محبّتي اثر أول هزّة ليقين الخديعة .
ولأنّي أيضا .................
لم أجد في كل المصنّفات الأثيرة ،
 من ألف ليلة وليلة إلى (12 دقيقة ) لباولو كويلهو ، 
مرورا بقفشات الشيخ  النفزاوي 
  غير  نسخة رثّة لامرأة مفتونة بتاريخها  السرّي ،
 تقشّر  في كل ليلة لاهبة برتقال نشوتها ، 
وتفلّي ذاكرة أيميلها بحثا عن عشاق الأثير .

            (2)
يلزمني إذن فصد هذه الهشاشة التي تجعلني أتشظّى تيها ،
 كلّما تجرأت امرأة عاشقة على شطيرة قلبي ،
 انهمر متضرّعا تحت قدميها  ،
 ومثل صوفيّ شفّه الوجد، أقبّل أحذية كل الأنبياء ، 
لكي  يقودوا شعوب الأرض بقضّها وقضيضها إلى الجنّة الموعودة ، 
ويتركوا لي  صدرها جحيما أتمرّغ على تاريخه بفم الغابة ، 
وذاكرة المجاعات الأفريقية . 
لكني الآن أتوسّل لهم خاشعا ،
  أن يأخذوا جميع المعاجم الصفراء ومعابد العشق ،
 وحقول تفاح الغواية ،  وتضاريس البذاءات المغرورة بأكاذيبها ، 
ودواوين الأشعار الثملة بسكر خلاعتها ،إلى المتاحف 
والمخازن و المعتقلات .
لأنّي  لم أعد مولعا بسحر هذا المنفى الملائكيّ 
 الذي اخترته فيما مضى طوعا ، وأنا في كامل ثيابي العقلية . 
لهذا قررت أخيرا أن أستأصل هشاشة قلبي 
لعلّي أستردّ ما تبقّى من أحلامي  المعتقلة .

          (3)
لم تعد تغريني كما كنت أهوى ، فكرة الموت بين أحضان
 غيمة تمطر ، أو على صدر أنثى فتية ،
فقد طلّقت شغفي  بالنجوم والنبيذ والغناء  ،
 والسفر في قطارات الليل ،
 واختراق السّرر  الفاتنة لعواصم المجون
 وأقبية المسرّات  . 

          (4)
لاشيء الآن يجعلني سعيدا 
سوى النوم في صحراء قصيدتي ،
 في كهوف صمتها ،
 والنظر إلى جدرانها البدائية ،
خالية من المسامير  والضوضاء و فيشات الكهرباء .
لأنّي انتزعت كل اللوحات وصور العاشقات  وعناوين الرغبة 
من بريد قلبي  وخزائن ولهي .. 
ولم اترك شيئا يستحق الذكر سوى نسيج العنكبوت .
 فقط ، 
سأظلّ في ما تبقّى من رحلة الرئة ،
 أعني رئتي التي امتصّت كل أنواع السموم 
 وحقن الكيماوي ، وغبار القارات البعيدة ،  ورحيق الشفاه 
رئتي التي رشفت رضاب الألفة ، وسحب التبغ الرخيص وعطر الحرائق
 و عواء الحروب وهي تلفظ في شرايين قلبي حمّى منجنيقاتها ،
من دون أن تهبني سانحة آمنة ..
لكي أحمل خيالي نظيفا إلى السرير 
وأطفالي إلى برّ الأحلام البريئة  
وجراحي إلى الجنّة . 
.............
سأظل في القصيدة ،
سأظل، أنا الحبيب ، لا أحد ...
لا نساء ،لا نبيذ  ، لا رسائل ،  لا بلد .

          (5)
سأظل رهنا بوله قصيدتي،  
متيما بها وهي في أبهى تجليات عريها ، 
صامتة وماكرة ومستوحشة ،
 ووحيدة كلغم مهجور
  يترقّب فاجعة ضحاياه 
من الغاوين الذين ترمي بهم النزوات
 على تخومها ، وقد علقوا  بزغب حراشف جبّها الشبق .
 ما أن تلمس أصابع شهوتهم الثملة حلمة الدنس النافرة ،
حتى تتفتّت قباب لذّتهم ،
وقد تحولت إلى مزق من الحكايات المحزنة . 
مدينا في ذلك لامرأة النور الملائكي ، 
 الفاتكة بفتنتها الضالة ، 
التي حولتني من عابد مهووس بخرائط المتع ، 
 إلى راهب سرّ ،
 وكاهن خفاء ،
 وملك فتوحات .

            (6)
 أعرف الآن كيف استخلص خيمياء النار 
من عصارة الظلمة . 
لا شيء يستفزّني أو يستنفر شهوتي بعد هذا الصحو المبارك ،
والصبح العارف الذي انبثقت حكمة براهينه
 من زوبعة بلهاء ، لم تعد جديرة بهبة الكاريزما ، 
بعد أن أهملت بصيغة المضارع ، جعجعة تفسخّها 
تتعفّن منبوذة في وكرها العطن .

                   (7)
 المجد إذن لهذا الخسوف الذي اكتشفت هدي بصيرته  
حين علقت فراشة مزهوة بنفسها  بين براثن زهرة ضارية ،
 فسبحان الجليل الواحد الأحد الذي لا أحد إلا هو ، 
إذ يودع السرّ في  أضأل خلقه .
هكذا صرت موقنا قبل فوات الأوان
 : أن ليس كل ما يلمع ذهبا .. 
هكذا أولا ، وهكذا أخيرا ،
 : يصل النثر  إلى مطافه الآمن ،
 قابضا بمخيلة واثقة على حجّة اليقين ،
من دون أن يهزأ من روح الموسيقى ، 
أو يخلع حدس النار  .





ليست هناك تعليقات: