الجمعة، 4 يوليو 2014

علي فهمي خشيم مغامر لا يعترف بحدود للتفكير


الصورة من أرشيفي الخاص وهي لحفل تأبين الدكتور رحمه الله



عبدالله سالم مليطان
نشر بالشمس الثقافي



الحديث عن الدكتور علي فهمي خشيم مثل الحديث عن البحر يطول ولا ينتهي ... فإذا ما ألقيت ببصرك نحو البحر فإنه سيمتد إلى ما لا حد له وإن اقتصرت الحديث عما فيه من مياه فمعنى ذلك أنك تتحدث عن الحياة ... ولو تحدثت عن شواطئه فإن حديثك حتماً ينصب عن الازدهار والتحضر حيث ضفاف الحياة  ... ولو غصت في أعماقه فقد ظفرت منه بكل شيء .
هكذا هو علي فهمي خشيم ... بحر من العلوم والمعارف إن اقتربت من عالمه أخذك إلى عوالم أكثر اتساعاً ووجدت نفسك تبحر في فضاءات الشعر والمسرح والرواية والتاريخ والترجمة والفلسفة والتصوف واللغة .
الشعر عند علي فهمي خشيم يعزز ارتباطك بالوطن لتترنم بعشق هذا البلد وركح مسرحه يأخذك إلى روائع الإبداع الإنساني وعوالم روايته يزيد من فخرك بالانتماء إلى أعظم الرجال وتاريخه يقودك إلى ما تجهله من الأحداث في حين تأسرك تراجمه بلغة لا تجعلك تمل كلما أعدت وفي فلسفته تزداد من الإيمان بقيمة العقل أما تصوفه فيشعرك بالمزيد من النسكك والتطهر وإذا ما ولجت عالمه اللغوي فإنك ستكتشف ما لم تكن تعلمه من لغتك وما يتخاطب به أهلك ومن هم حولك من البشر .
لذلك تصبح حقيقة الحديث عن علي فهمي خشيم صنو الحديث عن البحر يطول ولا ينتهي .
علاقتي الشخصية بالعالم الجليل علي فهمي خشيم تعود إلى ثلاث عقود مضت حين كنت طالباً بالمرحلة الإعدادية بمدرسة الشاعر أحمد البهلول بمنطقة الزروق بمصراته .... ولتلك العلاقة قصة ظريفة .
كنت أثناء دراستي بالمرحلة الإعدادية مولعاً بالمراسلة فما وجدت عنوان شاب في مجلة إلا وراسلته وما وقعت عيناي على عنوان فتاة إلا وتمنيت مراسلتها غير أن الظروف الاجتماعية كانت تحول بيني وبين ممارسة تلك الهواية والتي تصل بمقاييس ذلك الزمن إلى الخطيئة (شاب يراسل فتاة) يا للهول !!
العادة الجارية أيام دراستي بمدرسة أحمد البهلول أن الرسائل عندما تصل إلى المدرسة تخضع للكشف عن مرسليها ثم تحال إلى الإذاعة المدرسية لينادى عبر مكبر الصوت عن المرسلة إليهم ولا أظن أنه نودي مرة على اثنين لاستلام رسالة إلا وكنت أحدهما ... ذات مرة نودي على لاستلام رسالة جاء البريد بها وعندما جئت لاستلامها قيل لي إن رسالتك لدى المدير ومدير المدرسة وقتها كان الأستاذ محمد الكيلاني وهو من هو في الشدة والصرامة والانضباط كان مثالاً للمعلم المربي ... الجميع يخشاه طلاباً ومعلمين .... يا للمصيبة ماذا عن هذه الرسالة وما سر حجز المدير لها .
فكرت ملياً في الأمر  ثم تجاسرت وذهبت إلى الإدارة .. بسم الله يا ستار ... صبحت على السيد المدير وقبل أن أسأله قال لي : (أنت ولد عائلة محترمة وباين بتخرج عن الأصول) ... يا الهي ما الأمر ... قلت ذلك في نفسي ودون أن أتكلم واصل المدير (أنت تراسل في البنات مش عيب عليك) ومد لي الرسالة ... رسالة من العراق وأظن أنها من الأنبار  ومن شاب أذكر أن اسمه إحسان وهو من الأسماء التي جرت العادة في مشرق الوطن أن يتسمى بها البنين والبنات ... قلت للمدير إنه ولد ... والله ولد وفتحت الرسالة لكي أؤكد له ذلك وتحسست أن في الرسالة صورته ففرحت لحظتها .... إن دليلي سكون قوياً على أنه فعلاً ولد وما أن نظرت الصورة حتى صدمت ... لن يكون الدليل قوياً لآن الشاب احسان كان صغير السن قليلاً ووسيما وشعره طويل ... للوهلة الأولى يبدو أنه فتاة فعلاً .... ومع أن المدير تظاهر بأنه صدقني لكنني على ثقة بأنه لا يزال ـ وربما إلى الآن ـ معتقداً أن إحسان بنتاً لا ولداً وفي كل الأحوال صفح عني متوعداً بأنه لو تكرر الأمر فإن العقاب سيكون شديداً وهكذا انتهى أمر أحسان بسلام .
بعد أسبوعين تقريباً تكرر الموقف جئت لاستلام رسالة جاءت إلي عبر البريد وقيل لي إنها عند المدير ... بصراحة هذه المرة فكرت في الهروب حتى لا تكون (فضيحة بجلاجل) ومن السور ... ولكن لو هربت ستكون المصيبة أكبر وسيصل الأمر إلى استدعاء ولي أمري وحينها سيأخذ الأمر بعداً آخر ... لكن بعض الزملاء نصحني بأن أذهب للمدير لتدارك الأمر حتى لا تصل الأمور للبيت .. وهذا ما حدث توكلت على الله ودعوته بالسترة وذهبت إلى الإدارة ... وما أن دخلت الإدارة حتى وجدت المدير ومعه مدرس الاجتماع " محمد رمضان المغربي" الذي ينوب عنه عادة في بعض المسائل الإدارية . ومعاً قالا لي تعالى إلى المكتبة .. وهي غرفة بجانب الإدارة تستغل غالباً في غير أوقات حصة المكتبة للفلقة ! ... ليس أمامي إلا الامتثال للأمر ... دخلت المكتبة وأقفل الباب وجلس الاثنان بينما وقفت أمامهما مواجهاً مصيري ... ماذا وراء هذه الرسالة .. ولعنت في داخلي اليوم الذي فكرت فيه بالمراسلة أصلاً  !
بادرني المدير ... قولي منين تعرف صاحب الرسالة أنت منين تعرف واحد زي هذا ... مدرس الاجتماع أنت في الإعدادي (شن جابك لواحد زي هذا) ... يا الهي ماذا حدث من صاحب الرسالة ....وأعاد المدير(منين تعرف الناس هادوا) .. وكدت أن أسقط على الأرض من هول ما وضعاني فيه من جو مرعب لولا أن واصل المدير قوله : أنت منين تعرف علي فهمي خشيم ... وانهارت عيناي بالدمع .. أأعاقب على مراسلة علي فهمي خشيم ... وابتسم الاثنان لازم نفتحوا  الرسالة ونعرفوا " شن فيها " ... ومن الفرح والخوف معاً مددت يدي للرسالة وفتحتها غير عابئ بطلبهما وقرأتها عليهما وعلامات الرضا  والبهجة واضحة على وجهيهما ! ... سبحان الله رسالة تجعلك مطأطئ الرأس خوفاً من العقاب ورسالة ترفع رأسك لتغير كل شيء من حولك ... تغيرت معاملة المدير ونائبه ...   المدرسين تغيرت نظرتهم لي .. المثقفين من الطلاب من زملاء الفصل والمدرسة أيضاً بدأت نظرتهم تتغير نحوي  ... 
أول لقاء مباشر بالأستاذ الجليل كان في مصراته عام 1981م حيث المهرجان الكبير الذي أقيم بمناسبة مرور خمسمائة عام على وفاة الصوفي العالم أحمد زروق والذي كان الأستاذ الجليل يضطلع بمهمة الإشراف عليه مع عدد من أساتذة الجامعة ... كان اللقاء تحديداً بأحد الفصول الدراسية بمدرسة أحمد البهلول التي اتخذت مقراً للمعرض الذي أقيم على هامش المهرجان حيث كان يشرف على ترتيب محتوياته ... كان مشغولاً جداً ومع ذلك انبسط بلقائي ... كان مثقلاً بهموم المعرض إلا أنه كان يجاملني بين الحين والآخر ويتحدث معي وكأننا أصدقاء منذ زمن .
وتكرر اللقاء بالأستاذ الجليل على مدى أيام المهرجان التي كنت مواظباً على حضورها صباحاً ومساءً وكنت ـ ولا أزال ـ مفتخراً متباهياً بمعرفتي الشخصية به ... مجرد أن يحييني ويناديني باسمي "عبدالله" وهو يتنقل من هنا وهناك متابعاً تفاصيل المهرجان كنت أحس بفرح غامر ... هامة كبيرة بقيمة علي فهمي خشيم يحي تلميذ مثلي صغير وقتها ـ ولازلت في حضرته حتى الآن كذلك ـ يا للفرح والحبور !
وانقضت أيام المهرجان وغادر الأستاذ الجليل مصراته مع من كان معه من علماء وباحثين من شتى البلدان وبقيت معلقاً معجباً به .. بعلمه وبلطفه وبمجاملته ... متأملاً أن تتكرر فرصة اللقاء به مرة أخرى .
***
لم تنقطع صلتي بالأستاذ الجليل كنت أتواصل معه عبر الاتصالات الهاتفية أحياناً وباللقاء المباشر أحياناً آخر ... فكلما جاء لزيارة مصراتة يمر على صديقه وصديقي فيما بعد المرحوم محمد البري صاحب مكتبة الشعب ... كنت أترصد مروره على مكتبة الشعب وأسأل البري عن موعد مروره المعتاد عليه وكلما التقينا سألني عن آخر ما قرأت مشجعاً على المزيد موجهاً لقراءة بعض الكتب التي كان يرى ضرورة اطلاعي عليها وأذكر أن من بين الكتب التي نصحني بقراءتها كتاب "قصة الحضارة" لديورنت حيث أذكر أنه قالي لي عندما تقرآ هذا الكتاب ستتكشف لك حضارة الإنسان وستكتشف كثيراً من الأمور التي لا ينبغي لمن يتطلع إلى المعرفة أن يغفلها ... 
***
ومرت الأيام والأعوام وأكملت دراستي الإعدادية ثم الثانوية وانتقلت إلى طرابلس للدراسة الجامعية ملتحقاً بالإذاعة مشاركاً في إعداد وتقديم بعض برامجها إلى جانب تعاوني مع بعض الصحف والمجلات ... وكان كلما اتقيته يستحثني على التفرغ الكامل للدراسة وعدم الاكتراث كثيراً بالصحافة والإذاعة ... إنها تستنزف الوقت وقد تجني على مستوى تحصيلك الجامعي .... لا بد أن تتفرغ بالكامل للدراسة لتحصل على تقدير يؤهلك لمواصلة دراستك العليا ...وتخرجت من الجامعة والتحقت بالدراسات العليا وحصلت على الدبلوم لتبدأ رحلة الحيرة التي يمر بها عادة طلاب الماجستير ... أي موضوع يختار ليجد ما يكتب فيه وليضيف فيه جديداً .
استمرت الحيرة وقتاً لا بأس به حتى عثرت على دراسة قدمها الأستاذ الجليل في مؤتمر الغزو الثقافي الصهيوني الإمبريالي الذي أقيم بتونس في أبريل 1982م بعنوان (الجذور التاريخية للغزو الفكري في صدر الإسلام .. نماذج وآثار) قرأت الدراسة وتوقفت عند موضوعها الذي كان متوافقاً إلى حد كبير مع موقفي من الدخيل في تراثنا فحزمت أمري واقترحت على الأستاذ الجليل أن يتولى مهمة الإشراف على دراستي لهذا الموضوع ورغم مشاغلي وضيق وقته رحب بتولي هذه المهمة لأباشر بجمع المصادر والمراجع لهذا الموضوع مستعيناً بتوجيهاته ونصائحه التي كانت حافزاً كبيراً ومشجعاً لي من ناحية ومسؤولية كبيرة من ناحية أخرى فإشراف أستاذ جليل مثل علي فهمي خشيم لا بد أنه سيختلف كثيراً عن غيره لا بد أنه سيحملك مسؤولية أكبر من حيث الجدية والدقة والانتباه لكثير من التفاصيل .. وهذا ما كان فعلاً ما مر فصل من فصول الدراسة عليه وأجازه إلا وتنفست الصعداء حتى أتممت فصولها وسلمني آخر ملاحظاته وترشيحه للجنة المناقشة .. كان يلاحظ على كل صغيرة وكبيرة يتوقف عند الفاصلة والشارحة والقاطعة كان يتابع بكل دقة كل التفاصيل .... لا بد أن تنتبه يا عبدالله لدقائق الأمور لا بد أن تجعل من عملك العلمي  متعة للقارئ ما فائدة أن ترص المعلومات رصاً وتنفر منك القارئ .
وتجاوزت بحمد الله وجهد الأستاذ الجليل مرحلة الماجستير ونشرت الدراسة وعدت بحماس كبير للصحافة والإذاعة وهو من ورائي ...  أكمل دراستك ... خذ الدكتوراه أولاً وافعل بعد ذلك ما تشاء ... والحمد لله وبدعمه وتشجيعه وبإشرافه أيضاً نلت الدكتوراه ... ويعلم الله كم تحمل الأستاذ الجليل من عناء ومتاعب رغم انشغالاته العديدة حتى أتممت أطروحتي التي حصلت بها على درجة الامتياز بتوفيق من الله وبفضل توجيهاته وملاحظاته
شاءت الأقدار أن أسافر بمعيته ـ للمرة الأولى ـ  إلى أبوظبي بدعوة كريمة من مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري لحضور الدورة التي أقامتها المؤسسة للشاعر أحمد مشاري العدواني وبرفقة الأستاذ الكبير علي مصطفى المصراتي والشاعر الراحل علي الفزاني .... كنت متخوفاً من تلك الرفقة فكيف لي أن أجلس جنباً إلى جنب معه ومع الأستاذ المصراتي .... لكن الحظ كان لصالحي فقد سافرنا عن طريق تونس وكان ثمة فارق زمني بين مسار الرحلة من طرابلس إلى تونس ومنها إلى أبوظبي ... المساحة الزمنية بين الرحلتين والتي أمضيناها في تونس مكنتنا من مشاهدة أحد الأفلام التونسية الجديدة وقتها وهو فيلم "صيف حلق الوادي" للمخرج التونسي فريد بوغدير .... دخلت السينما رفقة الأستاذين الجليلين وما أن بدأ العرض حتى شعرت بالحرج فثمة مشاهد فاضحة كنت أواري وجهي خجلاً منهما لكن الأستاذ المصراتي بذوقه ودعاباته سرعان ما أزال عني ذلك الحرج بأحاديثه الجانبية التي تحول دون الانتباه والتركيز على بعض تفاصيل الفيلم إلا أنه في نهاية المطاف وبكل صراحة وهدوء قال لي ... فيلم زي هذا تشوفه مع خشيم والمصراتي .
ووصلنا أبوظبي لتستمر الرفقة أيام شعرت فيها بالقرب أكثر من عالم الأستاذ الجليل وتعلمت منه في تلك الرحلة كيف يمكن للمرء أن يعتز بذاته وألا يتهافت على الأضواء فقد رأيت بأم عيني كيف كان الصحفيون يتسابقون للحوار معه وكيف كان يرد ومتى يقبل .... وتتكرر الرفقة بالأستاذ الجليل مرة أخرى وإلى الكويت لحضور إحدى دورات مهرجان القرن الثقافي صحبة الأديب الدكتور محمد أحمد وريث والراحل الدكتور محمود التائب وكان كلما حل الأستاذ الجليل بجلسة كان النجم المبرز فيها بتدفق علمه وحواره الجاد وأسلوبه المتفرد ولغته الأخاذة ... شخصيات علمية وإعلامية تتسابق للسلام عليه والتحدث إليه .... صحفيون وصحفيات يلهثون وراءه للحوار أيضاً ولم يكن متساهلاً في قبول أي محاور كان لا يرتضي قبول محاور إلا وقد قرأ له وتعرف عن قرب لعالمه ... صحبة أستاذ جليل مثل علي فهمي خشيم متعة ومعرفة ...متعتها في أنك تتعرف إلى بساطة ومرح الكبار وفائدتها المعرفية في أن تتعلم ما لن تجده ببساطة في قاعات الدرس ومدرجات الجامعة .
***
كما لعلاقتي بالأستاذ الجليل قصة طريفة فلهذا الكتاب حكاية أيضاً ... كاد ألا يرى النور نهائياً ... لولا أن الله سلم !
فبعد أن جمعت أصوله من مجموع ما لذي من دوريات وما حصلت عليه من أرشيف الأستاذ الجليل وفكرت في طباعته مررت على أحد مكاتب الجمع والإخراج بطرابلس فيه شاب سوداني مثقف يعمل بالصحافة والإخراج الصحفي وله تجربة في مجال إخراج الكتب والتصميم ... متوسماً فيه الجدة وسرعة الانجاز وكنت على معرفة مسبقة به ... سلمته كل الأصول ليقيني بأنه سيجمع مادة الكتاب بسرعة وبالتالي لن يكون هناك خوف على ضياع الأصول وفعلاً خلال يومين فقط جمع الشاب السوداني " فتحي الحسيني " مادة الكتاب بالكامل وسلمني إياها بكامل أصولها وسلمتها بدوري لمصحح لغوي تمكن من مراجعتها وتصحيحها خلال يومين أيضاً وعدت بها إليه لضبطها وتصحيح أخطاء الطباعة تمهيداً لإخراجها لتحال إلى المطبعة .
بعد أسبوع وحسب الموعد الذي اتفقنا عليه جئت لمكتب " فتحي " لاستلام الكتاب فوجت المكتب مقفلاً ... لم أنزعج هذه المرة فهو على كل الأحوال دقيق في مواعيده .. وربما ثمة ظرف مر به حال دون مجئيه للمكتب هذا اليوم . 
في اليوم التالي عدت إليه وفي ذات الوقت المعتاد لوجوده ومع ذلك وجدته مقفلاً ... سألت أحد المكاتب المجاورة فقال لي صاحبه إنه لم يأتي منذ يومين ومع ذلك لم أنزعج فالرجل ليس من عادته الإخلال بموعد وقلت في نفسي لعله مريض فالإنسان لا يملك من أمره شيء ثم إن فتحي سيسلمني الكتاب على قرص  جاهز للطبع وبالتالي فإن مسألة طباعته ستكون سهلة ولن تتطلب وقتاً طويلاً لأن مرحلة الجمع والتصحيح والإخراج هي أطول مراحل تجهيز الكتاب وبالتالي فإن الجهد الذي سيبدله فتحي سيختصر علي كثيراً من الوقت فيما بعد .
في اليوم الموالي جئت إلى مكتب فتحي فوجدته مفتوحاً ... الحمد لله لا بد أن الكتاب جاهز ولم يزل سوى الغلاف الذي كنت أحمل معي تصميمه المبدئي لأسلمه إلى فتحي الذي لن يأخذ منه وقتاً طويلاً حتى ينجزه بل سيضيف عليه من لمساته الفنية ما يجعله مناسباً لمادته ولائقاً بقيمة الأستاذ الجليل ... دخلت المكتب لأجد أشخاص آخرين يأخذون مكان فتحي ... بعد التحية والسلام أين فتحي ؟ بادرني أحدهم فتحي من ؟ ليس بيننا شخص بهذا الاسم ! ضننت للوهلة الأولى أنهم يمزحون أو أنني أخطأت الطريق .. لكن المكان هو ذاته والأثاث هو نفسه ... ما الأمر إذن ؟
أحد الشباب الجالسين قال لي صحيح  كان شاباً سودانياً يعمل في هذا المكتب لكن سافر تقريباً ... يا للمصيبة والكتاب ! بادرني آخر أي كتاب قلت عندي كتاب لديه وموعدي معه أن يسلمني الكتاب جاهزاً منذ يومين مضيا ... هل ترك لكم شيء بالخصوص ؟ أجابني أحدهم بكل هدوء اتصل به إذا كان لديك هاتفه ... لست أدري كيف خرجت من المكتب وقطعت الطريق عائداً إلى سيارتي مقلباً بعض أوراقي حيث تذكرت أنني أخذت منه رقم هاتفه يوم أن سلمته الكتاب واتصلت به ... خارج نطاق التغطية ... يا للمصيبة الرجل فعلاً سافر ! وما لي ولسفره  .. همي هو الكتاب .. ما عساي أن أفعل لو أنه سافر فعلاً ماذا سيجري .. كيف سأفعل ؟ ماذا سأقول للأستاذ الجليل ؟ أكثر من ثلاث أرباع مادته من أرشيفه وليس لديه نسخ منها بل وأن كثيراً منها لا توجد عند غيره أصلاً !
مصيبة .... كارثة .... جريمة ... لم أمر بحياتي بموقف بل بكارثة مثل ما أنا فيه الآن .. ماذا أفعل .. وتذكرت قول الله " والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإن إليه راجعون " فعلاً مصيبة إنا لله وإن إليه راجعون !
أعدت الاتصال برقم فتحي مرة واثنان وثلاثة وعشرة والرد خارج نطاق التغطية .... قدت سيارتي ولا أدري كيف أن الله سلم .... لا أرى شيء لا أذكر كيف استطعت أن أعود إلى البيت دون أرتكب كارثة في طريقي ... أم محمود تقول لي "شن صاير شن فيه خيرك مش على بعضك " لا شيء لا شيء " لست قادراً حتى مجرد أن أقول ماذا حل بي ! نفذت بطارية الهاتف من كثرت ما اتصلت فأوصلت الهاتف بالتيار الكهربائي واستمريت في الاتصال والجواب "خارج نطاق التغطية" .
في ساعة متأخرة من الليل اتصلت وأنا يائس من الجواب فإذ بصوت يجاوبني ولكنه ليس فتحي " أيوه من فتحي " نعم فتحي ... الصوت ليس صوته ومع ذلك كان متجاوباً معي "نعم فتحي تفضل" قلت له أنا فلان .. قال نعم أنا فتحي ...ومع أنني كنت واثقاً من أنه ليس فتحي المقصود فقد قلت له وين الكتاب .. كتاب الدكتور خشيم ... كان الرجل في منتهى الذكاء والفطنة والأدب الجم أيضاً فمجرد أن عرفني وعرف ماذا أقصد وما أريد قال لي بكل اللطف ... أنا النقيب فلان من جهاز مكافحة الهجرة وكتابك في الحفظ والصون ولا تقلق ... فتحي سافر عبر البحر مهاجراً إلى إيطاليا لكن كتابك لدينا ... شكرت الرجل وحملته تقديري لجهازه وحمدت الله أن الكتاب وقع في أيدي أمينة وحمدته ثانية على أننا نعيش في بلد آمن فعلاً بمثل هؤلاء الرجال ... وعاد الكتاب الضائع في اليوم الثاني ... أصوله طبعاً لأعود من جديد إلى جمعه وتصحيحه وإخراجه ... المهم أن الأصول عادت كما هي ! والفضل في ذلك لله أولاً ولأولاد الأصول !

ولأن الأستاذ الجليل يؤمن بحرية التفكير وهو ما تشهد به فتوحاته العلمية في مجالات الفكر واللغة ومقارناتها فقد رأيت أن أستعير عنوان هذا الكتاب (علي فهمي خشيم .. مغامر لا يعترف بحدود للتفكير) من عنوان مقالة الكاتب الصديق الأستاذ إبراهيم حميدان التي نشرها في العدد السادس من مجلة الجليس بذات العنوان (علي فهمي خشيم .. مغامر لا يعترف بحدود للتفكير) بوصفها المقالة الأكثر تعبيراً عن كنه الأستاذ الجليل في رحلته العلمية الزاخرة بالعطاء المتجدد في مختلف صنوف المعرفة .





ليست هناك تعليقات: