(1)
فشلوم ذلك الحي الذي يتكئ على كتف طرابلس ويسكنه البسطاء من أهلها صار مباحا بكل ما فيه ، تلقفت سيارات (التندرا) شبابه في جوفها خطفا واعتقالا ، وأوغل الرصاص الحي في صدور أبناءه الرافضين لجبروت العقيد العجوز وزبانيته الفجرة .
تكحل ليل هذه المنطقة بالسواد وتخددت محاجر نساءه من الدموع على فراق أحبابهم الذين غيبتهم السجون والمعتقلات .
يوم 17 فبراير 2011 وبالتحديد في الساعة 17 و17 دقيقة خرج شباب لا يتجاوزعددهم 40 شابا وهم يهتفون ( ليبيا في القلب مكانك .. ليبيا نموت على شانك) .. ولقد كانوا صادقين في ذلك فقد مات منهم لأجلها .. غدا شهيدا مضرجا في دماه .
كانوا يهتفون ( يا بنغازي مانكش بروحك ... نحنا ضمادين اجروحك) .. كانت بنغازي في القلب ، صرّ عليها هؤلاء الرجال في قلوبهم وتحدوا الدعم المركزي وقوات الشرطة وكتيبة (امحمدالمقريف) التي سارعت إلى الحدث الأعجوبة فقد كانت دماء الحرية تتدفق في شرايين الشعب الليبي نساءه ورجاله ، شيبه قبل شبابه .
علا الصراخ وازداد الهتاف وتصدرت بنغازي حناجر أبناء طرابلس عامة وشباب فشلوم خاصة فكانت الجملة الشهيرة التي رددتها كل مدن الغرب وهز بها شباب فشلوم أسماع الطاغية في باب العزيزية (بالروح بالدم .. نفديك يا بنغازي).
كان سامي الشريف وجمال ونورالدين واسماعيل الرازقي وشعبان الدحاي وغيرهم {ممن سيرد لاحقا في شهادات هؤلاء}..يشكلون حلقة البداية ، ورقصة النار التي أشعلت ما بعدها ، كانوا يتحلّقون أمام مقهى هارون مُعلنين انطلاقة أول صرخة في طرابلس الصرخة التي اشعلت المحيط كله.
تأخر الناس قليلا قبل ان يلتحقوا بالحلقة دُهشوا لما يسمعون ، كان المارة يبتسمون لهؤلاء مشجعين إياهم ، كانت بعض السيارات تقف مستطلعة ثم تمضي في سبيلها ، كانت الجدران تتأهب لكي تنهض معهم بالهتاف ، أُغلقت المحلات خوفا ،غادر أصحابها ممن كانوا خارج فشلوم ، بقي أصحاب الشارع ، ثم لعلعت النار في إطارات السيارات .. عانق الدخان سماء فشلوم وتدحرج الإطار المشتعل إلى منتصف الطريق ليعن بداية الثورة .
على جانبي الطريق ينتظم هؤلاء الشباب ، يصطفون متقابلين وجوههم ضاحكة وأيديهم تلوّح بقبضة التحدي والرفض .
ظلت قوات الظلام القذافي ترابط غير بعيد عند(عمارات الداخلي) دون أن تشق شارع(الباز) ثم بدأت تقترب رويدا رويدا بخطى أفعى تتوثب للإنقضاض .
كانت فريستها رجال آمنوا بالحرية وبقدرهم ، وبأن ليبيا لا تتسع لهم ولمعمر القذافي وعائلته ، فهتفوا : يامعمر غير كيف تبيها .. يا أنت يا نحنا فيها .
أغلقوا الشارع بالمتاريس وببضعة أبواب خلعوها من مكان ما ، كوّموا الحجارة لسد الطريق ولعرقلة السيارات المسرعة والتي كانت تُطلق النار غيلة .
كانوا يتحدّون الكتائب بحناجرهم وهم يهزجون :
ما جاباته سرتاوية / جاباته وحدة يهودية.
استفز هذا النشيد أسماع الكفر فأطلقت الأفعى أول قنبلة غاز مسيل للدموع وسط المتظاهرين ، انقض عليها أحد الشباب ورمى بها في اتجاههم ، ثم انهالت القنابل ومن خلفها وابلٌ من الرصاص ، تقدمت أجنحة الشر محتمية بوابل نيرانها ، كانت الأفعى تزحف في إتجاه (الأربع شوارع) مُصدرة حفيفها المُرّ والقاتل .
تمركزت كتيبة (امحمد المقريف) وسط الشارع وأخذ جنودها يزيلون السواتر والأبواب والحجارة مفسحة الطريق لتندرات الخطف والقتل والإعتقال وذلك بعد أن اضطر الشباب للانسحاب والهروب إلى الأزقة الفرعية الضيقة والتي يعرفونها جيدا ويصعب على هؤلاء المرتزقة دخولها او فك طلاسم متاهتها التي لا يعرفها إلا أبناء فشلوم .
أذكر أنني في إحدى المرات وبعد أن فرّقتنا الكتائب برصاصها اندفعت إلى أحد الأزقة وأنا في حالة هرب عشوائي ، لأنعطف إلى أحد هذه الازقة كيفما اتفق ، كانت تهمتي (كاميرتي) في يدي ، تناهى إلى سمعي أصوات اطفال ونساء يصحن بي ( الزنقة مسكّرة..الزنقة مسكّرة ) ،أي أنها لاتُفضي إلى شارع آخر او متاهة أخرى ، حقيقة كنت لا أعرف المنطقة ولا شوارعها ولا أزقتها ، لا أعرف إلا الشارع الرئيس وبعض المعالم الواضحة والمعروفة كالمساجد أو بعض الدكاكين والمحلات . تركت النساء ابواب البيوت مفتوحة لكي يتسنى لأي أحد من هؤلاء المتظاهرين الاختباء داخلها إذا ما تعرّض لموقف مشابه .. أما الأطفال فقد كانوا مستعدين بالحجارة لرجم أي معلم من معالم القذافي وسمعتهم يقولون : خش من هنا .. خش من هنا .
دافعت فشلوم وتدافعت ، كان أبناؤها كتفا لكتف وقبضة لقبضة وذراعا بذراع ، توحد الهم فيهم ووحدهم ، رأيت بينهم رجل الدين الملتزم وصاحب الكيف ، التاجر والفقير ، البطّال والعامل ، المتعلم والجاهل ، الدكتور والطالب ، الصغير والكبير ، صاحب الرؤية والهدف وذلك الذي لارؤية ولا هدف لديه سوى أن : (تملّه تملّه بوشفشوفة مقملة)..أُناس فاض بهم الظلم فانطقهم ولم يجدوا بُدّا من الموت بشرف أو الحياة عزيزة على أرض طاهرة نقية دون طغيان أو قيد.
(2)
سيف القذافي يدخل فشلوم مستعرضا ترسانته الإعلامية ومن وراءه مراسلون أجانب وقنوات مرتشية كروسيا اليوم والبي بي سي عربية وقناة العربية عبر مراسلها الآفاق (وائل عصام) وإذاعة الصين والرأي وغيرها من صحفيين جزائريين ومراسلين باعوا شرف المهنة برشاوى فاضحة وإقامة فاخرة في فندق ريكسوس ولعل قصة الساعة الذهبية التي أهداها الشيخ الساعدي إلى مراسل العربية (عصام) انتشرت في وقتها .
كانت كاميرا مثبتة على سطح سيارة (لبوة) مُصفّحة على ما أذكر تجوب شارع فشلوم بعد (القصف).. كانت أسنانه البيضاء اللامعة تُشع حقدا وتدليسا ، كانت حركة الناس عادية ولا أثر لما تناقلته (إذاعات الكلاب) مثل الجزيرة والعبرية .
كان حي فشلوم هادئا ولا تسمع له همسا، فقط كانت رؤوس الأهالي منكسة وهم يرون هذا المشهد الذي قاوموه بوضع رؤوسهم في الأرض وبحجب ابتسامتهم عن هؤلاء الصحفيين الذين حاولوا رصد أي مظهر من مظاهر الفرح ، فشلوم كلها احتقرت الموكب المتبجح وصاحبه (زيف الإعلام)، مما اضطر هذا الولد الحانق أن يفتح زجاج سيارته وهو يصرخ في أحد الشباب (شن تبوا منا يا فشلوم) ؟؟
قالها بغيض وقذف بها عن عجز لدرجة أن الشاب الواقف على جانب الطريق ارتاع ولم يدر بما يجيب .
هل حقا لا تعرف يا وريث التاج والنفط والجماهيرية الثانية ما الذي يريده شباب فشلوم ؟
هل حقا تجهل مطالبهم تلك المطالب التي نقلتها جميع وكالات الأنباء العربية والعالمية وبكل اللغات ؟
أه يا ذا الإصبع العدواني ..
هل حقا تجهل ما الذي يريدون ؟ وأنت الذي أخرجت مسرحية الطائرات التي قصفت فشلوم ولم تقصفها لكي تستدرج (الجزيرة) لنقل الخبر ثم تأتي "أنت" متبجحا في موكب طاووسي مع إعلاميين أسرى لكتذيبه وأن فشلوم لم تقصف وأن مزدة ليس بها ميناء ، كان ذلك كتبجحك يوم أعلنت للعالم أن قواتك على مشارف بنغازي وأنه (to lett)..
هل حقا لا تدري يا مُربي الأُسود ما الذي تريده الأُسود ؟
ألم تسمع صرخاتهم وهم يهتفون مرددين :
{ ما نبوهم ما نبوهم .. 7 كلاب معاهم بوهم}..
ألم تسمع شباب مصراتة وهم يحتفلون يوم 3/2/2011 بحرق كتيب أبيك الأخضر المقدس مرددين :
الأصلع لا ...الأصلع لا ....الأصلع لا لاااااااااااااااااا
امعمر لا ...امعمر لا ...امعمر لالاااااااااااااااااا ..
نعم لم تسمع أؤكد لك ذلك ، فقد حقت كلمة العلي القدير أن تكون من الجاهلين وأن ينكشف لليبين زيفك و(غدك) المشؤوم ، فكانت إرادة الله هي الغالبة فوق إرادتك وإرادة أبيك ، ومكرتَ مكرك ومكر الله والله خير الماكرين .
(3)
لم يعُد ثمة مجال للتراجع ، كانت هذه الجملة وغيرها تجول بخلد الناس في فشلوم ، الخروج قد تم والعصيان قد بدأ ، والمظاهرات انطلقت ، والشهداء سقطوا ، لقد سال الدم ، لقد انطلق قطارالزمن ولن يعود إلى الواراء ، الأحداث تتسارع والناس تترقب ، الشوارع خالية إلا من رصاص الجنود المرابظين في سياراتهم المصفحة .
الكل متحلق حول جهاز التلفزيون يلتقط أي خبر عن المنطقة التي بقربه أو المدينة التي تجاوره . فقد كانت الاتصالات قد قُطعت ، وحُجبت مواقع التواصل الاجتماعي ، أغلق الانترنت مبكرا ، وصارت شركة "ليبيانا" تتصدق على الليبيين برصيد إضافي في محاولة مكشوفة منها لاستدراجهم للحديث وتحديد مواقعهم .كنا قد استعدينا لمثل هذه المشكلة ، فقد كانت مجموعة من الخطوط الهاتفية قد تم شراؤها من السوق السوداء دون تسجيل لاسم او عنوان محدد ، سوف تنفعنا هذه الخطوط لاحقا ، المهم ألا تبقى في ذات المكان مدة طويلة بعد ان تجري المكالمة او تتصل بقناة ما .كانت هواتف الثريا سحيحة ولا يملكه إلا النزر القليل من الليبيين.
كانت العزيزة "هالة المصراتي" برتبة وزير إعلام في تلك الأيام فقد كان برنامجها "قوى من المحن تسلية الناس ثم انتسرت موضة هذه البرامج فكل وغد وساقط احتجز لنفسه مساحة إعلامية ليلية لكي يرفع من معنويان الشعب الليبي ويعرض خزعبلاته وتفاهته أو طلاقة لسانه وحين لم يفلح ذلك وحين بلغت القلوب الحناجر وبدل أن يرفعوا معنويات الشعب الليبي رفعوا السلاح في وجهه وأشهروا بنادقهم ومسدساتهم في سابقة لم تحدث أبدا في أي تلفزيون في الكون أن يشهر مذيع سلاحه في وجه المتفرجين . ولكن كما يقول هيرودت من ليبيا ياتي الجديد ومن إعلام الكيلاني ومنصور تنطلق القنابل والمتفجرات على وزن (قنبلة إعلامية)..
كان الليبيون يدركون مجريات الأحداث من ملاحضتهم لوجه (حمزة التهامي) وتعابيره في برنامجه "نداء ليبيا" فإذا كان غاضبا ويشتم وكئيبا وأمضى الحلقة في تهديد ووعيد ثم أقسم أنهم لمنتصرون وأن معنويات الجيش الليبي عالية وأن "سيد السبيب" بخير فمعنى ذلك أن صفعة قوية قد وجهت للنظام وأن الجيش في مازق وأن سيد السبيب تصك ركبتاه وربما يفكر في حل دبلوماسي سريع.. ومعناها أيضا ان أسود مدينة مصراتة قد حققوا نصرا إضافيا على كتائب الشر .. تصدر الخبر قناة الجزيرة وبعض القنوات الأخرى (قصف أحياء سكنية في طرابلس بالطائرات) كان الحي المقصود حي (الفشلوم) كما تنطقه المذيعة الجميلة فيروز زياني .. ارتاع الناس لهذا الخبر واتجهت الاكف بالدعاء إلى الله العلي القدير ان ينقذ أهالي فشلوم وأن يلطف بهم ، تبين فيما بعد ان الخبر غير صحيح وأنه دسيسة إعلامية والصحيح أن الطائرات قد حلّقت فوق سماء فشلوم كانت طائرات عسكرية صغيرة تطير على ارتفاع منخفض بها جنود يحملون رشاشات يطقون منها النار في الهواء دون أن يُصيبوا أحدا لكي يُعطوا انطباعا أن ثمة قصف بالطائرات . بعدها اتصل ضابطان من جهاز الأمن الخارجي بالقنوات المذكورة وتحدثوا إليها كشهود عيان ولفقوا الواقعة .
طرابلس ستكون على موعد مع القدر والثورة ، في ليلة لا تتكرر أبدا ومن فاته تذوق حلاوتها فلن يعوضه عن تلك الليلة شيء أبدا ، إنها ليلة الحرية ، ليلة أن قال الطرابلسيون كلمتهم الفاصلة ، ليلة عشرين فبراير أو "الليلة الكبيرة" .
نعم كانت كبيرة بالفعل فقد أسمعت كلمات الطرابلسيين العالم كيف يكون الفداء والتضحية ، كيف ترخص الأرواح في سبيل الحرية ، كيف تهون النفس من أجلك يا بنغازي ، خرج الطرابلسيون يهتفون (بالروح بالدم نفديك .. يا بنغازي) .. فرددت أسوار السرايا الحمراء هتافهم هذا مبتسمة لهم ضاحكة مستبشرة بأبناءها .
كانت الأرض تهتز في الشارع الرئيسي وأقسم بالله كانت تهتز كنت أسمع ذلك ، الشباب يدكون الأرض بأقدامهم ويهللون مكبرين منددين بالـ(شفشوفة) .
توجهوا إلى المثابة كان الكل يدا واحدة ، غضب يُصب وحقد يفور، كان حرق المثابة الثورية يعني الكثير للفشلوميين فهي رمز النظام وآلته القمعية والفكرية ومرتع زبانيته ، اقتحموا أسوارها وهدموا بابها الحديدي أخرجوا صور القذافي وصاروا يطعنونها بالسكاكين وينهالون عليها بالعصي ويدوسونها بأقدامهم ثم أشعلوا فيها النار ، صارت النار تلتهم كل شيْ ، كان بجانبي المرحوم الشهيد (ناجي النفيشي) قلت له : "خليهم ايطلعوا انبوبة الغاز إن كان فيه كوجينة داخل خير من تنفجر على الشباب". هذا ما كان يشغلني وما فكرت فيه في تلك اللحظة لكن الجميع كان في هياج تام وفرح مشوب بغضب ونشوة .
بعد أن التهمت النار الرمز ، انتظمت صفوف طويلة من الناس متجهة إلى (الساحة) ، ظلت الأرجل تضرب الأرض بقوة هدير القيامة ، وزعيق النفوس المكتوم ، وتردد نفس الهتاف "بالدم بالروح نفديك يا بنغازي" .. اختلط كل شيء بكل شيء وصار الميدان هو الهدف ، البعض صاح مقترحا ألا نخلي الشارع من الرجال بل يبقى عدد منهم لحماية البيوت لصد أي حركة غادرة من قبل النظام في أن يلتف على الشارع إذا خلا من الرجال أو نزح الكل إلى ميدان الشهداء ، وقد كان ذلك ، كانت النار في السيارات المحترقة تحتضر،وحال وصول هذه الاعداد الغاضبة إلى الجزيرة عند (الخزّان) قابلتهم صورة كبيرة وعالية للقذافي فتجمهروا حولها وصعدوا لانزالها وإحراقها ، انتبهت إلى عمود إنارة في وسط الجزيرة في نهايته كاميرا تصوير ، صببنا جام غضبنا عليها حتى تهشمت هي الأخرى ثم تابع النمل الغاضب طريقه مرورا بالظهرة محطمين في طريقهم كل ماله علاقة بالقذافي ونظامه من صورة او مثابة او مركز شرطة .
في الظهرة جاءنا الخبر الصاعقة والذي يقول أن القذافي في طريقه إلى فنزويلا ، أُسقط في يد البعض وعمّت الفرحة المتظاهرين ، اخذوا يتعانقون ويهنئ بعضهم البعض ، كانوا يهزجون :
قيرررب قيرررب ....والقذافي اهرب.
انتابتني موجة من الفرح الهستيري لم أجد أحدا أعرفه كي أعانقه واحتفل معه بهذه اللحظة التاريخية لحظة هروب القذافي .لمحت شخصا أعرفه كان (عبدالرؤوف الأطيوش) من سكان الظهرة ، اندلقت عليه وأنا أعانقه وأقبله ، استغرب عبدالروؤف في هذا الشخص الملثم الذي يندلق عليه هنا نزعت الغطاء عن وجهي لأول مرة وضممته إلي في عناق لا أذكر انني ضممت شخصا إلي في حياتي بمثل ما ضممته ، كان عناق النصر والفرحة .
ملاحظة : بعد خروج القذافي في التكتك الشهير وتكذيبه لخبر هروبه إلى فنزويلا كرهت عبدالرؤوف الأطيوش وتمنيت أنني لم ألتق به في حياتي ولم اعرفه أبدا فهو "الشاهد الوحيد" عبدالرؤوف كان زميلا لي في صحيفة "الجماهيرية" لمدة خمس سنوات .
كانوا يحتمون بعربات القمامة التي تجرها العجلات ، كانت عملية جدا ، حيث نختبئ وراءها ونتقدم تحت حمايتها ، كانت بعض "فلول" الدعم المركزي تطلق النار ثم انسحبت نهائيا .
في هذه الرحلة ستقدم فشلوم أول شهدائها ، شاب في مقتبل العمر، أب لعائلة صغيرة خرج مع الخارجين طالبا حريته وحرية وطنه ، فغدرت به رصاصة حاقدة ، فجرت رأسه ، إنه الشهيد "عبدالباسط بن اسماعيل" أو عبدالباسط القهواجي كما يلقب . بقي الميدان في ايدي الليبيين الأحرار لمدة أربع ساعات تقريبا ثم لعلعت مضادات الطائرات حاصدة الروؤس والصدور . خانقة صوت الحق بمدافعها الرشاشة .
بعد سيطرة الكتائب على الميدان بالكامل وطرد الليبيين أو قتلهم ، تم احتلال فشلوم لم يهدأ الرصاص تلك الللية كانوا يريدون ترهيب الأهالي وسلب النوم من أعينهم بعد أن صُفع النظام صفعة الحرية بكل شعب أعزل إلا من إيمانه . كانت مكبرات الصوت لا تهدأ وهي تبث الاناشيد والثورية بصوت محمد حسن . ليلة حافلة لم تهدأ فيها طرابلس ولم تنام .
في الصباح أعاد الفشلومييون الكرة مرة أخرى ، لم يعد التظاهر خفية في الليل فها هو النهار وهاهي الحماسة والقوة ورفض الظلم تشع نهارا جهارا ، تحت الشمس وفوق الارض أرض فشلوم المقاومة .
وكالعادة عند الأربع شوارع ارتفعت الأصوات مطالبة بالحرية ، صورة أحد الشهداء (عصام الربيقي) يرفعها هؤلاء الشباب وهم يرددون : الشهيد حبيب الله والقذافي عدو الله .حاولت توثيق المظاهرة بكاميرتي فمنعني الأهالي اقترب مني مجموعة من الشباب وأمروني بعدم التصوير بل وحاولوا افتكاك الكاميرا من بين يدي ، لكن المرحوم ناجي النفيشي رحمه الله أنقذني منهم قائلا : هذا لينا . هنا تركوني أقوم بعملي بل وصاروا يطوّقونني حماية لي ، كنت اتكئ على كتف أحدهم الذي لم أعرف إلا فيما بعد أنه "شعبان المصراتي" او "شعبان الدحاي".
رحم الله ناجي نفيشي فقد كان عضيما في خلقه صادقا في موقفه ثابتا في نظاله ، اذكر يومها انني اتصلت بقناة الجزيرة فمد لي هاتفه قائلا اتصل من هذا ، كان يملي عليّ عدد الضحايا في المظاهرة فأشار لي قائلا : قوللهم 22 . نظرت إليه مبتسما وأنا أشير بيدي أن الرقم كبير فأشار هو أيضا بيده دلالة على تخفيض العدد إلى أن وصل إلى شهيدين فقط . وللامانة لم يستشهد أحد في تلك المظاهرة ولكنها كانت نوعا من الحرب الإعلامية .
لم تكن فشلوم وحيدة في جهادها وحربها قد آلة الموت والقمع بل رحمها الله القدير بمنطقة اخرى ستكون حاسمة في هذه الثورة وستكون لها اليد الطولى في مجرياتها وأعني (سوق الجمعة) التي أخذت على عاتقها هي وشقيقتها تاجوراء مهمة التنظيم والترتيب والقيادة وتهريب السلاح .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق