كتب / خالد درويش
حين وطئت قدماي أرض "لوديف" واستقر بي المقام في ذلك المهرجان الفرنسي العالمي للشعر ، استوقفتني غادة فاتنة عَلِمَتْ أنني ليبي وبلغة ركيكة لا ترقى إلى مستوى عينيها خاطبتها نعم : أعرفه .. إنه أشهر شاعر في بلادي .أخذتني الذاكرة إلى زر القميص والوردة المثبتة جهة القلب والتحية الباسمة بالتهليل ونهايات القصائد المختومة بمسك الحب وحياة العاشقين ، تذكرت أول لقاء به في كلية الصيدلة في أسبوعها الثقافي الأول حين كنت غضاً .. شاعراً مبتدئا .. ومرّ عام وآخر .. صرنا صديقين تنقلنا معاً كثيراً ، ضمتنا طائرة ومدينة وغرفة وملتقى ومهرجان وحافلة وأمسية وجريدة ومطعم ونقاش ومصافحة وصورة وعشق وعتاب وفي كل ذلك أحبه أكثر وأحترمه أكثر .
قلت لها : نعم إنه وردة مدينتنا العاشقة
قلت لها : إنه شاعر الحب في بلادي
قلت لها : ما رأيك لو نشرب شيئا .. وعلى شرف الشاعر الذي صارت تصفه لي بوردته وقامته وبشاشة محياه عندما حضر دورة سابقة ..
قلت لها : إنه علي صدقي عبد القادر .. وهمست لها وكأس أصفر لذيذ يخترق عروقي النافرة إنه "جاك بريفير العرب . فأطلقت دهشة قائلة :
- Les Paroles
أجبت
- Les Paroles oui
* * *
وفي مساء صيفي وصلتني بطاقة من المكتبة القومية مغلّفة بعناية تدعوني إلى حضور ندوة حول التجربة الشعرية لعلي صدقي عبد القادر..جدّولت الموعد والمكان في مفكرتي ووضعتها في أول مشاغلي تركت لها فسحة من وقتي انتزعته من الحياة رغم تعففي مؤخراً عن حضور أي هذر ثقافي تنوّعت أسماؤه بين محاضرة أو أمسية أو ندوة إلا ما ندر وما يمثل لي رافداً أو إضافة ، ففي بعض الأنشطة يكون حضورك هو الإضافة الوحيدة .بقاعة فسيحة ظل تكييفها عالٍيا أعلى من صوت جميل حمادة في ورقته وأعلى من قهقهات بلقاسم المزداوي .* * *عمر حمودة يتوسط الشاعر المحتفى به والدكتور المهدي امبيرش ، عمر حمودة الذي قدم القاص محمد بلقاسم الهوني .. الهوني الذي لم يكتب حرفاً في هذه الورقة التي كان صادقا فيها حيث قال: إنها اعتمدت على كتاب غالب الكيش عن علي صدقي عبد القادر "شاعر الشباب" وللأسف كنت قرأتها في مجلة الجليس العدد الرابع ..
أمسية شعرية مصغّرة داخل ورقة نقدية مطوّلة
كذلك جاءت ورقة جميل حمادة بمللها المعهود واستطراداتها الرائعة حيث تحولت إلى أمسية شعرية مصغّرة داخل ورقة نقدية مطوّلة ، أما العزيز أبولقاسم المزداوي فاستغلّ ورقته التي نشرها أيضا في مجلة الجليس العدد الثاني عن الشاعر المحتفى به وكفى نفسه شر القتال .. فقرأها علينا وصلّ اللهم وبارك ، أما محيي الدين محجوب فحاول أن يلامس الشاعر من خلال بوح وجداني لمصافحة الشاعر كما قال .
* * *هكذا اكتفت الندوة بالمصافحة مثلما ابتدأت ، وغاب النقد وملامسة الجوانب الإبداعية للشاعر .. فهل عجزت هذه الأكاديمية "الفكر الجماهيري" عن أن تكلّف أكاديمييها بأن يقدموا ورقات تليق بالشاعر المحتفى به بدل هذه المصافحات البليدة .. وليعذرني علي صدقي عبد القادر الذي حضرت لأجله مع علمي التام بأن هذه الأوراق لن تضيف إلي شيئا ولن تضيف إلى أحد أيضا لأنها من غير المتخصصين إلا في المصافحة التي تعلّمناها مؤخراً بدل النقد والقراءة الجادة والحفر العميق .حضرت حباً للمصافحة أيضا لكن لمصافحة الوطن الوردة الحب في قبلة أضعها على جبين هذا الشاعر العملاق .. الذي سيأتي جيل يعرف حقه وتأتي أكاديمية تبّر به فتقدمه كما ينبغي ، وحقه أن ندرسه وندرّسه ونستمع لحبات الفل تتناثر من فمه وبركات الولي الشنشان تمطر طرابلس ..الندوة بكل الحب لم تكن في مستوى هذا الشاعر رغم شكري العميق للمنظمين الذين لم يتعبوا في إعدادها جيدا وبما يليق ، ورغم شكري لمجلة الجليس أقصد للأوراق التي قُدمّت وشكري للمصافحين وللحضور الذي ملأ القاعة وصفقّ لبلد الطيوب ولشاعرها الكبير "علي صدقي عبد القادر" ولكي لا أُتهم بالتجني سأدون بعضاً من هذه الأوراق حفاظاً على العرف الصحفي فقط .
الورقة الأولى /" محمد بلقاسم الهوني وقد نشرت بالجليس العدد الرابع – الصيف 2007 .
ومن خلال استقراء هذا الكتاب ، نجد أن المؤلف يقرر بأن هذا الشاعر ، رغم أنه كان لافتاً بشدة إلى الأنظار بيد أنه لم يحظ باهتمام الباحثين والدارسين للشعر العربي المعاصر ، إلا في إطار دراسة الشعر الليبي ، وبالتالي فإنه لم تفرد له دراسة خاصة حتى يتم إنصافه ومن ثم وضعه في المكان الذي يستحقه سواء في المشهد الشعري الليبي المعاصر أو العربي وذلك من خلال دراسة الظروف والملابسات التي صاحبت نتاجه الشعري ، بشكل أو بآخر .ولهذا السبب فإن الكاتب يرى أن هذا الشاعر هو من أكثر شعرائنا حاجة إلى أن تقوم حوله الدراسات المستقلة كونه يمثل ظاهرة خاصة ومتميزة في شعرنا الليبي المعاصر ، فقد كان على الدوام مثار جدال عنيف ومحورا لخصام مستمر من الكتاب والنقاد وأصحاب الرأي والذوق ص 10.فهذا الشاعر وبحكم السن كان مخضرما أي أنه كان لا يزال يمثل جيلين من الشعراء الشيوخ وجيل الشباب .وهو شاعر يطمح دائما إلى التجديد ولذلك نراه يتمرد على أنماط الشعر ولا ينتمي إلى مدرسة بعينها بل نراه يقفز على الثوابت في الشعر وما درج عليه الشعراء قديماً وحديثاً .وتأكيدا لهذا المعني فإن المؤلف يحيلنا على المقال الذي كتبه كامل المقهور بعنوان ، شاعر الكلمة " المنشور في العدد الثالث من مجلة الرواد سنة 1966 حيث يقول ما نصه في معرض الحديث عن الشاعر ، وبالتالي هل يندرج شعره تحت مدرسة شعرية واحدة وأن شعره يتم تصنيفه في إطار الواقعية الجديدة .يقول المقهور : من المستحيل إدراجه تحت المدرسة الواقعية لأن هذه المدرسة قوامها المضمون والشكل ، وإنه ليس الشكل وحده هو الذي يلحق الشاعر بالمدرسة الحديثة ، وأنه لابد لكي يتقسيم الشعر الحديث من أن يكون له مضمون مستقيم أصلاً متماشياً مع متطلبات الشعر الحديث ومسبباته ص 11.ومن خلال هذا الإطار ونظرة الشاعر إلى الشعر – شكلاً ومضموناً فإنه يرفض الانصياع لمدرسة شعرية واحدة أو التقيد بأسلوبها ليقتفي آثرها ، وتأكيداً ذلك فإن الشاعر نفسه – كما يقول المؤلف – قد عبر عن ذلك صراحة قائلاً ، فالشعر ليس هذا ولا ذلك ، فالشعر استشراف واكتشاف وإرهاص للمستقبل ص 12 .وفي المقابل فإن الشاعر " علي صدقي عبدالقادر " كان تواقاً للتجديد في شعره ، ومن الذين ارتبطوا بالتحولات التي طرأت على القصيدة العربية فكان بذلك يمثل التحولات الحديثة في الشعر الليبي المعاصر .
وفي محاولات الاستفادة من الفرصة المتاحة له وفقاً للأطر الجديدة في الشعر العربي عموماً ما يؤكد وعيه وإدراكه المبكر لحقيقة الشعر ودوره الذي يضطلع به في الحياة .
الورقة الثانية" أبو القاسم المزداوي "
وقد نشرت بالجليس ( العدد الثاني الطير 2007 ) .
لم يسبق لأحد من الشعراء أن خلد مدينة في شعره كما فعل هذا الشاعر مع هذه المدينة الجميلة التي لم تمنح شاعرنا الذكريات الجميلة والهواء النقي والهوى العذري فحسب بل أعطته الحياة والحب والأمل وفاطمة وهو ما يصادفنا كثيراً في قصائد هذا الشاعر الذي يحاول كما هو وارد في معظم قصائده أن يرد الجميل لهذه المدينة الخالدة حتى وإن يذكرها بالاسم في أي نص من نصوصه فلابد أن يشير إليها بإصبعه أو أن لم يذكرها من خلال شبابيكها المطلة على باحات الأسواق والحواري المعطرة بنسيم الفل والياسمين الطرابلسي الشهير أو أن يعرج عليها من خلال مروره على بيوت الأحباب في عشايا هذه المدينة الفاتنة حتى إن أصبح من الصعب جداً على من يحاول أن يتيع خطى هذا الشاعر من خلال ما يكتبه من قصائد أن يفرق بينه وبين ماأحب من معالم هذه المدينة .
والشاعر " علي صدقي عبدالله " الذي يعيش محتفلاً بالشعر كرس الكثير من شعره لمدينة طرابلس وكأنها هي فاطمة هذا الشاعر الذي جعل منها لازمة في كل ما كتب من قصائد حتى كادت تكون عنوانا شهيراً لشعره ، كما أنه الطفل الشاعر الذي يعيش محتفلاً بالحياة ، وفي هذا الخصوص يقول في أحد اللقاءات التي أجريت معه " الإنسان لا يكون لذاته إلا إذا كان طفلاً كما أن الدهشة لا تفارقه وتضحكه كل الأشياء ، يمد يده فيكسر الأشياء وهو لا يكسر الأشياء عبثاً ولكن لغرض المعرفة والاكتشاف ، فالشعر معرفة والحب معرفة لأن هناك معرفة جديدة تطورت من خلال الشطب " .هذا ما يؤكده شاعرنا علي صدقي عبدالقادر في كل قصيدة جديدة يفاجئنا بها وكأنه يؤكد مقولة أحد النقاد الذي قال الشعر فن الشطب " .وكعادة هذا الشاعر الجوال الذي أحب هذه المدينة فإنه يمر بنا على أزقة وحواري المدينة يقابل فيها أناسا يعرفهم وآخرين لا يعرفهم حتى إننا حفظنا أسماء طرابلسية الملامح التي لا يستعمل إلا في مدينة طرابلس وهي مناني ودوجة وفطيمة وهي أسماء الدلال التي تطلق على خديجة وفاطمة ومنى التي يستعملها كثيراً في شعره .في النص الأول الذي سنستعرضه لشاعرنا " علي صدقي عبدالقادر " الذي كان بعنوان " حقيبتها بها مرآة " يقول الشاعر في حقيبتي وردة وتفاحة ومرآة ، سافرنا معا اليد في اليد والعين في العين والاشتهاء في الاشتهاء .تنقلنا الصورة الشعرية عبر حقائب الطفولة التي تبتعد كثيراً عن مشاغل الكبار وهمومهم ، فهي ليست حقائب لنقل الوثائق الرسمية وصكوك المال وحجج الأراضي وإنما تحتوي على أشياء نحن في حاجة إليها لأغراض أخرى متعلقة بالعواطف والأحاسيس والمشاعر ، فالوردة بما تحمله من معانٍ وما تحتوي عليه من العبير الفواح وكذلك التفاحة التي يغلب شكلها وجمالها ولونها على أهميتها الغذائية وهو أمر آخر لا نغفل عن أهميته . كما أن الجرس والحلوى والمرآة وهى دلالات عميقة لتأكيد الأنوثة ومتطلباتها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق