من الذي شرّع حكمة الصمت
وحثّ عليه ،
وتسابقت النصوص المقدسة في مديحه .
اللسان الذي يدل على العورات
والذي يقضي حاجة العقل بالإفصاح ،
والذي ينشد قصائد الذم والمدح
ويهمس في الآذان معرضا بعيب ،
أو ناقلا لخبر أو باثا لإشاعة .
ــــ اللسان الذي تقول له الجوارح في كل يوم : اتق الله فينا فبك نؤخذ ، فإنك الحربة التي تجر علينا الداء ، فاصمت ولا تنطق جزافا .
ــــ ( واعلم أن لسانك أداة مصلتة ، يتغالب عليه عقلك وغضبك ، وهواك وجهلك ، فكن غالبا عليه مستمعا به ، وصارفه في محبته ، فإذا غلب عليك عقلك فهو لك ، وإن غلب عليه شيء من أشباه ما سميت لك فهو لعدوك ، فإن استطعت أن تحتفظ به وتصونه فلا يكون إلا لك ولا يستولي عليه أو يشاركك فيه عدوك فافعل )
فهذا ابن المقفع في هذه الفقرة يوصي بحفظ اللسان وأن لا يستولي عليك فيشاركك فيه عدوك ، وهنا يرسل عبد الله رسالة إلى الخلق ، وأولهم جماعته بالإحاطة بالكتمان في تدبير شؤونهم فهو ابن المقفع ربيب القصور ويعرف ما يحاك فيها جيدا و قريب من الإدارة السياسية بل وأحد صناعها وستختلف عليه ، فيقع بين براثنها ويحمى في تنورها .
أما أبو نواس في أبياته الشهيرة فيرسي قاعدة لست أدري من المستفيد منها هل الحاكم وحاشيته أم المعارضة المستترة ؟ فالصمت مفيد في كلا الحالين ، فجهاز الدولة يروّج لهذه الفضيلة من باب الترهيب وأن يموت المرء بدائه خير فاللسان مصدر القلاقل (والنكت السياسية) فعليه أن يخرس من جهة وأن يحذر من الجهة المقابلة لأن فيه إفشاء لأسرار وتحوطٍ لمكيدة أو انقلاب ناجح إن أُحكمت الأفواه جيدا .
مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام
إنما السالم من ألجم فاه بلــــــــــــجام 3
فالصمت أصبح منهجا تؤلف فيه الكتب وتصاغ له الأمثال وتصرف الأموال في سبيل ترسيخ هذه الفكرة ، فالجاحظ في كتابه البيان والتبيين جمع هذه الأمثلة وأكثر منها أنتقي بعضها هنا مثل : ( اسمع فاعلم واسكت فاسلم )
( رحم الله من سكت فسلم )
( مقتل الرجل بين فكيه )
( اللسان سبع عقور ) .
وهذا الجاحظ أيضا الذي ألّف الكتب وخالط الدولة والسلطان وأخذ عطاياهم وأجريت عليه الأرزاق ، الجاحظ ابن المؤسسة العقلية يحث على السكوت وأن يموت المرء المسلم بدائه ، لعله داء الحسرة والقهر خصوصا حين يعلم أن خراج بغداد وحدها بلغ في عام واحد ( ثلاثمائة ألف ألف ) في ذلك الوقت أو حين يعلم أن زواج بنت الفضل بن سهل ( كان يعادل خراج البصرة لعام )
و يأمرنا عبد الله بن المقفع في أدبه الكبير والصغير بالسكوت وإن اختلفت غايته عن غاية الجاحظ فيقول :
( إلزم السكوت فإن فيه السلامة )
( أفضل خلة العلماء السكوت )
( أعضل ما استضل به الإنسان لسانه ).
والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء هم المأمورون بالسكوت خصوصا لأنهم يعرفون أكثر ويقيسون الأمور و الأحوال بمقياس غير مقياس العامة فإن تكلم العلماء أو أشاروا إلى خطأ ما فإن الرأي معهم وكذلك الناس فالأوجب أن يصمتوا وإلا ! ( إلزم بيتك ) كما حدث للإمام أبي حنيفة.
ولعلنا نلاحظ في هذه الأمثلة كلمة السلامة وتسلم وسلم والتي توحي بأن خلفها تهديدا مبطنا من القائل فاسكت تسلم وإلا فإن لك معيشة الضنك إذ ليس لك أن تغير من الأمر شيئا إلا بقلبك وذلك أضعف الإيمان .
إن نظرة خاطفة إلى كتب التراث التي وصلتنا والتي نشأت عليها حضارة أمة وفكرها ووجدانها ، تجد تلك السيطرة الواضحة لمفاهيم نرتع فيها لحد الآن من غياب الحرية وتكميم الأفواه بغية عدم التعبير ( مت بداء الصمت) وتلك الأمثلة التي تكرس الخنوع والذل وتجرع المهانة فكل ذلك لصالح من ؟ هذه الكتب التي تأمر وتنهى في ذاكرتنا ووجداننا وعقلنا اللاواعي لصالح من يا ترى؟ فحتى ابن المقفع نفسه لم يكلمنا صراحة وإنما مرر ما يريد خلال الفيلسوف الهندي وعلى لسان الحيوانات فهذه التقية اللسانية المرتجفة من يؤجج سعيرها ويضع لبناتها ؟ إنها حلقة تتسع منذ أن أبحر أول سيف في عنق صحابي غيلة وغدرا لتلقى التهمة على الجن 4 ومنذ أن قال البشر الفاني ( أنا ربكم الأعلى ) وظله في الأرض .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخالد درويش / ليبيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق