الأربعاء، 22 أغسطس 2018

رسالة افتراضية من سهيل إدريس إلى حنا مينه (في حفل تكريم حنا مينه، دمشق 26/2/2007)







رسالة افتراضية
من سهيل إدريس إلى حنا مينه
(في تكريم حنا مينه،
دمشق 26/2/2007)
د. سـماح إدريـس 
(لبنـان) 
عزيزي حنـا: 
ما أشد رغبتي في أن أكون إلى جانبك في يوم تكريمك السوري – العربي. فلقد مضى وقت طويل منذ ألتقينا، وليتني كنت هنا لأسعد برؤية ملامح الزهو تكسو وجهك – وهو زهو تستحقه بكل جدارة، مكافأة على جهدك الأسطوري وكفاحك الطويل من أجل تشييد واحدة من أبهى عماراتنا الروائية العربية.  
يا صديق العمر: 
أنا منذ تسعة شهور ونيف رهين محبسين: المستشفى وسرير البيت. إلى المستشفى أذهب ثلاث مرات في الأسبوع لأخضع لغسيل كليتي، توصلني رفيقة عمري ودربي عايدة، فأتمدد أراقب دمي يسري من الشرايين إلى النرابيش، ومن النرابيش إلى الشرايين. بعدها أعود إلى سريري في البيت، فأطعم، ثم أنظر إلى أحفادي وأولادي وزوجتي، وقلما أرد على أسئلتهم بأكثر من كلمتين: ”أنا منيح”، ”كيفك إنت؟”... هذا إذا لم يأت سماح ليقرأ لي من شعر المتنبي أو نزار أو إبراهيم طوقان أو الشابي. فإذاك يستيقظ في شراييني كل ما كنت قد توهمت أنه مات، وتعود القوافي تغزل في رأسي أعذب الأحلام والألحان، بل أجد الكلمات تخترق ثقل لساني لتصحح لسماح خطأ أرتكبه في التفعيلة – عن عمد أو عن غير عمد. 
يا حنا، يا حبيبي: 
لكم وددت أن أجالسك لأواصل ما انقطع بيننا من أحاديث طويلة، عن غرامياتك الجديدة، ورواياتك الجديدة، وشخصياتك الجديدة. فلطالما شـعرت أنني، كصديق وروائي وناشر، امتداد لك، وأنك امتداد لي. بل لطالما أحسست أن كل ما يكتبه الواحد منا في دنيا الرواية العربية أو الدفاع عن قيم الثقافة الجادة المكافحة قطرات من شلال هادر يرفد مجتمعنا العربي بعناصر العزة والاستمرار، وسط لجج اليأس والتراخي والانهزام. 
لو كنت يا حنا قادراً على أن أتحدث إليك طويلاً، وبتركيز أكبر، لسألتك بشكل خاص عن مشروع راودني قبل أعوام وبثثتك إياه: إنه مشروع تشكيل لجنة للدفاع عن حرية المثقف العربي. أتذكر يا حنا؟ قبل عشرة أعوام أو أقل، اقترحت عليك، بحضور سماح ربما، أن نعمد إلى تشكيل لجنة للدفاع عن مضطهدي الرأي في الوطن العربي، وربما اتصلت وقتها لهذا الغرض بأديبين عظيمين سبقانا إلى العالم الآخر، هما الحبيبان سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف. كان قمع الكاتب والكتاب رابضاً على صدورنا آنذاك، مثلما هو رابض اليوم، رغم تشدق الأنظمة العربية بالإصلاح والانفتاح والتقدم. وكان هاجسي، يومذاك، أن أسهم في أن نكرس على الساحة العربية مبدأ رفض عقاب أي كان بسبب أفكاره. وإلى اليوم مازلت أهجس بضرورة إلغاء الرقابة وكل أشكال الكبت على حرية الإبداع العربي، أياً كانت الذرائع، وعلى رأسها ذريعة ممارسة الرقابة والقمع من أجل حماية المجتمع والوطن والأمة! 
أذكر الآن أن سماح سألني، أثناء إعداده لأطروحته عن المثقف العربي والسلطة في أوائل التسعينيات، «لماذا سَكتَّ يا أبي عن قمع المثقفين أيام عبد الناصر؟» تناقشنا طويلاً، وبحدة، وحاولت أن أقنعه بهزال ليبراليته، وبأن المرحلة كانت مرحلة بناء مشروع قومي كبير، وأن الأخطاء مغتفرة في هذه الحال. ولكن شيئاً فشيئاً راح يتضح أمامي خطأ تبريراتي، إلى أن أقررت أمام سماح بأن سكوتي عن قمع المثقفين، أمثال محمود أمين العالم وصنع الله إبراهيم وغالب هلسا، قد كان من أعظم أخطاء حياتي الفكرية، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق. وحين رأيت الصديق الغالي محمود أمين العالم في بداية التسعينيات اعتذرت إليه عن سكوتي عن الاضطهاد الذي حاق به في السجن الناصري، وعن سخف المبررات” القومجية” التي قدمتها آنذاك، رغم إيماني إلى يومنا هذا بعظمة القائد جمال عبد الناصر ونبل القضية القومية التي حملها. نعم يا صديقي حنا، لو كنت قادراً على مجالستك اليوم لسألتك عما حل بفكرة” اللجنة” التي تحدثنا عنها؟ ألست تعتقد مثلما أعتقد، أنها مازالت ضرورة ملحة اليوم بسبب بقاء كثير من زملائنا المثقفين في السجون العربية وبسبب استشراء مقص الرقيب وإجراءات المنع بحق الكتب والمجلات العربية وغير العربية، وبسبب تزايد المهاجرين من مثقفينا إلى خارج أوطانهم هرباً من قمع الأصوليات والديكتاتوريات معاً؟ وكيف يواجه وطننا، يا حنا، الأخطار الأميركية والإسرائيلية المحدقة بنا، وهو مشلول أو معوق أو مسجون؟ أيستطيع أن يتحرك وطننا أصلاً بكليتين هشتين، ونرابيش تربطه من عن يمين وشمال، وليس ما تضخه في الشرايين إلا دم التعذيب والقتل؟ 
الحبيب حنا: 
لو التقينا لكنت سألتك أيضاً عن رأيك في ما نستطيع أن نفعله لتحسين العلاقات اللبنانية – السورية التي تشارف الانهيار هذه الأيام منذ اغتيال الحريري. لو التقينا لكنت، على الأرجح، سأتنمى عليك، ومن موقعك كرمز ثقافي سوري كبير، أن تكرس ما تبقى لديك من قوة ثقافية إشعاعية للإسهام أنت ونبيل وياسين وشوقي وعشرات آخرين في ذلك التحسين. فعلاقات بلدينا التاريخية تحتاج اليوم، وأكثر من أي وقت مضى ربما، إلى بعد ثقافي يعصمها من العنصرية ونزعة التفوق الشوفينية من جهة، ومن نزعة الوصاية وفرض الإملاءات من جهة ثاني. وكل من قرأ رواياتك لن يفوته أن يلحظ تشديدك على نضال السوريين واللبنانيين المشترك في وجه الانتداب الفرنسي والعسف العثماني من قبله، وهو نضال يأمل الوطنيون اللبنانيون والسوريون اليوم أن يتجدد على أسـاس الندية والتوازن والتكامل في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية ومشاريع الشرق الأوسط الجديد المدمرة والقاتلة. 
العزيز حنـا: 
مزيداً من الطموح يا صديق العمر. عزائي عن عدم قدرتي اليوم على العطاء الثقافي هو في قدرة مبدعين عرب، أمثالك، عليه. أعانقك.   





*   *   *





ليست هناك تعليقات: