رمضان في طرابلس 2011
(3) محطة البيت الصامت
خالد درويش
حين هاتفني لكي نلتقي كان حذرا جدا كان موعدنا
الثابت في مثل هذه اللقاءات هو مخبز الفوانيس، حيث ننتظر في طابور طويل للحصول على
الخبز كان طابورا طويلا ، لم يكن الطابور همنا لكن اللقاء هو المهم ..
أخذني
"علي التركي" إلى تاجوراء حيث يقيم في مزرعة لأحد الثوار تعرفت على أيمن
ومعاذ ومجموعة من الشباب الذين علموني كيف أستخدم سلاح "الكلاشن كوف"
كان الشباب متحمسا جدا ومؤمنا بقضية وطنه كانت مصانع البطولة والرجولة في تاجوراء
وسوق الجمعة تدفع بخيرة أبناءها وشبابها إلى حرب التحرير وتستعد ليوم الثأر يوم
النصر والذي كان الجميع هنا مستبشرا بقربه ، علي التركي يتفنن في صنع الجلاطينات
هو وأخوته كان نفر من البحارة الثائرين يجلبون الديناميت ويفككونه بطريقتهم
مستخدمين "الكوربات" ولمن لا يعرف الكوربات عليه أن يسأل محلات مواد البناء
حيث اختفت هذه النوعية من السوق وصدر منشور بملاحقتها هذه الكوربات والتي تستعمل
لصنع المتفجرات اليدوية والتي زعزعت قلوب
الأوباش جنودا ومتطوعين تحت الخيام التي نصبوها لإرهاب الناس في شوارع طرابلس ،
هذه الخيام التي تحولت إلى خمارات صغيرة يسهر عليها وفيها أصحابها حتى الفجر وتصدح
من داخلها أغاني الشرك ولعلعة "سمير الكردي" الذي تغنى بما لا يليق بشرف الليبيين والليبيات
حين يقول : نحنا عيلة هذا بونا .. نحن نعرف آبائنا ولسنا أولاد حرام قدس شرفهن
وشرف حرائرنا ، ولا نرضي بقاتل ومغتصب الوطن أبا ، كنت امقت هذه الأغنية وأمقت
صاحبها منذ ان صدح : يا شراب حليب الناقة .
الخيام التي
نصبت كانت عسسا أوليا للكتائب زرع فيها
شباب صغار توزع عليهم وجبات يومية محددة وبكميات وفيرة ومبلغ 30 او 40 دينار
يوميا مع شريط "روج" أو حبوب
هلوسة يعني "بطالة وفلوس وتعميرة راس" ومعاها سلاح ، استهدف الثوار
العديد من هذه الخيام خصوصا في فشلوم ولقد رأيت خيمتهم قرب المثابة الثورية
وأمامها بوابة صغيرة تبتدي عملها بعد أن تغرب الشمس خيمة كبيرة امامها صالون
وتلفزيون وصورة كبيرة للديكتاتور تم تحذير
أصحابها مرارا وتهديدهم إلى أن قام ثوار فشلوم بحرقها ولقد كانت شماتة ما بعدها
شماتة لاولئك الذين أصبحوا فوجدوها صعيدا زلقا . خاوية على عروشها ، سوداء جرداء
لم يصدقوا أن وكرهم قد قصقته قوات الحق والثورة لقد ظنوا ان سيدهم
"العريفي" سيحميهم من قبضة الثوار
وان المتشي موزة وغيرها ستسابق بهم الريح لكن التقديرات كانت منذ البداية
خطأ .
لمدة يوم
واحد بقيت في تاجوراء مع هؤلاء الشباب الطامح إلى الحرية كان البحر ساحة الحرية
الحقيقية وشريان الثورة فمنه يأتي
الخير ووقود الثورة . تعلمت بسرعة كيفية
استعمال البندقية التي اجدها غريبة عني مع أنها حمل ثقيل لا بد من حمله ، أجبرنا
على حمله ، لم يترك لنا الديكتاتور ولا جنوده بدا من ذلك ، لآننا حين خرجنا هاتفين
مطالبين بالحرية عزلا إلا من حناجرنا لم تتوانى مظادات الطائرات عن حصدنا حصدا
واجتثاثنا عن بكرة أبينا ،كان لزاما على اهلنا ان يفكروا في السلاح وان يودعوا
التظاهر والسلمية التي أفنتنا وذهبت بشبابنا .
تركت
الأصدقاء في ذلك المكان وهم لا يألون جهدا في زرع الرعب في قلوب الكتائب إما
بتفجير "التندرات" او باستهدافهم كفرائس ولقد تفننوا في ذلك حتى أن منهم
من اخترع نظام التحكم في المتفجرات عن بعد وأعرف احد هؤلاء كان استاذا للخدع
والمؤثرات البصرية المسرحية عمل معي في
معهد زاوية الدهماني عرض نفسه للخطر والموت في سبيل قضيته لكن ليبيا كانت أغلى من
الروح والولد . حفلت طريق 16 بعمليات
نوعية وتوترت مناطق كثيرة في سوق الجمعة ، اشتعل المحور الشرقي في طرابلس ، كان
الشرق دائما مصدر نكبة القذافي فمن الشرق الليبي جاءته الطامة الكبرى التي قصمت
ظهره من بنغازي وأخواتها تفجرت في وجهه ثورة فبراير المجيدة ومن شرق طرابلس قلقلت
سوق الجمعة نظامه وزعزعت تاجوراء ملكه وهزت فشلوم والنوفليين والقبطان والدهماني
عرشه وأسقطت تاجه .
من أبرز
النكات التي فاجاءتنا في مطلع هذا الشهر الكريم هو إقامة صلاة التراويح داخل ملهى
باب العزيزية أو البيت الصامت والعياذ بالله ، باب العزيزية او "بار
العزيزية" إذ كيف تقام فيه الصلوات وقد تحول إلى وكر للخمور والموبقات ولقد
رأئنا بالصور والفيديو ما يندى له الجبين من دعارة ومخدرات وحشيش وفسوق داخل
جدرانه ، بل ولم يكن ذلك سرا فلقد كانت إذاعة القنفوذ تنقل الرقص والمسخرة مباشرة
من البيت الصامت ، كان سكان أبوسليم القريبين من تلك الخرابة يتسلون بالرقص قرب
صالة الأفراح الدائمة بل وواتخذت "أفيكواتهم" من المكان محطة تقف فيها
سيارات الأجرة وتحج إليها تاكسيات الأمن الداخي المسماة "كحلة وبيضا" بل
وسموا تلك المحطة "محطة البيت الصامد" في إحدى المرات كنت أستقل واحدة
من تلك الأفيكوات التي بقيت لوحدها تتجول دون منازع في طرابلس خصوصا بعد غلاء
البنزينة ذلك الغلاء الفاحش وندرتها أو عدم توفرها ، صعد شاب الأفيكو وأمسك برأسه
وعليه علامات التأثر وطلب من إحدى العجائز أن ترفع يديها إلى السماء وتدعوا أن
يزيل الله علينا هذه الغمة وأخذ يخاطبها
قائلا " راهوا انتو البركة يا حاجة ، ادعولنا ربي ينصر قايدنا ، سيد السبيب ،
ويحفظه لينا ، راهو من غيره ما نسووا شيء ، وحين وصلت الحافة قرب باب العزيزية طلب
من السائق أن ينزله في محطة البيت الصامد ، مجموعة من الأفارقة والأفريقيات
ومجموعة أخرى من العجائز هن أيضا طلبن محطة البيت الصامد ، سألت أحداهن وكانت
طاعنة في السن وفقيرة عن سبب مداومتها في الحضور لهذا المكان والمرابطة فيه مع أنها
لاتملك ثمن الأجرة ؟ فأجابتني : يا وليدي
واعدينا بشقة ، وعلى الأقل نحصلوا كل يوم في غذاء وعشاء .. نزل الجميع عداي ،
التفت إلى السائق وخاطبني قائلا : شني ما تبيش تتعشى حتى أنت ولا ؟ أجبت بأنني
سأكمل للمدينة فبان الغضب على محياه وداس على (الشرطوري) بكل قوته وهكذا أظيفت إلى
محطات ركوبتنا العامة محطة جديدة اسمها "محطة البيت الصامت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق