الروائي العربي حنا مينا :
ولدت بالخطأ ونشأت بالخطأ وكتبت بالخطأ أيضا.
التقاه بالقيروان / خالد درويش
نشر هذا اللقاء في مجلة " شؤون ثقافية " العدد الثاني فبراير 2006
التقيته بالقيروان .. كان مهيبا جدا ومنهكا جدا ، اعياه الوقت والكتابة وشاطئ البحر ، أهذا هو الرجل الأسطوري الذي قذف بي مرارا إلى لجة اللاذقية وأبدع لي وللملايين من قرائه في العالم " زكريا المرسنلي " و"مريم السودا" و"كاترين الحلوة " و"الريس صالح حزّوم " .. أهذا هو الرجل الذي خلق كل أولئك الشخصيات بمن فيهم صديقتي العزيزة " بيروشكا " التي حين سالته عنها لمحت الدموع في عينيه .
كان بجانبي الفنانان الليبيان علي العباني ومرعي التليسي نظر إلي مستغربا قلت ممازحا : أين هي الآن ؟
أمسك بيدي واستبقاني . كان يريد أن يصعد إلى غرفته ليختلي بنفسه ، لكنني اسمعته مقطعا كاملا من روايته ( الربيع والخريف) المقطع كاملا كان جواز سفري إلى روحه ، إلى داخل هذا العملاق الروائي .. بل إلى داخل الانسان الذي عاش الحياة بطولها وعرضها ، قال لي : آه يابني أعدتني للوراء ،، إلى ( فان روج ) إنها "الشراب الأحمر" هذا هو ترجمة اسمها ،، لقد أنقذتني من الموت .
ثم حكى لي كيف أنهما كانا في سيارة وهبط الثلج وغطاهما ، لكنها أنقذته من البرد والصقيع ، هكذا دخلت ذاكرته أقلّب الكثير من أوراقها ،، اسمعته أيضا قصيدة ناظم حكمت التي استشهد بها حنا مينا في روايته تلك على لسان بطله " كرم المجاهدي" .
هنا انفرجت أساريره . دعانا للجلوس وإكمال السهرة معه على ضيقه وتبرمه من ازعاجات الصحفيين وتملق المتملقين .. قدم لي سيجارة احتفظت بها للذكرى ثم ضحك لأنني لا أدخن وضحك أيضا العباني والتليسي وابنه الفنان سعد مينا .
ما أجمل أن تلتقي برجل تعرفه منذ كنت يافعا ،، منذ أن تفتح وعيك ،، تصور أنك قرأت له كل ماكتب ، اذكر اني أول ما صادفت له رواية " بقايا صور" كانت في مكتبة صديق لي سألته عنها فأجاب بانه لم يقرأها فاستأذنته أن أستعيرها منه . وحين فرغت من القراءة .. تخيل معي أنك ترفع رأسك قليلا قليلا بعد غيبوبة لحظات ،، ثم ينفتح أمامك كنز من البهجة والدهشة والألوان ... صرخت الله ما أجمله ... من هناك حفظت هذا الاسم جيدا ، ثم وللمصادفة السعيدة بعدها بأسابيع يقام معرض طرابلس الدولي للكتاب وربما كانت تلك أرخص دورة في تاريخه ، اشتريت كل مؤلفات حنا مينا في ذلك الوقت وغيره وغيره ، لأستمتع وانبهر بـ"الياطر" بزكريا وشكيبة التي خرجت له من الغابة ، شكيبة التي لازالت دموعها عالقة في تلك الليلة القمرية فوق رمال الشاطئ وهي تنتحب خلف الخيمة بعد أن مزمز بها زكريا كسمكة فضية في آخر الليل ز
لأستمتع بالربيع والخريف وبكرم المجاهدي وبيروشكا والمغنية التي وهبته مفتاح العالم وصديقه هيدجو الذي كان يقول دائما عندنا مثلا ، لأستمتع بالشخصية الفذة لسالم مينا ، زوربا متوحد ن بطل ثلاثية بقايا صور والمستنقع والدقل ، مع مريانا زكور أمه ، تلك التي كانت جبلا وبحرا وأمومة ... عالم من الإبداع رسمه حنا مينا ، عالم من الفن والجمال والقيم منذ المصابيح الزرق 1955 مرورا بالشراع والعاصفة والشمس في يوم غائم والثلج يأتي من النافذة والمرصد والولاعة وحدث في بيتاخو وحكاية بحار والمرفأ البعيد وحمامة السحب الزرقاء مرورا بنهاية رجل شجاع التي انتجت كمسلسل تلفزيوني ضخم أخرجه نجدت أنزور وقام بدور البطولة الفنان ايمن زيدان في دور مفيد الوحش ... مرورا بهواجس في التجربة الروائية وناظم حكمت ثائرا وأدب الحرب وغيره الكثير .
لاأجد من الضرورة جدا أن أقدم للقارئ مثل هذه السردة عنه وعن حياته لأنه مشهور جدا ومعروف للقارئ العربي الذي استمتع بما كتب وبما اضاف للتجربة الروائية العربية ، فهو بحق مؤسس أدب البحر في أدبنا العربي المعاصر .
لم يطل حديثنا كثيرا أو ربما طال ولم نشعر ، لكن ماعلق بذاكرتي وما حفظته ألة التسجيل من ذلك الحديث وتلك المحاضرة التي ألقاها بالمركب الثقافي بالقيروان ، أحاول أن أستجمع منه ما تيسر ، لكن تبقى متعة الحديث والذكريات الحية بجانبه من خلال حميمية كاتب الصدق وقارئ التهم كل حرف ليكون تواصلا بين الروائي وجمهوره ومحبيه .
دائما تصبح حوارياتي شديدة الوطأة على قلبي فأنا متعب من الأسئلة وأكره طرحها .. لست صحفيا ولن أكون ، أنا شيء آخر ، أن يكون فاعل مبدع للأسئلة فلا ضرورة للأسئلة ، فقط الحديث هو المهم . خلط الأفكار . فالأجوبة ستأتي والحديث يفتّح نفسه بنفسه . أكره هذه الطريقة التقليدية في سؤال وجواب ، سؤال وجواب .
الحوار هو هذه الجلسة ، الذكريات ، إن الصحفي الآن هو لآلة التسجيل ، أنا فقط قارئ مستمتع ، تلميذ يقول له حنا مينا " إن الكتابة تعني كذا .. كنت في يوم كذا " .
المرض اللذيذ
أنا عليل وعلتي تركض معي ، فهي تسكنني ولا خلاص منها إلا بالجنون ، فالفنانون والمجانين والمحبون قلما يشفون من مرضهم ، الحب مرض لذيذ ، سعيد من ابتلي به وأقل سعادة من شفي منه بسرعة . لقد كانت علتي فغي رأسي وقد أغراني الهرب إلى قصر سيدة منحتني غرفة على البحر لأكتب فيها . ولكنني لم أكتب بل فكرت . فنحن نحتاج إلى التفكير . نحن جياع إلى التفكير كما نحن جياع إلى الديمقراطية وإلى الحقيقة ز كل شعلة ملتهبة تفتحت عن وردة وهذه الوردة تجسدت إنسانا .
حنا مينا : تبارك القلق ثلاثا
أنا لا أملك يدا سحرية تقطف النجوم ن وأصابعي التي هي أغصان شجرة مرجانية منسية في قاع البحر الأحمر لا تورق كزهرة الثلج في الفضاء الخليجي الرطب . وحروفي منذورة لدمي الذي نزف في مواقع خطواتي على درب الشقاء الطويل ، الطويل الماجد والمُجِدّ لأنه صاغني صيلغة حبة الرمل في أعماق خليجنا العربي . تتحول إلى لؤلؤة في جوف محارة عدمية اللون . إنه الألم الذي باركه ألفريد دو ميسيه والعشق الذي نفذ إلى شاعرنا المتنبي والقلق المميت المحيي الذي لازمني في الحب كما لازمني في الكتابة ، فأبقاني معلّقا في فضاء الأمل والخيبة ، إنه القلق تبارك ثلاثا ، تبارك القلق ثلاثا ، القلق محرض على الحب والإبداع ، هذا رأيي .
ولذلك فأنا قلق أكره الشتاء والليل والنوم ، ولا أدري لماذا ، القلق جعلني أضطرب مثل النوارس في الريح العاصفة المجنونة ومنذ وسمتني النار النار في جبيني المتق د ظلت جذوتها تشع وتحبو بين رماد ورماد ، بعضه للتوهج والاحتراق وبعضه للشروق فجرا وللغروب غسقا ، وأنا أغذ السير في طريقي لا أدري أهو طويل أم يطول . لكنه في كل حال طريق المعاناة التي اكتويت بها ظنا مني أنها هي الدواء فإذا هي مع الرجل كطير العمر لا نكوص منه ولا رجوع ولا ريّ لظمأ السراب الذي أرتديته وأرتديه دون أن أبلغه ، من دون أمل من الترحال إليه ومن الترحال في طلبه ودون أن يمل هو من الابتعاد كلما أحسست أنني أدنو منه . وهكذا ترى أن بعض القول لايحكى فيضمر ، فأنا سأقول ما هو مباح في القول وتعرف في الإضمار ما أقصد .. سأفترض أنك قرأتني لذلك أفضل في معاناتي وتجاوزي وإن كنت أدعوك إن أردت أن تكون حقيقيا أن تتذوق ثمرة الخير ةالشر فالشجرة المباركة التي أغوت آدم وحواء بأكلها كانت البداية ولن تكون النهاية وليس ثمة نهاية .
إن رحلة التجارب تنبت كل يوم ألف عوسجة ملتهبة وألف حسرة مدمرة وألف إغراء بفرحة القلب .. فالتجربة والغلبة كنت فيهما واقفا على الأزرق ،حتى لو لم يكن إلا كسب الشهرة التي بغيرها تكون الحياة مدماة ومفجعة
الكاتب في انتظار حكم أبطاله
إنني في حال من العذاب الشديد ، والبطل الذي أتحدث عنه ضاق ذرعا بأبطاله الذين رأو النور والذي مازالوا في رأسه ، يضربون على صدغيه كي يخرجوا للنور ، وذات يوم يهرب هذا الرجل من المدينة إلى المنطقة الباردة الثلجية ويستأجر بيتا حوله الثلوج ، صحراء يغوص المرء في ثلجها ، وقد اطمأن ظنا منه أنه نجا وأنه ابتعد عن الناس وأن الناس ابتعدوا عنه ، لكنه وحين أشعل النار وجد شيئا غريبا ، كان اللهب يتعالى وكل لهب يتفتّح ثم لا يلبث حتى يصير اانسانا ويف أمامه وهكذا وجد أبطاله قد امتلأت بهم القاعة .
وأنهم نصبوا محكمة لمحاكمته على الجرائم التي اقترفها في حقهم . لقد وضعوه في قفص الاتهام .
امتلأ الفضاء أماهمه بأشخاص كان يراهم على الورق ، امتلأت الغرفة بتلك المخلوقات حاصرته ، سدّت عليه سبيل النجاة ، ثم وقفت تتكلم بأصوات مختلفة لكنّها مروعة ، كانت مريم السوداء إحدى بطلات " المصابيح الزرق" أول المتكلمين . قالت :
جئت لمقاضاتك على ما ارتكبته بحقي ، رسمتني قبيحة شوهاء وبالغت في تشويهي ، فقلت لها :
انا يا مريم لم أجرم بحقك وهذا كتابي شاهد
قال الطرويس : بطل " الشراع والعاصفة" وانا أيضا أتهمك ، قلت : بماذ ا تتهمني ياريس ، بل يا سيد الرياس ؟ قال : أبقيتني في رواياتك دون زواج ودون أسرة وولد ، حكمت عليّ بالعقم . وفي هذه اللحظة شق صفوف مخلوقاتي إنسان بحر وغابة ، طويل الشعر يعتمر طاقية صوفية ومن أسماله البالية ونظراته الحارقة تنداح تهاويل جمّة . صاح بي : أنا المجرم الهار ب من غابة وحشية إل غابة وحشية . وقد دنت ساعة الدّين . انا زكريا المرسنلي بطل رواية " الياطر " . قلت مرتعشا من فرط الرعب أمام اتهامه : بم أسأت إليك يا زكريا ؟ قال : صورتني نصف وحش ونصف غنسان وحولّتني إلى ضبع في غابة. ثم لم تكمل قصتي وها أنا ذا يكاد عمري ينقضي وما أزال مرابطا أنتظر . قلت وأنا أنء تحت وطأة اتهام تتوفر فيه كل دلائل الإدانة وهو يتقدم نحوي بكل هيكله : هذا ذنب أعترف به يا زكريا ، لكني سأصلحه الخطأ ، سأكتب بقية قصتك في الجزء الثاني من " الياطر " تقدم نحوي بكل ضخامته ثم أخذ شعلة من الموقد وصرخ : انت كاذب ، سأحرقك .
كذبت على زكريا ، لم أكتب الجزء الثاني ولن أكتبه وهكذا ترى أنني أخلفت بوعدي لزكريا . قلت زورا لأن صالح حزوم البحار الذي نزل إلى الباخرة الفرنسية الجائمة في مدينة اسكندرونة وغرق فيها ولم يعثر على جثته بعد ذلك . انتزع الحطبة المشتعلة من يد زكريا المرسنلي وقال بصوته الجهوري الهادئ والواثق : كفى نحن هنا للتظلم وليس للانتقام ، سنقيم محكمة وستكون فيها يا زكريا المحضر تنادي على أسماء الشهود قال ذلك فإذا قوس محكمة ينصب وقفص اتهام يقام وعلى جانب ي المحكمة مقاعد المدعين ومقاعد المحلفين . ورأيت قرب القوس أبو فارس يطل من المصابيح الزرق وتقوم بمهمة النائب العام إمرأة تفرست فيها جيدا فإذا هي كاترين الحلوة بطلة ثلاثية البحر في حكاية المرفأ البعيد والدقل والمرفأ البعيد ثم تقدم شرطيات هما من أبطال روايتي نهاية رجل شجاع ، فرفعاني فرفعاني عنوة وأدخلاني في قفص الاتهام ووقفا عند بابه حارسين كيلا أهرب . طلب القاضي أبو فارس من كاتب المحكمة الرجل الصغير القميء المتعلّم في روايتي " الشمس في يوم غائم " ان يتلو قرار الاتهام فتلاه . كان قرارا طويلا جدا . وقد تلاه ونحن جميعا جلوس وكنت من قفص الاتهام انظر إليه بعينين مبللتين بماء الحسرة على عمر أنفقته في إعطاء الحياة لهؤلاء المتكبرين المجتمعين في المحكمة لمقاضاتي : مِنَ الذين كتبت عنهم والذين لم أكتب عنهم بعد والذين كنت دقيقا وأمينا في رسمهم ولم اقترف أي ذنب في حق احد منهم ، بعدَ قراءة قرار الاتهام ومواد القانون صاح القاضي : أين محامي الإدعاء ؟ فتقدمت امرأة فارعة كحلاوية العنينين حلوة السمرة . كنت قد فكرت ان أتخذها بطلة لروايتي التي لم تكتب وعنوانها " امرأة الضوء " هذه الرواية التي لم تكتب ولن تكتب ؟ ولن أقول لماذا ؟ قالت هذه المرأة لرئيس المحكمة بنبرة جازمة : انا هي محامية الادعاء ، صاح القاضي : أين محامي الدفاع ؟ فتقدمت امراة بيضاء البشرة ذات جمال أسطوري هي جنية القمر في " الربيع والخريف" قالت : انا هي محامي الدفاع ياسيدي .
من بين الجنون والعقل لي كلمة معروفة : فانا نصف عاقل ونصف مجنون ن وأفضل نصفي المجنون على نصفي العاقل ، لأن العقل سبب شقائنا ــ والحمد لله في هذا الوطن العربي الكبير كلنا عقلاء ؟ قلت : ابحث عن الهوى والجنون ولكن على طريقتي ، قالت : وما هي طريقتك ؟ قلت : أن أفكر أن أفكر ، أن أتأمل لا أن أكتب وكنت خلال هذه الإجراءات الشكلية التي نص عليها قانون أصول المحاكمات والتي عرفت منها أنني أحاكم امام محكمة جنائية وحتى اثناء قراءة الاتهام الطويل كنت أحدق في الوجوه كلها وأتساءل عما إذا كنت أنا من خلقها أو بعث رسمها إلى الأحياء ؟ لقد أدهشني هذا العدد الكبير المزدحم في القاعة ، هؤلاء الذين كانوا شخصيات رواياتي أو الذين لم يخرجوا بعد لأنهم ينتظرون دورهم حاولت عبثا الهروب منها أو الافلات من الاتهام في تلك المقاضاة العتيقة .
استمرت المحاكمة منذ الصباح حتى المساء ، ثم رفعت الجلسة للمذاكرة . ودخل المحلفون القاعة المخصصة لهم للتداول ورحت خلال ذلك .. وأنا انتظر الحكم بالبراءة أحاول رسم ابتسامة ديدمونة كما في مسرحية " عطيل" طالبا الرحمة والرأفة . لاسيما وأن كل من كان حولي كوّر راحتيه ذات الأصابع المتشنجة ومدها نحوي ليخنقني كما خنق عطيل ديدمونة . أخيرا صاح المحضر المرسنلي بصوته الجهوري : محكمة ، وقف كل من في القاعة ووقفت بدوري ، دلف إلى القاعة رئيس المحكمة وتلاه المحلفو وبعد ان علا صوت مطرقة القاضي ثلاث مرات سأل المحلفين : هل هذا المتهم حنا بن سليم مينا وأمه مريانا زكور مذنب أم لا ؟ فأجاب الأكثرية : مذنب يا سيدي القاضي .
عندئذ نطق القاضي بالحكم وهو الإعدام مع الأشغال الشاقة ومع وقف التنفيذ إلى أن أقوم بما يجب عليّ من عمل شاق وهو مواصلة الكتابة .
هكذا أيها القراء ترونني الان أمارس الأشغال الشاقة التي هي الكتابة وأنتظر منكم أن تصدروا حكمكم عليّ وآمل ألا أن يكون الحكم الاعدام مرة ثانية فالاعدام في المرة الأولى يكفي وكل ما أرجوه هو أن تنفذوا حكمكم عليّ بأسرع ما يمكن كي أتخلّص من الأشغال الشاقة التي هي كتابة الرواية أو كتابة السيرة الذاتية والتي حبّرت بها يدي ومازلت أواصل . وانا في الحالتين الجلاد والضحية .
ولقطاع الطرق ... شرف أيضا
كلنا نتفق تقريبا على أن الرواية قادرة على استيعاب أحداث عديدة وأمكنة متنوعة وأزمة قد تطول أو تقصر وهي القادرة على ايواء أجناس فنية أخرى مما يؤهلها لاستيعاب أكثر الأحداث خطورة وجسامة فهل الرواية مازالت قادرة حتى الآن على استيعاب بشاعة وغرابة ما يدور في وطننا العربي من أحداث متسارعة ومركزة ؟
نعم . قادرة على أن تضم بين طياتها الكثير والكثير مما يعبر عما نحن فيه . وإذا شئنا أن نختبر قدرتها فعلينا أن نقرأ ما بين السطور وليس السطور نفسها ، فالكاتب الروائي والقصصي أو الشاعر أو المسرحي عليه في هذا الزمن البائس التعيس الذي بالغ في انهزاميته أمام الأعداء من كل جهة . على القارئ أن يقرأ بين السطور وسيجد أن الروائي والقاص قادر رغم هذه الدوائر أن يقول ما يريد أن يقول ، ففي روايتي الجديدة والتي تطبعها دار الآداب مؤخرا تحت عنوان " شرف قاطع طريق " وقد سئلت وهل لقاطع الطريق شرف ؟ فقلت : نعم ، لهم شرف اكثر من بعض الناس وهؤلاء الناس يعرفهم الجميع ، مكشوفون لنا نحن الجماهير ، فالرواية قادرة على أن تنفذ إلى وجدان الإنسان وأن تصوغه صياغة نضالية . فالقضية الفلسطينية مثلا منذ عام 1948 لاتزال حية لأن الأقلام العربية هي التي أحيتها وهي التي أبقتها برغم الصهيونية والامبريالية وستبقى حية في ضمائر المناظلين .
المنافي هي المنافي
ــ المنفى عشر سنوات أو أكثر ... خارج البحر ... خارج اللاذقية ... فياض هناك ، ثلج كثيف من وراء نافذة الغياب ، تقول سيدي الكريم : أنها الغربة يافياض ..إنها هنا فيّ .. الكتابة الغربة ، الغربة في الروح ؟
ــ دعني أتفاجأ قليلا بسعادتي أنك تحفظ مقاطع كثيرة من رواياتي وهذا يسعدني . هذه الجملة كانت في روايتي " الثلج يأتي من النافذة "
إن المافي هي المنافي مهما تتجمل كعجوز متصابية وفي المنافي أكواخ للتفكير لا للكتابة وأكواخ المنفى تبقى أكواخا ولو كانت قصورا ملأى بأحواض الزهور ومزركشة الستائر ومعطرة بالطيب وتمر عليها السحب بأوراق النقد . انا لم أكن يوما في مثل هذه القصور ولم أسع إلى المال الجمّ ولم أذهب إلى قيصر الروم في طلب نجدة . لقد تذوقت مامتاي" الصين و"ساكي" اليابان وشفاه الخلاسيات في المكسيك ونبيذ "توكاي" في المجر وسالت بي دروب الإغراء في حي سوهو بلندن وتنقلت بين مقاصف اليونانيين بالحي اللاتيني .. واجتزت الجدار الفاصل بين الشرقية والغربية في برلين ورأيت تكشيرة رجال الأمن في نيويورك وركبت الكونكورد التي هي أسرع من الصوت ومع ذلك لم أكتب .
نعم لقد تشردت كثيرا وطويلا وعشت الحياة طولا وعرضا وتوفر لي من التجارب ما لايكفي حياة واحدة لكتابتها . فإن المنفى ظل هو المنفى . ظل " مهنة شاملة" وكان عليّ ان أنتظر حتى أعود إلى بلدي سوريا وأُفرغ تلك التجارب على الورق وأنا في الأربيعن وبذلك أضعت عطاء الشباب .
لقد أضعت في المنفى أغلى أعوامي ... أغلى أيام حياتي ، مقابل ماذا ؟ مقابل الحكمة التي توفرت لي وأنا على تخوم الهرم لذلك ألعن الحكمة ، لقد أنقذني الجنون من كل ذلك . نعم إنه جنوني ، لماذا ياربي كُتب علينا أن نبقى من العقلاء ؟ ولماذا في هذا الوطن العربي الكبير ؟ ماذا قادنا إليه التعقل؟
من الكتاب إلى دنيا الناس
لقد أمسى الضجر اليومي الروتيني كثيرا . لكن تعلّمت من دوستوفسكي كيف أبدّده . كنت أخرج من مكتبي عندما كنت موظفا في وزارة الثقافة إلى دنيا الناس ، إلى الأسواق إلى العالم الذي يضج بالحركة من حولي . الوظيفة التي كادت تقضي عليّ بين أربع جدران وكرسي دوّار . لولا تمردي على بلادتها وانعتاقي بين فترة وأخرى من هذا الحبس الاختياري لما كتبت شيئا .
نصيحتي أن تخرجوا للناس وأن تكتبوا عنهم ولهم . كنت قبل الوظيفة أحب التطواف في المدينة ، في شوارعها الخلفية واحيائها الشعبية وضواحيها والقرى كما كنت أعشق السفر ، عيناي كاميرا ترصدان ونافذتي أذنان تصغيان فتسمعان لتنقلا إلى اللاشعور ما ينبغي أن يترسب هناك من أحداث ومن كلمات وأفعال .