قامات مضيئة عبر “أثير”: علي صدقي عبد القادر؛ شاعر الوردة
ثير- مكتب أثير في تونس
إعداد : محمد الهادي الجزيري
أستعين دائما بصديق ..وها إنّي لإتمام هذه المهمة ..لجأت إلى الشاعر الليبي خالد درويش ، فعدت فرحا بما منحني ، عدت بكتابه ” سيرة الوردة ” الطافح بشخصية الشاعر الكبير الراحل منذ أكثر من عشر سنوات : الملقّب بشاعر الوردة ..عاشق ليبيا وفاطمة ..علي صدقي عبد القادر ..، وسأحاول أن أقتطع من الكتاب أهمّ المراحل والمواقف التي مرّ بها والآراء التي قيلت فيه ..إضافة طبعا تأريخ أهمّ المحطات التي عرفتها حياته المليئة بالحب والشعر والحياة في أبهى تجلّياتها ……..
وُلد شاعر الشباب في السادس من شهر نوفمبر 1924م ، وتوفي في 1 سبتمبر 2008، في مستشفى بمدينة طرابلس قبل أيام قليلة من نقله إلى إيطاليا لتلقي العلاج ، وكان قد تحصّل على دبلوم معلّمين وليسانس محاماة ، وأهدى حياته كلّها للقصيدة ..وأصدر عديد الكتب من ضمنها : أحلام وثورة سنة 1957 مرورا بصرخة ، ثمّ زغاريد ومطر بالفجر ، إلى الكلمة لها عينان ، وقد أصدر سنة 1985 المجموعة الشعرية الكاملة ، إضافة إلى أنّ له كتب كثيرة أخرى مثل : دماء تحت النخيل وهي مسرحية شعرية ، وحفنة من قوس قزح وهي عبارة عن كتابات أدبية ..دون أن ننسى ما نشر عنه بعد وفاته وخاصة كتاب : سيرة الوردة الذي مسح كلّ حياته الذاتية والشعرية بين دفّتيه ..
وأوّل مقطع من شعره سيكون لأشهر قصيدة كتبها وهي ” بلد الطيوب ” يقول فيها :
” بلدي وما بلدي سوى حقق الطيوب
ومواقع الإقدام للشمس اللعوب
أيام كانت طفلة الدنيا الطروب
فالحب والأشعار في بلدي دروب
والياسمين يكاد من ولهٍ يذوب ، ولا يتوب
الناس في بلدي يحيكون النهار
حباً مناديلاً وشباكاً لدار
والفلُّ يروي كل ألعاب الصغار
فتعالَ واسمع قصة للانتصار .. للشعب
للأرض التي تلد الفخار تلد النهار
الليل في بلدي تواشيح غناء
وقباب قريتنا حكايات الإباء
وبيوتنا الأقراط في أذن السماء
بلدي ملاعب أنجم تأتي المساء
لتقول هذي ليبيا بلد الضياء
كرم وفاء ”
علاقته بأمّه كانت حاسمة لتحديد صلته بالعالم ..، لذا أسغب كلّ عاطفته نحو الكائن الذي أحبّه بكلّ ما أوتي من جهد وإيمان وعشق وشعر..ألا هو : المرأة ..، فقد كان حليفها ونصيرها وحبيبها في كلّ وقت ..، يقول علي صدقي عبد القادر :
” إنّني لا أستطيع أن أنام قبل أن أتأكد أنّ صورة أمّي فوق سريري ، إننّي لا أستطيع أن أحلم إلا إذا كان منديل فاطمة الذي أهدته لي ونقشت عليه حرف (ف) وحرف (ع) إلا إذا كان هذا المنديل تحت وسادتي ..
إذن فلولا المرأة لفقدت الأشياء جماليتها ، فهي رمز العذرية والحب وكما أن الأشياء
الجميلة كلّها مؤنثة فالشمس مؤنثة والحياة مؤنثة ”
كان جاري ..إذ أنّ ليبيا نافذة تونس على الشرق ..لكنّنا لم نلتق إلا في طريق وعرة ومخيفة أيام كنّا نحجّ إلى بغداد ..السنوات الأخيرة من الألفية الفائتة ..، عرفته في الحافلة المخصصة لنقلنا إلى عاصمة الثقافة العربية ..بغداد الأسيرة المحاصرة آنذاك ..، كان صامتا متواضعا ..وكانت الوردة ملاصقة لصدره ..مزدانة بوهجه الأخاذ ..مثلما حُكيَ لي عليه ..، ولم يرتفع صوته إلا حين اقتربنا من بغداد ( صاح مهللا ..يا مرحبا بسيدة الشعر ) وأذكر كذلك رحلتنا مع رفاق الكلمة إلى مدينة زلّة داخل الصحراء الليبية ..، لقد كان رفيق سفر ممتاز ..قليل الكلام كثير الهدوء ..محبّا للحياة ….
” من العالم الحرّ سدّ الأفق
بأجنحة من غسق
بها يختنقْ
ومن يومها حزنت نخلة.
أبي قد سقاها بعينيه ، عند آذان الصباح
يباركها ، وهو ماض إلى المسجد
مع الله في موعد
ومن يومها لم تهبنا فصوص الشرّ
ولم تعط حتّى الظلال ، ظلال الشجرْ
لئلا يذوق الجراد ، رحيق النخيل
ولا يتقي بالظلال الهجير
لتبقى حزينة
وفي حزنها كبرياء النخيل “نمرّ إلى الشهادات الكثيرة في حقّه ..، وأوّلها شهادة رامز رمضان النويصري الذي رأى في الفقيد أنّه آب إلى ملجئه الأخير ..:
” وعاد الشاعر إلى حضن معشوقته ، إلى الأرض التي طالما تغنّى بها ، وباهى بها بلاد العالم ، وراهن على ملحها وياسمينها وفلها ، ونسائها اللواتي علّمنه كيف يبتسم كلّ صباح ، وهو يقبّل فنجان قهوته ، عاد الشاعر لينتشر في خضرة النباتات ، وألوان الزهور ، وغناء العصافير ، يتسرّب إلى الماء فينضح الشجر قصائد وأشعارا ، عاد الشاعر ليبدأ حكاية جدية ، فصلا جديدا ، حبّا جديدا ، عاد ليبدأ من جديد ..”
قدّم الشاعر المبدع مفتاح العماري شهادة في قامتنا التي نحتفي اليوم بها ، عنوان : بلد الطيوب ، ومما ما كتبه فيها :
” الاسم الحركي للوردة ، السريالي الأخير ، شاعر الشباب ، جاك بريفر العرب ، شاعر الحبّ ، هذا هو حارس الألفة المحامي ( علي صدقي عبد القادر ) بأسماء وصفات وعلامات تشير إلى كائن واحد ، هو رحّالة مخيلة وجوّاب سرّ ومكتشف كنوز وقارات وأوطان وعواصم بعناوين متعددة وأوصاف ستظلّ طويلا حية ونشيطة وموقظة أحيانا لقصيدة محيّرة ومقلقة ..”
ترجمت قصائده إلى أكثر من لغة خاصة الايطالية وساهم في إثراء المشهد الليبي والعربي بنشاطه الاستثنائي ..وبرغبته المتجاوزة للجسد وقيوده الكثيرة ..، تغمده الله بواسع رحمته وذكره الشعراء والغاوون بكلّ خير وحب …
ممّا قاله شاعر الوردة :
” القصيدة ليست مجموعة من الكلمات والحروف
ولكنّها تعني كائنا حيّا
قد يكون أحيانا طائرا
وقد يكون ظلّي
وفي أحيان أخرى
قهوة أشربها في الصباح ”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق