الجمعة، 28 أكتوبر 2022

خالد درويش المتخلي عن أسطورته رامز النويصري

 



·     خالد درويش المتخلي عن أسطورته

رامز النويصري

 

نعم إنه يتخلى عن أسطورته ، يتخلى عن حكاية يومه الخالصة ، له حكايته التي يمكنه من خلالها صياغة أسطورته التي لا يشاركه فيها أحد أسطورة أثير بها .

أبدأ من هذا التخلي ، محاولا الدخول من هذه النقطة إلى نص خالد درويش لأنه يتخلى عن منجز قبالة منجز ماضوي ، فإن كانت التسعينات فترة رهان خرجت من رحم فترة من فراغ ومخاض داخلي فإن التسعينات كانت مفتتح الخروج والوقوف على كل المنجزات الحديثة حيث الشاعر في هذا الضجيج لم يجد إلا ذاته يجوبها كما يشاء ويومه البسيط في كل ما يتماس معه ، يفعّله لخلق دولته الخاصة المحددة المعالم فيه ، والممتدة الحكم من رأسه حتى ورقته التي تحمل آخر ما أصدر من أحكام أعني نصوص .

وحتى وإن كانت تسعينات الشعر الليبي كونت بطريقة غير مباشرة  ما يمكن تسميته ( التسعينيون ) فإن ذات الطريقة غير المباشرة أوجدت شكل الأسطورة التي حولت مادة اليومي البسيط ،وضجيج الشوارع والزحام إلى حكايات وقصص تحولت إلى زاد حقيقي وغذاء مكتمل المنافع ، يقول : نص / عرس

 نتسلق غيم الحاضر

كي نوغل في عبء طفولتنا

طفلين نراقص ظل الشمس

نخطف عرسا خلف الحائط

لاندري معنى المأذون

ولا نعرف أسرار العرس .

وكي لا تتيه بنا الدروب أكثر فإن درويش يتخلى عن هذا اليومي قبالة التاريخ التاريخ العربي متتبعا حوادثه حافظا خطب سلاطينه وأحكام ولاته ، ولأن التاريخ العربي لم يهتم بالعامة بقدر مارسم ورصد حكامه ، يفكك درويش خيوط النسيج وينسج أسطورته بخيوط يجمعها من عوالم لم يطلها التاريخ ، من شوارع المدن وأزقتها الخلفية وحوافها القديمة ، هنا تتحول طرابلس إلى عنصر في هذه الأسطورة ، بمعنى أنه يراهن على بناء أسطورته بفتق التاريخ العربي ورتقه على صيغة جديدة ، صيغته هو ، وفي تجربته هذه يعلن وعيه بها وإدراكه لتركيبه مفرداته وحوادثه والنقاط التي يمكن تفكيكها لإعادة تصديرها في النص من جديد يقول:

 نص / مهجة الحالمين

ألم تغلق الباب خلفك ، على سوءة من كتاب الحدائق

وسار النهار إليك يعانق رمحك

غرزت بصدر النهار كواكب لم تنحن لك

وغادر كوكب ، يزف تباشير نصرك حتى ارتوينا

وصحت : (فلا غالب اليوم إلا أنا ).

هذا الاتجاه إلى التراث العربي ، والتاريخ العربي والاكتفاء بهما أساسا لمرجعيات النص ، جعلت النص يقف كثيرا في حدود ثبات الشكل عن قبوله لرؤى التجديد ، فظل بناء النص عموديا وظلت اللغة تحتفي بقاموسها العربي القديم ، معولة على إمكانيات المجاز لخلق الصورة الشعرية بالاعتماد على المقابلات وصنع المفارقات .

( وصحت إلي بخصر المياه ) هذه الصورة صنعت مفارقتها من عدم إمكانية تحقق خصر المياه هذا ، هذه الصورة تكونت من خلال حدي المضاف ( خصر) والمضاف إليه ( مياه ) حيث مجرد ذكر مفردة الخصر تحيلنا مباشرة إلى جسد الأنثى لكن وقوعها بعد حرف جر وكونها مضاف يحتاج إلى التعلق بما يكمل معناه  فكانت المياه تمكين استحالة المشهد .

( أصغي لشكوى الخان يسرجه الغريب /بحفلة الميلاد مجنون الوتر ) هنا لا نبحث في تكوين الصورة بقدر ما تأخذنا مفردات هذا المشهد محيلة إيانا إلى القاموس العربي وأعني مفردات المشهد ( الخان ، الإسراج والسرج والسراجة ) فلم يكن من اعتباط في تكوين هذه الصورة فبقدر ما اتجه الشاعر حقيقة لتصوير المشهد بتجرد ودون بهرجة اختار أن يكون المشهد وكأنه صورة مطورة عن الأصل ، لتتمحور العلاقة بين الخان والغريب منه مجرد السكن إلى الامتطاء المعبر عنه هنا باسراجه ، بمعنى أن العلاقة تنحصر في مجرد هذا الفعل .

بذات المرجعية يمكننا فك نسيج تكوين النص ، في إعادة قراءته لفصول التاريخ العربي والتراث العربي واستخراج تيماته الخاصة التي اعتمد عليها في بناء النص، ولو اعتبر البعض هذا اتكاء فإنني أتجاوزه للبحث في إضافته للنص وحيث أن النص / الشاعر ظل أسير هذه التيمات فإنه جُبل على أن يصوغ عوالمه كلها بذات الشكل حتى يغدو النص كأحد المنمنمات التاريخية مخفيا تحت عمامته وجبته عينا ورؤية قادرتان على قراءة العصر ، إنها محاولة قراءة الحاضر أو العصر في الماضي ، أو استجلاء الماضي في العصر وإن كانت تلك أو هذه ، فإن النص حتى هذه اللحظة يظل أسير ذائقته التي مسخته بالثبات ووحدة الشكل يقول :نص / من أين يأتي كل هذا الليل

على جرح المسافة سوف نكبر عاشقين

وننحني من فوق ساحلنا المرير

نختار من قلق البداية احتمالين

لكي نعير جنازة تابوتها

ونسير .

سوف نكبر عاشقين تواعدا وتمردا

صفصافتين

على الضفاف تنوس رقتها

وأخرى بالشحوب يراودها قلق البداية مولدا .

إن أهم ما يربك الشاعر بهكذا مرجعية ثبات الخطاب العام للنص وخطاب المتلقي إذ يظل الخطاب واقعا تحت تأثير ذات اللغة ومفردات الضنى والتضرع والشكوى حتى لتتحول الحبيبة إلى عش أحزان ومقيل هزائم ودرويش يكسر هذا الثبات يحاول أن يستفيد من طاقة قصيدة النثر والنص الحديث وفي نصه الرائع (زقزقة الغراب فوق رأس الحسين ) يخرج الشاعر عن صوته المعتاد يخرج إلى الأكثر حرية خارج ضبط التفعيلة ( من وجهة نظري ) وفي هذا النص يمكننا قراءة

ـــ في هذا النص ينطلق درويش من ذات مرجعية التراث والتاريخ العربيين كي يضمن عدم انفصال أجزاء النص.

ـــ وهو في هذا النص أيضا لا يعتمد على الوزن / التفعيلة بل يعتمد على إطلاق النص عن قولبته مستفيدا من امكانية النص الحديث ليكون متنا قادرا على مبادلة الشاعر غوايته ، بتضمينه مقاطع من النثر الخالص ممثلة في أقوال و خطب .

ـــ يشتغل الشاعر على الجملة المغلقة بحيث أن الجملة تنغلق على ذاته داخل تكوين النص حتى لا تكون جزء منه ، وباعتقادي أن هذا الانغلاق طبيعي في نص كهذا سردي طويل ، كان لابد للشاعر فيه من خلوات تفرضها الكتابة .

ـــ وإن كانت سوزان برنار تحيل هذا النص السردي للاتجاه السريالي إلا أن التفاصيل لم تغب عنه ، فالشاعر هنا كشّاف تاريخ يبحث في زواياه المعتمة ويرسلها لنا ، يحكيه بصيغة الفعل المضارع / الآن وكأن القصة هي التي هنا أو التي حدثت .

ـــ أيضا يغالب الشاعر لغته ويخرج من أسر المعجمية القاموسية فترد مفردات ما كانت من قبل ، فهو يستفيد حقيقة من ملامسة المشاهد حوله وينجح في أخذ مفرداته الجديدة بكل عفوية دون حشر

يقول ( تتقمص أجناسا وطيورا تتشكل في عطل القلب

وسفر الحلم

تغفو تحت الفارس

وتكتب بأشلاء النبض بنايات وهلاما في مهارة نائحة

مأخوذة بالبريد المكتوم

توشك النصوص أن تتلبد غيومها

تنوح ريشة الصائغ في هدأة العريشة

تضرع تحت شبابيك القرائن

منعطفات القرب وحانة النسل

وشيح الغربة )

ورغم أن خالد درويش تخلى عن أسطورته بنجاح إلا انه في هذا النص يكتب يعود لأسطورته ، يعود للمشهد الأكثر قربا منه دون اتكاء تام على مرجعية تراثية ،، لكننا في هذه التجربة نكتسب هذا البعد التراثي ، وهو مهم ومجدي في بحثه الاستقرائي والتطبيقي وخالددرويش يعي تماما أبعاد تجربته وهو يشتغل على إنتاج نصه من جدوى هذا الذي مازال بعد لمن يقرأ بحق .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   *مقدمة لأمسية الشاعر بالمركز الثقافي الفرنسي

الثلاثاء 22/ رمضان 26/11/2002

* نشرت بصحيفة الثقافي / الزاوية

 

 


ليست هناك تعليقات: