عالميات /الشمس الثقافي
لكل من رافق ليو تولستوي وعاش في منزله الواسع وسط مزرعته الكبيرة، تُعتبر كتابة المذكرات واليوميات النسخة المبكرة من (Facebook).
كلٌّ له صفحته الخاصة وأغلبهم كان شديد الاهتمام في تسجيل مشاعره الخاصة خلال وجوده في المزرعة الفسيحة.
لقد دَوّن الكثير منهم أدق التفاصيل عن حياة الرجل العظيم حتى أنها موجودة الآن في مجلدات عديدة، سجلت كل شيء تقريباً من بداياته حتى وفاته، وتولستوي نفسه له مدوناته الخاصة بحياته. الجميع كتب؛ طبيبه الخاص، السكرتاريا، تلاميذه، أولاده، والأهم مذكرات أو يوميات زوجته، صوفيا أو الكونتيسه صوفيا.
بدأت بتدوين يومياتها في السادسة عشرة من عمرها، ولكن تسارعت أكثر بعد 1862 عندما تزوجت تولستوي، إنها لم تتوقف عن الكتابة حتى وفاتها عام 1919، في الوقت الذي هدّدت فيه الثورة البلشفية بالاستيلاء على 4000 فدان من الأرض حيث عاشت أكثر من نصف قرن بها.
"كان ثمة اجتماع لبحث أفضل السبل للدفاع عن المزرعة الضخمة ضد النهب" كتبت في أواخر يومياتها "لم يتقرر شيء. العربات، الثيران، والناس، يتدفقون على طول الطريق إلى تولا" كل شيء أحبّته مهدد بالدمار.
ينحدر تولستوي من طبقة النبلاء وله ممتلكات ضخمة وعقارات وكذلك كتب مشهورة تحمل اسمه. لقد سافر إلى الغرب وعاش حياة صاخبة ومعربدة ثم قرر الاستقرار مع فتاة عذراء في كل شيء تبلغ التاسعة عشرة من العمر، التي ولدت له أخيراً 13 طفلاً، وساعدته في عمله ( لقد نسخت بيدها الحرب والسلام وكذلك أنا كارينينا، عدة مرات)، وكانت المشرفة على مزرعته الكبيرة.
لقد كانت رحلة حياتها مثيرة، لكنها أثبتت أنها في مستوى المهمة، قدر لها زوجها ذكاءها وحسن تدبيرها، وهي بدورها أحبت ليس شخصه وحسب وإنما صيته وسمعته وتعتبرها ميزة مميزة أن تعيش بالقرب من رجل، شهرته تنمو شيئاً فشيئاً، المشكلة أن تولستوي وفي منتصف عمره حدثت له مفارقات ونقلات حاسمة، حيث أدار ظهره للكتابة الخلاقة وأصبح كمعلم دين ثم مضى في هذا الاتجاه حتى بات قديساً أكثر منه رجل دين، محاطاً بتلاميذه من كل أنحاء العالم (بمن فيهم غاندي).
لقد شكل مسيحيته الخاصة، والأسوأ من كل ذلك- من وجهه نظر صوفيا- حينما هدد بالتخلي عن جميع ممتلكاته بما في ذلك حقوقه في مؤلفاته للشعب الروسي. إنها دراما نفسية التي ظهرت عليه. لقد كانت معركة صوفيا مع تلاميذ تولستوي الذين يريدون التوغل في روح تولستوي العميقة.
ازدادت مذكراتها حُمة في 1880و 1890 والعقد الأخير من حياة تولستوي (1900- 1910) وجعلت من هذه القراءة مروعة كما في تدوينها يوم 19نوفمبر 1903:
ذهبت إلى غرفة (زوجي) هذا المساء بينما كان يستعد للنوم، أدركت أنني لن أسمع كلمة لطيفة أو محببة منه الآن وإلى وقتي الحاضر هذا. الذي توقعته أصبح حقيقة، زوجي المليء بالعاطفة التي قد ماتت، لا للصداقة التي لم تكن سابقاً والتي لن أجدها الآن، هل هي كذلك؟ هذه الحياة ليست لي.
ليس ثمة مكان أضع فيه طاقتي وشغفي بالحياة؛ لا اتصال بالناس، لا الفن، لا العمل، لا شيء غير الوحدة والعزلة طوال اليوم.
إنها ترى نفسها محاطة بـ"هذيان المجانين" كل الحديث الذي يدور حولها عن وحدتها والمقاومة السياسية وحياتها كنباتية لا تأكل اللحم، لقد أصبح لزوجها أتباع، تجمهروا حوله، خيّموا خارج مزرعته، لإجراء المقابلات والتقاط الصور، ويقولون للعالم كله أن صوفيا وتولستوي كانا على خلاف. إنها تتساءل بدهشة هل ثمة من يريد فعلاً معرفة ما يدور في حياتها الخاصة؟
في إحدى مذكراتها المبكرة والتي تدل على حساسية مرهفة لعالم مفقود، كتبت في 4 أكتوبر 1878: إنه عيد ميلاد ابنتي (تانيا) الرابع عشر، ذهبتُ إلى المزرعة الصغيرة، أين الأطفال؟ في نزهتم البهيجة، كان ثمة أربعة مواقد نار مضرمة في الحطب مع الهواء الطلق... قضينا وقتا ممتعاً وأكلنا كثيراً، كان طقساً رائعاً. عدنا إلى المنزل لعبنا الكروكية (لعبة بالكرات الخشبية)، سمعنا وقع خبب الخيل والحمير حولنا... هاج الأطفال وقفزوا من فورهم واندفعوا ينطون على الحمير، شربنا الشمبانيا في صحة (تانيا)؛ لقد ارتبكت واحمر وجهها خجلاً لكنها كانت مسرورة.
حياة عائلة تولستوي كانت جيدة (نعرف من خلال هذه المدونات شخصيات كانت مقربة من الأسرة وغيرهم).
حفلات العشاء والشاي والنزهات ورحلات الصيد والحفلات الموسيقية والمسرحيات (كان للأوبرا اهتمام خاص لصوفيا)، والسير لمسافات طويلة عبر الريف وركوب الخيل. إنهم يمضون الشتاءات في مدينة موسكو حيث يمتلك تولستوي منزلاً هناك. كل شيء كان عظيماً و..... - في النهاية- رفض تولستوي هذا الانغماس الذاتي ونظر إليه باشمئزاز وأحاط نفسه بمجموعة من الأشخاص يتقاسمون الفكر نفسه.
من جانبها لم تقف صوفيا خارج دائرة زوجها."إن أتباعه ليس لهم جاذبية، ليس بينهم أحد يبدو طبيعياً وأغلب النساء في حالة هستيريا دائمة" غالبا ما بدا بارد المشاعر معها، كما دوّنت في 5 فبراير 1895. خرجت مع زوجها في جولة صيد وكانت تدعوه (ليوفوشكا) تحببا:
كان ليوفوشكا واقفاً وراء شجرة... وسألته لماذا توقف عن الكتابة. تطلع حولي ونظر إلي بطريقة كوميدية وقال "ليس ثمة من يسمعنا غير الأشجار يا عزيزتي "إنه يدعو كل أحد بعزيزي أو عزيزتي مع تقدمه في العمر)، "لذلك أقول لك، كما ترين، قبل أن أكتب شيئاً جديداً يجب أن التهب حباً- وهذا انتهى الآن!!"
" يا للعار" قلت ثم أضفت على سبيل المزاح "يمكنك الوقوع في حبي إن شئت وعندئذ يمكنك كتابة الجديد!!"
"لا ... فات الأوان" قال.
إنها غالباً ما كانت ثورية على طريقتها الخاصة، كما في موضوع حقوق المرأة :" أتسأل الآن لماذا لم يكن ثمة نساء كاتبات، أو فنانات، أو ملحنات" كتبت في 12 يونيو 1898. "لأن المرأة وضعت كل عاطفتها وقدرتها ونشاطاتها في أسرتها التي استهلكتها بالكامل- خاصة أطفالها. لم يتسنّ لها تطوير قدراتها، وتضمر موهبتها وما تزال جنينية وعندما تنتهي من تعليم أطفالها توقظ الروح الفنية داخلها وبحلول ذاك الوقت يكون الأوان قد فات، إنها منهكة تماماً".
والمؤكد أن الأوان فات صوفيا، امرأة مليئة بالمشاعر المكثفةـ والزوجة المخلصة، المرأة التي عشقت الموسيقى والفنون وعليها أن تتعامل مع عصابة من المجانين. إنها ترى زوجها ينسحب بعيدا عنها وتركها في عزلة عند الخامسة صباحاً يوم 28 أكتوبر1910، لقد سُرق تولستوي من مزرعته المحببة، تاركاً زوجة في الثامنة والأربعين من عمرها وسوف يموت في محطة صغيرة للسكك الحديدية 80 ميلا من المنزل، محاطاً بتلاميذه المقربين، رحلة تولستوي الدرامية تنتهي من تلقاء نفسها متجاهلة إلى حد كبير صوفيا، إنها مرتبكة جداً في تسجيل تفاصيل حياتها ولكن مئات الصفحات تشهد على روح امرأة عظيمة عاشت بالقرب من أحد أكبر كتاب العالم على مر العصور، إنها تتفهم جيداً الثمن الذي دفعته مقابل هذا الامتياز.
جاي باريني /عن صحيفة الغاردين
ترجمة : عبدالسلام الغرياني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق