بقلم الشاعرالعربي المصري : محمد إبراهيم أبوسنّة
تبدو المجموعة الشعرية "آثار طفل في الرمال" للشاعر عبدالدائم اكواص مبشّرةً بموهبة تحاول أن تحفر ملامحها الفنية الخاصة بحساسية ، و وعي نفّاذ ؛ فهو يمتلك أدوات الشاعر، ويستخدمها عبر محيط ثقافي يصله بالتراث ، وبالواقع من حوله ، و بآفاق الثقافة الأجنبية، يذّكرنا بالرومانسيين في أحلامهم المطلقة ، و بالرمزيين في تجاوزهم ، و بالصوفية الحسية ، كما يلامس الواقعية ؛ و لكنّه يبدو هائماً بين الحدود الزرقاء الفاصلة بين هذه المدارس ؛ ربما يعني هذا أنّه يجّرب و يدرّب أجنحة خياله على التحليق ؛ ولم يقع بعد على الشكل الملائم لقصيدته ، فهو يقول :
"سابحٌ صوبَ القصائد
و المعاني مُشــرعه
راكضٌ بين الدفـاتر
و الثواني مُســرجه "
إنّ غيابَ ضمير المتكلّم يعلن حضوراً في الصفة قبل الوصوف ، و يؤكّد مرحلة الأعراف الشعرية التي أشرنا لها . قد تحمل المجموعةُ في عنوانها بعض الإيحاء بالتواضع ؛ لكنّه يحملُ أيضاً طموحاً يخجلُ منه المدُّ في غزلياته الخجول :
" في عينيها...
أملٌ يخجلُ منه المدُّ
خجلٌ لا يفهمه الجزر "
يلامس الشاعر فجيعة الواقع ، و وجيعة الأمة في مقولة "و من الرماد إلى الرماد "،و لكن
الملامسة للواقع تبدو مغلقة و نهائية في قصيدة "سفر الرماد " :
" و من الرماد إلى الرماد .. مرّوا هنا :جيشاً من العربات تلحقهُ الجياد.حملوا على أكتافهم أوزارهم و تبعثروا في كلِّ واد.تركوا لنا في سُرّة التاريخ أدراناً و زاد ..."
يستجيبُ الشاعر لتلقائية اللحظة ؛ فتنهمر الصور و لكنها لا تلبث أن تجفَّ في منتصف الوهج .هو حائرٌ بين قراءاته و تطلّعه إلى دهشة الوجود ، فتشدّه اللغة الصوفية كما يقول:
" أنا صورةٌ في صورتين ،
و صورتان لصورة ٍ
إحداهما مني أنا ،
أخراهما من كلِّ إنس ِ
أنا آيتان بغيرِ لمس ِ
أنا فوقَ إدراكي و حسّي "
الشاعر يستعصي على نفسه ، يستبطن لحظةً هي كلُّ التاريخ ، و يستطلعُ نبأَ كلّ الوجود، فيقترب من التصوّف و يفرّ منه .
" و رأيتها لما هجرتُ بدايتي لبدايتي ...
ورداً يكلّل غايتي
و رأيتها لما رأيتُ نهايتي...
راء ًلرؤياي العميقة ،
راءً لرائحة ِ الحقيقة ،
راء ً لرفرفة ِ اللقاء ...فمتى اللقاء ؟ "
تذكّرنا هذه الصياغة بشعر محمود حسن إسماعيل في تكراره لصورة ربما بهدف أن يستجليها لكنّها تظلُّ مبهمة .
عبدالدائم اكواص مفعمٌ بالحلم و البراءة ، يهيمُ بين الأقطاب الشعرية الجاذبة ؛ فيستخدم لغة الإشارة ، و يقع في إبهام التجاوز ، و يتعثّر في المطالع و البوابات ، و لكنّه يبحثُ وسطَ دفائنه عن رؤيا قد تتجسّد في نقشٍ غائر في جسد الشعر بعد أن يتجاوز آثار طفل في الرمال .
يا زُرقة َالبوح ِالجميل
ورأيتُها لمـّا سَبَحْتُ بخاطري :
جيلاً من الأمواج يلْثمُ شاطئاً ،
ريحاً يُرقّصُ نورساً ،
جُزراً من المرجان تحتضن الرّؤى ،
و رأيتُها ...
آثار طفل ٍفي الرمالْ
و رأيتُها لمـّا هربتُ بناظري :
وشماً على زند المكان.ِ.. رأيتُها...
بين الغيوم شعاع نور ٍيندفعْ ،
كالسّهم ِفي صدر ِالتلالْ ،
و رأيتُها بين النجوم كتابَ غيْب ٍ،
أو مُحالْ
و رأيتُها لمـّا فتحتُ دفاتري :
نقشاً بذاكرة الزمان ِ... رأيتُها...
في لذّة ِالسهر الطويل ... رأيتُها...
في زُرْقة ِالبوح ِالجميل
ورأيتُها لمـّا نسيْتُ إجابتي ... كلَّ السؤالْ
و رأيتُها في قسوتي ...
طيراً جريحْ
و رأيتُها في خطوتي...
درباً فسيحْ
و رأيتُها في قِصّتي...
طوفانَ نوحْ
ورأيتُها ما بينَ بين ...رأيتُها...قبل الأمامِ ...رأيتُها...
بعد الوراءْ
و رأيتُها في دمعة ٍتخشى البكاءْ
و رأيتها لمـّا هجرتُ بدايتي لبدايتي ...
ورداً يكللُّ غايتي
و رأيتُها لمـّا رأيتُ نهايتي ...
راء ً لرؤياي العميقة....
راء ًلرائحة الحقيقة ...
راء ً لرفرفة اللقاءْ...
فمتى اللقاء ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق