الخميس، 10 فبراير 2011

قهوة محمود درويش


خالد درويش

كثير منّا لا يعرف جنون الشاعر الكبير محمود درويش"رحمه الله" وولعه بالقهوة .. نعم القهوة , تلك القهوة التي أدمنها وتغزل فيها وكتب عنها أشهر قصائده (أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي).. بل وتغزل في طريقة تحضيرها حين كان محاصرا في بيروت ووحيدا في شقة مطلة على البحر ، وأصوات الانفجارات في كل مكان ، كان يرى الموت وهو واقف أمام البوتجاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر متوسلا ثانية واحدة ليفتح زجاجة الماء في الغلاية ، ثانية واحدة ليشعل عود الثقاب ، لقد كانت المسافة أقصر دقتي قلب ن كان فقط يريد رائحة قهوة ولا غير رائحتها ، يقول : (أريد رائحة القهوة لأتماسك لأقف على قدمي لأتحول من زاحف إلى كائن حي ، لم يعد لي من طلب شخصي غير إعداد فنجان قهوة بهذا الهوس حددت مهمتي وهدفي ، توثبت حواسي كلّها في نداء واحد وأشرأب عطشي نحو غاية واحدة : القهوة) *.
القهوة عند محمود درويش هي مفتاح النهار ، كان يحب أن يصنعها بيديه لا أن تأتيه على طبق ، كان يتلذذ بصنعها في الصباح الباكر المتأني وحيدا ، يختار ماءه بكسل وعزلة في سلام مبتكر مع النفس والأشياء ثم يسكبه على مهل ، على مهل في إناء نحاسي صغير داكن وسرّي اللمعان ، اصفر مائل إلى البني ثم يضعه على نار خفيفة .
يصفها قائلا : فنجان القهوة الأول هي مرآة اليد واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي تحركها وهكذا فالقهوة هي القراءة العلنية لكتاب النفس المفتوح والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار .
يتبع شاعر القضية الفلسطينية رائحة القهوة بأنف ذئب حاد ويغرق في وصف تفاصيلها والتغزل بها ، ومن منّا لم يأخذه ذلك البخار الخفيف المتصاعد من "الركوة" وتلك الطبقة اللذيذة المليئة بكرات الهواء التي تعلوها حين تستوي ، خصوصا في الصباحات الباكرة إنها الصديق الدائم لإشراقة الصباح الإولى عند كثير من الناس منهم من يغرقها بالسكر ومنهم تغرق شفتيه مرارتها اللاذعة ، إنها القهوة التي يعتبرها درويش رجولة ( الرجل هو الذي يفتتح نهاره بالقهوة أما المرأة فإنها تفضل الماكياج ) .
إنه يعرف قهوته جيدا وقهوة أمه وقهوة أصدقاءه إذ لا قهوة تشبه أخرى لكل واحدة فوارقها التي تميزها ( رائحة القهوة عودة وإعادة إلى الشيء الأول ، لأنها تتحدد من سلالة المكان ، هي رحلة بدأت من آلاف السنين وما زالت تعود ، القهوة مكان ، مسام تُسرًّب الداخل إلى الخارج وانفصال يوحد ما لا يتوحد إلا فيها هي ، رائحة القهوة ، ضد الفطام ، ثدي يرضع الرجال بعيدا ، صباح مولود من مذاق مرّ، حليب الرجولة ، والقهوة جغرافيا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بين الأقواس مأخوذ من كتابه ( ذاكرة للنسيان )

ليست هناك تعليقات: