الشاعر عفيفي مطر أمام قوس ماركوس بطرابلس (بكاميرتي)2008
خالد درويش
يخلع الصبي جلبابه الوحيد المتهرئ ويلقيه في النار ويبقى عاريا ليجبر أباه على شراء جلباب جديد له ..
هكذا هداه تفكيره الطفولي وكان المر لا يعدو استبدال جلباب بجلباب وكأنه ليس هناك شبكة منصوبة طوال الوقت ليقع في أسرها فقراء مصر كلهم في النصف الأول من القرن العشرين ..
"أوائل زيارات الدهشة" كتبه محمد عفيفي مطر بكل حواسه وبذاكرة تحوي أكثر من نصف قرن من المشاهدات والمشاركات والرؤى ، شهادة على عصر شديد الثراء وسيرة ذاتية لشاعر من أكبر صنّاع الحداثة في الشعرية الجديدة بفترة الستينيات والسبعينيات المنصرمة..
يتحدث محمد عفيفي مطر في هوامش التكوين عن ذلك الطفل الذي مسح النوم عن عينيه واستقبل صباحه الأول في "الكتاب" ولأول مرة كان سحابة من الإيقاعات المتشابكة قد انعقدت فوق بيت"سيدنا" إي المعلم ، في غرفة واسعة في بيت هذا الرجل يأخذ ذلك الطفل مكانه على الحصيرة بين جماعة المبتدئين : انتبهت مفزوعا مرتعبا على صوت سيدنا وهو يعنف امرأته وابنته الشابة وهما وراء الباب ثم علا صوته الأجش الغليظ بآيات قصار السور فقلت لنفسي : لابد أن القرآن امرأة وأن الآيات أمومة خالصة لا يعرفها الرجال واكتشفت أن كل ما حفظته من قبل قد سقط من ذاكرتي ، فبكيت .
يواصل مطر سرده الحميم وإملاءه بصور الطفولة واصفا الأماكن والحوادث في دقة وجمال ذلك الولد الريفي الرث الذي يعطّش حرف الجيم حال نطقه لها ، يصف ذلك الشاعر الذي يتصبب حريرا وقصبا وأقواس قزح ، ظننته جسدا من الموسيقى ينبع منه الكلام فسهر معه وكذلك القرية كلها والتي مازالت تردد غناءه الشجي وتحفظ كلامه الممتلئ بأجواء الحفل وصليل السيوف .. تلك السهرة امتدت حتى الفجر ومازال يقص حكاية النسر الذي اختطف عقد اللؤلؤ من يد العاشق وانطلق به إلى السماء السابعة والعاشق بركض تحت ظله صارخا متضرعا إليه أن يرده عقد محبوبته من بلد إلى بلد .
الطفل الذي تبدأ رجولته ـ في القرية ـ وأمومة الصبية في سن السابعة وعلى خشونة الفطام المبكر من اللهو واللعب الفقير لكنه لم يكد ينسى أهوال قصص العفاريت وخوارق الجن حتى حمّلته العائلة مسئولية على مدار الساقية كي يغمز البقرة بطرف عصاه كلما توقفت أما عن مدرس التاريخ في أواسط الخمسينيات في صفوف المدرسة الثانوية والذي كان بطلا من أبطاله الروحيين ورائدا ثقافيا حيث فتح أمامه أبواب اللهفة العميقة والبحث المضني عن عوالم الفنون التشكيلية عصورا ومدارس وفنيين أما كيف كان الطالب يترقب أستاذه كل صباح بالقطار من القاهرة وغيرها من المدن لم يبادله الكلام يقول وهل يستطيع أمثالي الحديث مع تاريخ الإنسان بفنونه وملاحمه وقد تجسدت في رجل ، في اختبار نصف العام كتبت في إجاباتي تعليقا على صيغة سؤال من الأسئلة وبينّت ما فيها من ضعف وانتقاد للدقة ظنا مني أن عمق الرابطة بيننا قد خلق وشيجة من كرم الحوار تسمح لي بالمناقشة ولعلي ظننته سيفرح ،، لكنه في اليوم التالي نادى بغضب أين فلان ؟ فوقفت متوجما ، قال : أنت قليل الدب .. وقبل أن يتابع أصابته الدهشة إذ رآني متفجر العينين بالدموع . لكن قبل نهاية العام الدراسي بقليل أختفى نهائيا ولم نعد نسمع عنهوعرفت انه نقل إلى مدينة لعلها القاهرة أو بنها ..أحسست بفجيعة اليتم وهم الوحشة .
وتشاء الصدف ويمر شاعرنا بعد ثلاثين عاما عابرا ميدان رمسيس ومعه بعض الأهل فرآه مقبلا من بعيد ومعه احد الناس يكلّمه ،، لم يتغير منه شيء سوى بعض الشعرات البيضاء والسمنة الخفيفة ، نفس أناقته وحضوره الفخم الموحي وأسنانه المفلّجة التي لم تنقص وعينيه المضيئتين التفت كل منهما وحدق في وجه للأخر بنظرة التعرف والتذكر المرتاب هرول شاعرنا إليه،، لكن زحام الميدان طواه ، كان وجهه قد اختفى وعينا شاعرنا مبللتان بالدموع ..
في هذه السيرة الذاتية سيرة الطفولة يتذكر محمد عفيفي مطر علاقته بالكتب وكذلك حال الناس والثقافة في مصر "سلالة الثور" السلالة التي كانت حياة الثقافة وجمهورها المستهلك ورافدها الذي يمدها بأجيال المثقفين والكتّاب والشعراء والصحفيين من أبنائها ، تسمع من أفرادها كيف كانوا ـ وهم طلابـ ينتشرون في شوارع القاهرة وغيرها من المدن بعد فجر الثلاثاء من كل أسبوع ليكونوا أول من يتلقف أعداد مجلة الرسالة فور صدورها وتردد بينهم أسماء الأعلام من الكتاب والمثقفين والمؤلفين والشعراء كأنهم بقية الأهل وتمتلئ دورهم بالكتب والمجلات المختلفة حيث تلقفت أيديهم في زمن الصبا مجلات الرسالة والثقافة والمقتطف والمجلة الجديدة ومجلتي الهلال وأبوللو ومؤلفات توفيق الحكيم وطه حسين والعقاد وهيكل وأحمد الصاوي ومحمد الزيات واحمد أمين وهم أول من لبس الجلابيب البيضاء و الطواقي "ام حيطة"وسط أهل القرى الذين شاعت بينهم الملابس الزرقاء والسوداء واللبدة وطواقي الصوف القاتمة كأنهم في حداد للأبد ..لتتوقف هذه السيرة عند العشاء الأخير في ليلة فاصلة بين زمنين ووجودين حين أنهى دراسته التكميلية في شبين الكوم ثم في صبيحة 7 أكتوبر 1956 كان يقف على رصيف محطة القرية ويدق برأسه في الجهات الأربع متوجها إلى مدينة هي أم الدنيا يحمل تحت يديه نسخة من القرآن والكتاب المقدس ووحي القلم للرافعي و"أين المفر" لمحمود حسن اسماعيل ومحاورات أفلاطون ومختارالصحاص وألف ليلة وليلة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق