الخميس، 3 يوليو 2014

محمد ديب وثلاثية الجزائر




                                                                                        
                                                                                    شوقى بدر يوسف
نشر بالشمس الثقافي


     فى مدينة تلمسان التى تقع غرب الجزائر، تدور أحداث الثلاثية السردية الروائية " البيت الكبير " " الحريق " " النول " التى كتبها الشاعر والروائى الجزائرى محمد ديب باللغة الفرنسية وقام بترجمتها إلى العربية الدكتور سامى الدروبى، والتى تزامن صدورها مع صدور ثلاثية نجيب محفوظ " بين القصرين " " قصر الشوق " " السكرية " فى بداية ومنتصف الخمسينيات، وعلى الرغم من أن الثلاثيتان السرديتان الشهيرتان كتبتا قبل ذلك التاريخ بكثير، إلا أنهما تمثلان وقت صدورهما نموذجا جديدا وهاما من نماذج الرواية العربية الممتدة الحدث، أو ما يعرف برواية الأجيال، أو الرواية النهرية، فثلاثية محمد ديب تعتبر من الثلاثيات الروائية المكانية الممتدة الحدث، حيث يحتفى الكاتب فيها بالمكان المنتخب من أحد أحياء مدينة تلمسان مسقط رأس الكاتب، من خلال بيت كبير من البيوت النمطية الواطئة المتواجدة فى المدينة، وأيضا من خلال الريف المجاور لها، وانعكاسات سطوة هذا المكان على الشخصيات المهمّشة، الجائعة الحائرة، والدائرة فى شوارع المدينة وأزقتها وأحيائها المختلفة تبحث عن الحد الأدنى لقوت يومها وحياتها ألا وهو " الخبز "، ومن ثم فهى تبحث أيضا عن المعنى الكبير للحياة وهو الحرية، والأمان، والمعيشة الكريمة وسط عصر ملئ بالقسوة والاستعمار والقمع والاستغلال، أما ثلاثية نجيب محفوظ فهى ثلاثية روائية تحتفى بالأجيال والزمان المصاحب لها والذى تجاوز حدوده فى هذه الثلاثية ثلاث عقود، حيث بدأت ملامح شخصياتها تظهر منذ ثورة 1919، وتتدرج ملامحها ومواقفها الاجتماعية، والأيديولوجية حتى  منتصف الأربعينيات من خلال سطوة خاصة تمتلكها بعض هذه الشخصيات وتمارس من خلالها بعض من انعكاسات العصر، والواقع وممارساته على الأحداث الأساسية للثلاثية وعلى رأس هذه الشخصيات شخصية السيد أحمد عبد الجواد رأس الأسرة التى تمثل نموذجا للحالة الإجتماعية المصرية خلال تلك الفترة التى جسدتها الثلاثية .
     وثلاثية محمد ديب أو ثلاثية الجزائر كما يجسد مضمونها هى تلك الثلاثية الروائية التى قال عنها الشاعر الفرنسى الكبير أراجون " : إن هذه القصة تبشر بولادة عصر القصة فى الجزائر "، وهى كما تبدو من أحداثها ومشاهدها المؤججة، كما لو كانت ذكريات طفولة محمد ديب نفسه، فمن يقرأ الجزء الأول من الرواية " البيت الكبير " يجد أن ذكريات طفولته تتجلى مع الأحداث كما ولو كانت عادت إلى الحياة مرة أخرى، أما من يقرأ الجزء الثانى " الحريق "، والجزء الثالث " النول "، فإنه يجد فيهما بركانا على وشك الثورة، وأن ملامح المقاومة ضد المستعمر الفرنسى أنذاك قد بدأت بشائرها تبدو فى الأفق، حيث يبدو فيها الحريق الكبير المشتعل داخل المكان، وداخل الذات الجزائرية المهمشة من خلال تلاحم صور الظلم، ومظاهره المتشابكة المعقدة، والمحركة لإحداثيات الحياة الساخنة، والثورة التى كانت وشيكة الوقوع، والتى عجلت بها حركة الوعى الشديد الممتدة خطوطها فى الأماكن الجزائرية المتوهجة بوهج البؤس، وقسوة الحياة، خاصة ما هو متواجد فى أرجاء المدينة، فى شوارعها وأزقتها وبيوتها ذات الأبواب الواطئة، وفى ربوع الريف، والقرى المتناثرة فيه، وفى الصحارى وفى سفوح الجبال وقممها، وحول عجلات الأنوال فى مصانع النسيج، وغيرها من الأماكن التى تطأها وتطولها مظاهر القمع والقهر والعنف الإستعمارى الأستيطانى الفرنسى البغيض . ولأن بداياتها كانت فى هذه البيوت الواطئة أمثال بيت " سبيطار" الكبير فى مدينة تلمسان والذى يمثل نموذجا للبيوت الجزائرية المهمشة فى ذلك الوقت، فإن " عمر " وهو الشخصية الأساسية والمحورية فى الثلاثية والرامزة للشخصية الجزائرية الباحثة عن الخبز أولا، أيام البؤس والشقاء، والمتطلعة إلى طموحات الحياة الكريمة ثانيا، والساعية أخيرا إلى الحرية والكرامة والعدل، حتى أن قصة " البيت الكبير " تبدأ بعبارة " أعطنى قطعة خبز "، قالها الولد الصغير عمر وتلاميذ من سنه لا يتجاوز عمرهم العاشرة إلى طفل صغير كان قد أحضر معه قطعة من الخبز، وعمر هذا نشأ فى هذا البيت الكبير " بيت سبيطار "، وكان هو الرمز المحرك لبذور المقاومة، والثورة، وهو أيضا المتحرك داخلها كوقود لهذه المقاومة العارمة التى عمت كل بيت فى الجزائر. من هنا نجد أن صفات أبطال محمد ديب وقيمهم تحاول أن تدلل على أن الصراع من أجل الحياة قد أصبح عاملا من عوامل تكوين الشخصية الجزائرية على إطلاقها، وأن القلق والترقب من اجل هذه الغاية قد أصبحا سمة من سماتها، كما أصبحت الثورة المسلحة هى الشئ الذى لا مفر منه، وهى همها الأول والأخير للوصول إلى منابع الحرية وروافدها التى تؤجج صدور الناس فى كل مكان على أرض الجزائر ، كما أن محمد ديب نفسه فى عالمه الإبداعى الخاص سواء كان فى شعره أوسرده، كان هو ذاته تعبيرا خاصا عن قلق وترقب أفرزته الثورة الجزائرية المرتقبة والتى تنبأ بها فى بواكير أعماله الروائية، خشية أن يصبح المجتمع متحولا من حالة الترقب والجيشان المؤججة للثورة والمقاومة الحتمية إلى حالة من اللامبالاه والعودة إلى حالات الخوف والقلق من المجهول، لذا كان محمد ديب يساعد أبطاله على التحرر من هذا القلق الذى يساورهم ، ويبث فيهم الحب الحقيقى للحياة ، والغرام العظيم المختبئ فى كل مكان من الأرض الجزائرية ، حتى بين الأعشاب الصخرية التى باتت رمزا للمقاومة السرية، من خلال الرجال والنساء والأطفال ، الجميع كان لهم دور عظيم فى المقاومة والثورة والحرب ضد المستعمر الفرنسى . ولعل أحداث ثلاثيتة بما تمور به من وقائع وممارسات يعيشها أبطال الثلاثية تصور بداية الحركة نحو تغيير وضع الأشياء، وتحريك الأمل ناحية مساره الصحيح حتى لو أدى ذلك إلى دفع الثمن غاليا من الدم والروح والعرق، ففى " البيت الكبير " تأتى الشرطة لتحقق مع أحد المجاهدين، ثم تبدأ الحرب العالمية الثانية، وتطول الحرب فرنسا نفسها، وكان أول اجتماع سياسى يعقده الفلاحون، وبداية كفاحهم الفعلى بإضرابهم عن العمل كان رد فعله هو الإنتقام الرهيب من الفرنسيين، حتى وهم فى أوج محنتهم مع عدوهم، نفس السياسة التى لم تتغير من قبل السلطة حتى فى أيام الحرب التى هزمت فيها فرنسا . كما نجد فى الجزء الثانى من الثلاثية " الحريق " تتعمق الأحداث، وتتحدد أبعاد الثورة التى بدأت بوادرها فى " البيت الكبير " ، لتصبح فى " الحريق " وبعد وصول " عمر " ورفيقته " زهور " إلى بلدتها الريفية " بنى بوبلن " ، حيث يبدأ التنظيم السياسى للفلاحين فى التكون ويبلغ ذروته فى الفصل العشرين من الرواية حين يعلن عن الحريق نفسه، وهو بداية الثورة . إن الزمن التاريخى الذى يفيد كخلفية فى هذا النص هو زمن إعلان الحرب العالمية الثانية الذى كان من المفترض أن شخصيات الرواية ستشارك فيها، لذا يتتبع الكاتب " حميد سراج " الشخصية الثورية المقاومة فى النص إلى سجنه فى تلمسان، فى هذيانه الناجم عن التعذيب، حيث يتداخل الماضى والحاضر والزمن وما وراء الزمن ، لنعود إلى " بنى بوبلن " لنشهد إعلان الإضراب، وحريق الأكواخ، ويأس الفلاحين ومقاومتهم، والقلق الذى تلبس كل من فى هذه القرية عشية بداية الحرب العالمية الثانية وهو الحدث المروى عام 1954 زمن صدور الرواية والذى تزامن صدورها قبل عدة أشهر من تفجر وظهور بوادر حرب التحرير الجزائرية، لذا كانت وجهة النظر الروائية التى توخاها محمد ديب فى ثلاثيته التى حدثت وقائعها عام 1939 ورويت عام 1954 كان تبشيرا من سرد محمد ديب لرؤية تنبئوية فاعلة لما سيحدث على أرض الجزائر من مقاومة وثورة وحريق .
     إن أبطال محمد ديب فى الثلاثية يؤكدون على منطق ضرورة تغيير الأوضاع، لإيجاد حياة أفضل، ويطاردهم البوليس لمجرد أنهم يريدون الخير لوطنهم ولشعبهم ويريدون حياة طيبة لمواطنيهم، وواقعية الكاتب تظهر فى أحداث الثلاثية من خلال استخدام الشخصيات الطبيعية فى كل مكان فى الجزائر خاصة فى البيوت ذات الأبواب الواطئة، وفى الريف، وهو ليس واقعيا فقط لأنه أختار أبطاله من صميم الشعب أو لأنه يقدم لنا صورة حقيقية لما يدور على أرض الجزائر، ولكن لأن أبطاله بدءوا يشعرون بالظلم الواقع عليهم، وبعدم عدالة هذا الوضع، ولعل البطل الرئيسى " عمر " قد بدأ يفهم، وتدور فى نفسه ثورة عارمة على هذه الأوضاع من كثرة ما رأى، ومن كثرة ما أحس، وشعر به من هوان، وقمع، وذل ، والآخر الذى تبدو فى شخصية " حميد سراج " الذى عرف وبصر طريق الخلاص الوحيد لهذا الوضع وهو أن يعمل من أجل تغيير هذه الأوضاع، مهما كلفه ذلك من دم وجهد وعرق .. ثم أحاسيس الناس سكان البيت الكبير " بيت سبيطار " سكان الجزائر واعترافهم بأن هذا هو طريق الشرف كما قالت زينة أحد شخصيات الثلاثية " : إن السجن لمن يسير فى نفس الطريق قد أصبح شرفا له " ، ويكشف لنا محمد ديب بنفس البراعة التى جسد بها الشخصيات المحركة لأحداث الثلاثية أعماق نفسية الشعب الجزائرى عن طريق تلك الأحاديث التى لا تنتهى بين الفلاحين، و بين الفلاحين ومواطنيهم، وبينهم وبين أسيادهم، ثم ذلك الموقف الواعى من السيد والذى يعبر عنه ذلك السيل من الشتائم والعبارات التى تنم على الازدراء والاحتقار والحقد تجاهه ، إن الشخصيات الجزائرية التى عبر عنها محمد ديب فى ثلاثيته السردية تدل على أنهم يكدحون طول اليوم ويراودهم أمل واحد هو الحصول على قطعة صغيرة من الأرض تكون ملكا لهم، ولكن هذا الأمل لا يتعدى مجرد الحلم، فهو طول حياته سيظل عبدا لهذا السيد، ولن يتحقق هذا الأمل مطلقا مع إن الأرض أصلا ملكا له، والهواء ملكا له، والحياة كلها فى الجزائر أصبحت ملكا له . كما تعطينا الثلاثية أيضا أبعادا وإحساسا بالمرارة عاشها شعب الجزائر فى ظل القمع والقهر الفرنسى إبان الإحتلال، ومن خلال هذه المشهد الرائع الذى جسده محمد ديب فى ثلاثيته نجد هذه اللوحة والمشهد الموحى من خلال هذه الفلاحة التى تبدو فى مظهر يرثى له والجالسة على قارعة الطريق تمسك بيد طفلتها التى تموت والجموع المارة تنظر لها بلامبالاة متناهية، وهى تقول لها : لا تموتى، فما زلت صغيرة .. وحين تكبرين ستعرفين وستفهمين " . ماذا ستعرف هذه الصغيرة وماذا ستفهم ؟ هذا هو السؤال الضخم الكبير الذى عبرت عنه هذه الثلاثية الرائعة التى بدأت أحداثها فى أواخر الثلاثينيات مع بداية الحرب العالمية الثانية وكتبها محمد ديب فى الأربعينيات ونشرت فى الخمسينيات وكانت على موعد مع الثورة الجزائر التى بدأت بعد أن صدرت الثلاثية بعدة شهور .