زقزقة
الغراب فوق رأس الحسين
(الفاعلية
التعبيرية المفتوحة)
..................كمال
عبد الكريم الشلبي................
يبدو خالد درويش في مجموعته الأدبية (زقزقة
الغراب فوق رأس الحسين) وكأنه قرر في لحظة واحدة التدرب على الكتابة، التدرب على
الكتابة يعني السماح لعضلات الخيال بالتفسخ كما تشاء، لا رقابة البتة على هذيان
الشاعر، تلك المنطقة المعتمة الضاربة بعمق بهيء في ما وراء الوعي هي وحدها التي
تحكم الشاعر أينما نظر، ذاك الصمام الذهبي الواقع بين شفافية الوعي وظلامية اللاوعي
مفتوحاً الآن على مصرعيه، وما عليك سوى ترك نفسك تعمل كريشة في مهب رياح النص.
كيف
نمسك إذن بالغائب في الحاضر، وكيف نطلق الحاضر في الغائب ونحن نلج تداعيات ما يشئ
به المتحقق النصي عند درويش. تلك هي المسألة الأولى التي نصطدم بها حال قراءتنا
لزقزقة الغراب.
في المرحلة الأولى من قاموس الشر وابتداءً من "
مستنقعات" ومروراً بأكثر من مئة وسبعون دالاً وصولاً إلى " الحاكم بأمر
الله" يتنفس الشاعر التاريخ العربي برمته ثم يتقيأه جملة واحدة على رصيف
الحاضر، لعله استطاع أن يستريح قليلاً، لعله أستطاع أن ينتقم لأسلافه من أسلافه،
لكن الشاعر ما يلبث أن ينفجر متسائلاً في المرحلة الثانية من قاموس الشر:
"ترى
أأستطيع بمفردي أن أشق البحر، أن أمخر أحشاءه، أتستطيع سمكة صغيرة..ناتئة التضاريس
أن تلعن البحر بجبروته وعنفه وجلاوزته" معلناً عن مأساته،
فعلى الرغم من أن السمكة لا تستطيع العيش خارج البحر إلا أنها لا تلبث توجه
لعناتها له، فالكائن لا يستطيع العيش خارج كينونته، لكنه في الوقت ذاته يبدو رافضا
له، ويبدو الرفض أداته الوحيدة في انتظار " فارس ذي خصال يسألهم "ما
تطنون أني فاعل بكم ".
من
الصعب تتبع مسارات الخيال في دروب المعنى غير المستقر، إذ في اللحظة التي تقول
فيها أنك أمسكت بالمعنى يسرقك درويش من جديد ويقذف بك في مدارك أخرى تحيلك إلى
حواف جديدة.
في
المرحلة الثالثة من قاموس الشر نتوقف مع الشاعر أمام " نجم ساهر
" و " غرفة مضاءة" نتوقف معه أمام تساؤلات وجودية كبرى:
من
قال للأفق الممتد: كن أزرقاً
من
قال للبحر: كن غادراً
أنها
أشبه بألغام مفخخة في النص، وهي جاهزة لأن تنفجر، فتحيل الراكد والآسن إلى ينبوع
من الدلالات المتعاقبة في أنحاء شتى، تبدو غير متجانسة للوهلة الأولى، ولكنها
شيئاً فشيئاً تجتمع عند بؤرة واحدة مكثفة تمتص ذاتها وتطلق عنان رفضها ساخرةً من
المعتاد:
صرخت
أوداجه: أو لم تؤمن؟
قال:
بلى، ولكن
همدت
دقات الطبلة الصغيرة
ترنح
قليلاً
ثم
سقط
هكذا
تبدو جدلية (السؤال/ الجواب) (الواقع/ المفارق) مسيطرة وطاعنة وباكية. أنها أشبه
بالفأس الذي يقتلع الأشواك والحشائش البليدة استعدادا لغرس مشتهاءات الشاعر
ورواءه.
"
حملت معي زاد الرحلة واستأجرت ذراعين مفتولين، بقرت بطن امرأة حامل واستخرجت
الجنين واردفته القارب نجوت بالصغير عله يرتع في مكان أجمل."
الجنين
الذي نجا به الشاعر ليس سوى حلمه الذي يخاف عليه من الغدر فيقرر أن يسرقه من
سارقيه ويرسله نحو أفق آخر مغاير.
"
مضغت التوت في فمي، هرسته جيداً، ثم ألقمته للطفل، شعت عيناه بالألق، تفتحت
غمازاته الساحرتان، أبتسم لي، طأطأت عليه، وحضنته بيدي اليمنى، أما اليسرى؛ تواصل
التجديف، وصوت الموج ينشد العتمة".
في
(حكايا ابن جبير) يسترسل الشاعر من جديد خلف الخيط المفضي من التاريخ إلى التاريخ
عبر ثقب الذات الذي يشبه ثقب إبرة تمر من خلالها الريح مولولة وعابثة تهز الكيانات
وتنشر صراخها في استقامة عاجلة، الشاعر يلوي عنق الكلمات بغضب واحتراس أيضاً، إنه
يلوك المعاني خلف هرجة الأحداث غير آبه بشيء سوى بالتحليق في فضاء الشعر الرحب،
هناك حيث يمكن أن ترى في الأشياء أكثر من الأشياء.
في
المرحلة الأولى نجد الذات الشاعرة وقد صارت دالة في الزمن، تصير الذات هي الجانب
الحاد والهرم والجذاب في التاريخ، أنها القاضي المعاصر، الذي يحاكم الملوك، ولكن
عن أي ذنب ، لنستمع:-
"بلغني
أيها الملك السعيد أن الأقداح غدرت بالمؤنة/ وأن الأسماء امحت من حجارة النفور،
فارتدت لغة كسيحة الصلوات، مدانة بين دفتيها دافقة."
هكذا
تنسج اللغة تناقضاتها، تنتج الاضداد، لتخلق عالم يرجح بين الحقيقة والخيال، بين
الواقع والتاريخ، وبين الصمت والصراخ:
"
كنت أيها الأمير أعب الذكرى/ فأشرق بلثغة سافلة/ رغبة الفسحة أن تجد متكاً في فؤوس
البحارة العنيدين"
تلك
هي لعبة الكلمات في تلاطمها وفي انفجاراتها وفي تبعثرها على الهامش حصى وبرتقال
ومعاني ونجوم لتخرج إذ ذاك عنيفة تلوح بالدمار:
"
أنا الضلوع أقوض مني انتكاساتي/ شريحة تكتم/ وأعصر خمراً كي يشرب الريش ماء العيون
المصفاة ".
لا
يمكن إلا أن يكون الخيال قد فعل ما يحلو له بالشاعر فصار يرفض الانكسار في جوف ما
يترآى له حين يحلم بأن ينهض متثاقلا " نهض الأمير متثاقلاً، سحب آلة
التصوير، والتقط صورة للحائط"
ربما
يكفى أن يكون الشاعر شاهداً وعابثاً في ذات الوقت، شاهداً على ما جرى، وعابثاً بما
يجرى. هذا ما نلحظه أيضا حين يتحول الشاعر إلى مسئول في حضرة الملك:
بلغني
أيها الملك أن (راندو) دخل وهو يخاصر (ماتيلدا)/ أخلى لهم الراقصون الحلقة، وقفوا
يشاهدون.
بالامكان
أن نلمح تصادم قوي بين رغبة تسرج نفسها للماضي التليد وبين رغبة أخرى تنطلق إلى الأمام
ضاربة بشدة كل ما سلف على عارضة شديدة : "ماتيلدا الجائعة، حلقت مع
النوارس، كانت الأم ودورة الليل وهذا القمر العفريت في شبه إغفاة".
من
بين الأشياء التي يمكن ملاحظتها في تتبعنا لإندهاشات الشاعر إزاء ما يفتعل في خفاء
التاريخ ذاك الامتزاج بين عناصر دينية متفرقة ومختلفة ومتضادة تقدم لنا على أنها
متصالحة ، هنا نلتقي فيما يرى الشاعر ب (
أسقفا يبرك ومسجداً على حافة القنوط ) وهنا تعود الذات الشاعرة الى أقصى
الوراء حيث ( أنا آدم المسجود له، بركة الطين وخلجاته) لنستقبل بعد ذلك عنف
الحياة وحلاوتها في اعتقال محير ( فلا إمام ينتظر، ولا راهب يتلو، بحر متلاطم
من الغسق إلى الغسق) لتعود المتناقضات المتصالحة تعمل من جديد(باسم الرب
الأعلى، باسم الطاغوت، باسم الاشتراكية المؤونة، باسم الأغلبية الماحقة).
لكننا
نسأل من جديد ترى هل تفاعلت هذه الألوان المعرفية بالقدر الكافي في ذهن وخيال
الشاعر بحيث أمكن أن يتولد من هذا التفاعل دلالات فيها من التكثيف والمراوغة ما
يربك المتلقي ويحيره.
بالإمكان
في كثير من المواضع المتفرقة من نصوص الزقزقة أن نلمح التأليف بين عناصر مختلفة لا
تربطها رابطة منطقية وكأننا أمام تلك الصرعة الفنية التي ظهرت في أوروبا في الثلث
الأول من القرن العشرين كالتكعيبية والمستقبلية والدادية والسيريالية والتي كان
لها الأثر الحاسم والفعال في التأثير على الكثير من المقاييس الفنية والأدبية
وهكذا يحيلنا النص عند درويش الى عمل فني واحد يجمع في طياته عناصر مختلفة كانت في
السابق وسائل تعبيرية تختص بشكل فني واحد ولا تتعداه، ولكن السؤال الذي نثيره هو
هل أفلح الشاعر إذ ذاك في التعبير عن الحقيقة الصعبة عبر زخم المفردات ذات
الدلالات المتشظية في اتجاهات عديدة متنافرة.
من
الواضح ان الشاعر في معظم نصوصه حاول جاهداً أن يقدم الألوان المعرفية التراثية في
أخبار ومعلومات تأخذ أحيانا شكل السرد الدرامي الذي يمتزج فيه أكثر من صوت : صوت
الذات وصوت الجماعة وصوت الأشياء مضفورة مع حركة الذات والجماعة والأشياء، وحاول
أحيانا أن يقدمها في صيغة تساؤل وفي صيغة محاكمة أحياناً أخرى وفي صورة لوم شديد
للأنا الشاعرة التي تصير الأنا الجماعية كما في (سفر غرناطة) " ليملأ
الخزي مفاصلي حتى أقيئ شؤماً وندماً" وكما في (مفتتح أخير لحشرجة الموت )
" لآهتاً تضطرم الديدان في اشتعالي/ ترتسم أفواها جنوبية الأرجاء/ أمد يدي
إلى ريشتي الخائرة/ أنفخ في الحُجُب أفاقاً، فيغيض اللون بركة دم" . أنها
رحلة الآهة المتسربلة من أعماق الماضي عبر تموجات الذاكرة حيث تتحول "
تفاصيل الغمامات المطموسة" إلى " نخل تثقله ديدان الذكريات"
إنها المفارقة العجيبة التي يضعها أمامنا الشاعر حين ننظر إلى تاريخنا المجيد على
أنه نخل لكنه مثقل بديدان الذكريات التي تنخره وتجعله هشاً فكم هي حقاً كما يقول
الشاعر " مُرَّة ارتعاشات الحوار"، ولعل المرارة تزداد حدة حين
نصل إلى نهاية المجموعة (مفتتح أخير لحشرجة الموت الأخير) لنجد الشاعر وكأنه قد
تنصل من كل تلك المرارات التاريخية وقرر أن يختلي بنفسه في عالمه اليوم. ولكن لننظر
ماذا حدث:
(أختلي
بنفسي، فأجد الصمت والصراخ ومجلة العربي، أجد الألم واللذة، وأفتح صندوق العجائب
في داخلي، أفاجأ بالمصباح قد سرقته الأيام). نكتفي بالقول أن المرارة التي تجرعها
الشاعر في أمتشاقه للتاريخ لا تقل مرارة من شهقات سيدي الشعاب التي سمعها الشاعر
بينما كان يتبادل الحب الطاهر مع حبيبته، لحظة فوجأ بالكارثة المعلنة في ( مجلة
كانت بين أيدينا "مقصية العنوان"
"خطفت
المجلة من بين يديك، فوجئت بالكارثة، قرأت بصوت عال، أسمع نفسي، وأتيقن جيدا،
أهزُّ رتابة المحيط : الأيدز بين أطفالنا، من المسؤول؟!"
ويظل
السؤال مفتوحا، يضم بين شدقيه عنف الماضي ورعب الحاضر وظلامية المستقبل.
.............................................................................................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق