هل نكرس عزلة منهجية
يلعب المركز الثقافي التونسي الليبي دوراً متميزاً في
تفعيل الساحة الثقافية والأدبية والفنية وهو دور جدير بالالتفات والتنبه إلى
مناشطه، وفضلاً عن ما قدمه من أمسيات شعرية وأدبية نقدية تجمع بين مبدعين من كلتا
الساحتين الليبية والتونسية فإن المركز الثقافي التونسي الليبي كان حريصاً دائماً
على تقديم الفنانين التشكيليين الليبيين إلى الساحة التونسية من خلال المعارض
والمهرجانات الموسمية هناك. وفي التفاتة ذكية من إدارة المركز التي قدمت من خلال
ناقد وباحث تونسي هو الدكتور صلاح الدين بوجاه- دراسة نقدية* حول مجموعة من
المبدعين الروائيين الليبيين هم: إبراهيم الكوني ود. أحمد إبراهيم الفقيه، وأمين
مازن، وخليفة حسين مصطفى، وعبدالله القويري.
حيث تناول الناقد أعمالهم الإبداعية تحت عنوان
"بنية النص وبنية المجتمع في السرد الليبي المعاصر".
ومن خلال القراءة التي قدمها الناقد والتي حاول فيها
الكشف عن بنية المجتمع الليبي في النصوص الإبداعية موضع الدراسة فقد قسمها إلى
نماذج مدينية، وأخرى قروية، وثالثة صحراوية.
وإثراء للحوار فإننا سوف نقدم ملاحظتنا حول المنهج الذي
اعتمده الناقد في دراسته، والذي أتى مخالفا للعنوان الذي اختاره فالعنوان مركب من
مصطلحات تنتمي جميعها إلى البنيوية وما بعد البنيوية مثل "بنية النص"
فمفهوم البنية لم يتكرس في النقد الأدبي إلا بعد أن أصبحت البنيوية منهجاً ذا
أدوات إجرائية له جهازه المفاهيمي الخاص، كما أن مفهوم "النص" هو من
إنتاج لسانيات ما بعد السوسيرية وما بعد البنيوية أيضا، وله كذلك جهازه المفاهيمي
الذي أثراه عدد كبير من النقاد والباحثين الأوروبيين. ثم يأتي مصطلح "بنية
المجتمع" ليؤكد القصدية في اختيار المصطلحات التي تركب منها عنوان الدراسة.
وإن كان يعود بأذهاننا إلى نقاد من أمثال ألتوسير ومن قبله جولدمان. وهذا التركيب
المختار من مصطلحات البنيوية وما بعدها لم نجد له أي حضور إجرائي أو مفاهيمي في
متن الدراسة التي قدمها الباحث، والذي اقتصرت مفاهيمه على محاولة الإمساك بواقع
اجتماعي قد يكون منعكسا في السرد الروائي، وهو الأمر الذي يفهم منه أن الباحث يفترض
نمطاً اجتماعياً معيناً لديه، يبحث عنه ويحاول اكتشاف سرديات متناهية فيه، وبالطبع
فإن أي ملامح اجتماعية يمكن إخضاعها لهذه النظرة، وهو أمر يغيب عنه. إن عملية
الإبداع تنتخب عناصر من الواقع سواء المكاني أو الاجتماعي، ثم تعيد بناءها طبقا
لرؤية الكاتب بما يحقق له إمكانية تقديم عالمه الخاص بدلالاته التي تخدم المغزى
الذي يحمل الرسالة المراد تقديمها.
وعندما سؤل الباحث عن سبب عدم استخدام النظريات النقدية
الحديثة مثل البنيوية أو التفكيك؛ لامتلاكها إمكانيات إجرائية قادرة على كشف بنية
السرد وبنية المجتمع.
فوجئنا بالرد المتناقض مع العناصر المصطلحية التي
استخدمها الباحث باختياره في العنوان: "بنية النص وبنية المجتمع في السرد
الليبي المعاصر" والتي تعني أن الباحث قد حدد للقارئ المنهج المزمع استخدامه
في البحث وأن استخدام المصطلحات ليس مجرد حلية زخرفية.
قائلاً أن هذه النظريات لها أصولها الفلسفية التي لا
تتفق مع إبداعنا العربي وأنها تخص الغرب وتطوره.
فمن ناحية يستخدم مصطلحات هذه النظريات بينما يرفضها من
ناحية أخرى. ونحن نرى أن الرد لم يكن موفقاً لعدة أسباب..
أولها: إن السرد الروائي أو القصصي هو واحد وإن تعددت
لغاته وألسنته.
ثانياً: أن الرواية أو القصة العربية تندرجان ضمن بنية
تطور قادها الغرب في العصر الحديث.
ثالثاً: إن هذه النظريات، بدءاً من البنيوية مروراً
بالسيميولوجيا، قد أسست نفسها على ما افتتحه اللغوي السويسري فرديناد دي سوسير في
"دروس في علم اللغة العام" متزامناً مع ما قدمه الناقد الروسي رومان
جاكبسون في نظرية "الشعرية".
وإن أي قراءة عادية لشخص مثقف غير متخصص سوف يكتشف أن ما
أثاره كل منهما من تساؤلات، وما قدموه من إجابات تكاد تكون متطابقة مع ما أثاره
النقاد العرب القدامى سواء كان ذلك على مستوى علم اللغة أو على مستوى اللسانيات،
والتي يكفي الرجوع فيها إلى باحث تونسي أيضاً هو الدكتور عبدالسلام المسدي في بحثه
الرائع "التفكير اللساني في الحضارة العربية" ليكتشف ذلك ويكتشف معه أن
نظرية مثل الشعرية التي قال بها رومان جاكبسون لها أساسها المتين في الثرات العربي
وخاصة نظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني، كما أن المطلع على ما قدمه طه حسين في
كتابه الذي أثار ضجة واسعة "في الشعر الجاهلي" والذي عدل وأعيد طبعه تحت
عنوان "في الأدب الجاهلي" يستطيع أن يرى في تطبيقاته النقدية منهجاً
تفكيكياً واضحاً وكان ذلك في النصف الأول من القرن العشرين أي قبل أن يتم صك مصطلح
التفكيك على يد جاك دريدا؛ لكل هذه الأسباب لا نستطيع أن نتساهل منهجياً مع النظرة
التي تعزلنا عن التطور الحادث في العالم. فالشعوب التي لا تملك من الثقافة
والمعرفة ما يشكل لها ركيزة في الإسهام الحضاري العام تدخل صفر اليدين إلى
المعاصرة مندرجة في نتاجاتها.
أما نحن من نملك تلك الذخيرة المعرفية والثقافية والتي
تؤهلنا لأن نكون محاورين جيدين للمعاصر؛ فنختلق الحواجز العازلة، وهو ما لا يليق
بنا.
أردنا أن نثير مجموعة من الملاحظات المنهجية والثقافية
في إطار الدعوة التي أشار إليها المركز الثقافي التونسي الليبي التي تدعو إلى
تفعيل دور الثقافة والمثقفين بواسطة القراءة والحوار للمدونة الإبداعية؛ وهي دعوة
نبيلة تنسجم مع الدور النشط الذي يقوده هذا الملتقى الهام.
*الإشارة إلى المحاضرة التي أقامها المركز الثقافي
التونسي الليبي بطرابلس يوم السبت الموافق 30أكتوبر 2004 في العاشرة مساء للدكتور
صلاح الدين بوجاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق