محمد زفزاف ..
الملك ذو
الخفّيْن البلاستيكيّيْن..
** ظافر ناجي **
لقد صار من المرهق لنا و لغيرنا أن نعود للحديث عن طبيعة
الدعوات و الاستضافات التي تقوم بها الهياكل و المؤسسات الثقافية في بلداننا
العربية حيث صارت القاعدة أن تكون هذه الدعوات من قبيل ردّ التحيّة بخير منها و من
صنف استضفني أدعوك ..
و أسوأ ما في هذه الممارسة رغم ظاهرها الإيجابي هو أنّها
تقتصر على نفس الوجوه و الأسماء التي
تتحوّل إلى نجوم سادّة الطريق أمام تجارب أخرى مغايرة و مختلفة ..
و رغم أنّ هذه هي القاعدة عموما فهناك استثناءات يجب أن
توجّه لها التحيّة و هي تلك الهياكل التي تذهب عكس التيّار لاعبة دور الكشّاف
المتطلّع إلى الجديد و المختلف .
يبدو لي أنّ مركز الرواية العربية الذي أنشئ في بدايات
التسعينات في مدينة قابس في الجنوب التّونسي كان قد لعب هذا الدّور على الأقلّ في
سنواته الأولى قبل أن تتغيّر أحواله و يسقط في النموذج الطّاغي الذي كنّا بصدد
الحديث عنه ، و من أفضال هذه الجمعيّة الأهليّة أنّها استقدمت إلى تونس عددا من
الكتّاب العرب الذين كانوا وقتها مغمورين لكنّ الرهان كان على تجاربهم الواعدة ، أو
كذلك راهن على التجارب الأصيلة حتّى و إن لم يصاحبها ذلك البهرج الإعلامي الذي
أصبح يعدّ شرطا من شروط الإعتراف .
في هذا الإطار أذكر أوّل مرّة شاهدت فيها الكاتب المغربيّ
الرّاحل محمّد زفزاف المولود سنة 1942 و المتوفّى في 13 جويلية 2001 ..
دخلت إلى قاعة المحاضرات و جلست مع الجمهور و في قبالتنا
كانت طاولة المتدخّلين .. كانت الطّاولة مغطّاة بقماش جميل يصل إلى منتصف أقدام
الطّاولة .. لا أعرف ما الذي دفعني إلى النظر إلى أسفل الطّاولة عوض الوجوه ..
رأيت أربعة أزواج من الأحذية اللّمّاعة ثمّ خفّين بلاستيكيين من النّوع البلاستيكي
الرخيص الذي نراه على شواطئ البحر .. لم أصدّق عينيّ .. من هذا الكاتب الذي يفترض
أن يكون مهمّا و يرفض أن يلعب لعبة الإيهام بالأهميّة من خلال الأناقة ؟ من هذا
الذي يتجرّأ على أن يلبس خفّين بلاستيكيّيْن في حضرة هذه الوجوه التي تملأ أسماؤها
الجرائد و المجلاّت ؟
حين وقف صاحبنا بقامته الطّويلة و النّاحلة اكتشفت محمّد
زفزاف لأوّل مرّة .. لحية غزيرة و طويلة و سروال دجينز من الماركات الشعبيّة
المنتشرة في الأسواق الهامشيّة .. كان مظهره اللاّفت يدعوك إلى تجاوزه لتعرف ماذا
يكتب .. مظهر كهذا لا يمكن أن تصدر عن صاحبه كتابة منضبطة مستكينة للقوالب السّائدة
.. و فعلا بدأت الاطّلاع على كتب محمّد زفزاف تباعا .. حوار في ليل متأخر: قصص، المرأة والوردة: رواية، أرصفة وجدران: رواية، بيوت
واطئة: قصص، قبور في الماء: رواية ، بيضة الديك: رواية، محاولة عيش: رواية، ملك
الجن: قصص ...
و
مع قراءاتي تلك اكتشفت أن أعمال زفزاف العفوية الصادقة تحترم جمهورها وتعنى
بقضاياه ولا تقدمها كما يشتهي الآخر فهي ملتصقة بهموم عامّة
النّاس و تحتفي بالأمكنة و الشخصيّات
الهامشيّة بلغة تترقرق شعرا و أسى ..
كان
محمد زفزاف لا يعرف فعلا غير الكتابة .. يكتب في كلّ مكان ، في شقّته أو في
المكتبة حيث كان يشتغل أو حتّى في المقاهي التي كان يرتادها على غرار مقهى
الماجيستيك .. كان يعتبر الكتابة و القراءة عالمه لذلك وضع لشهادته الروائيّة في
الملتقى الذي ذكرته عنوان " الرّواية مملكتي " .. كانت اللغة مملكته و
كأنّه لا يعرف غيرها و غير التبغ و السيجارة التي لم تكن
تفارق اصبعيه أو شفتيه ..
و رغم كلّ ما قدّم و كتب لم ينل زفزاف في حياته أيّة جائزة
أو تكريم رسميّيْن .. التكريم جاء بعد موته بإحداث جائزة أدبية باسمه تمنح كل ثلاث سنوات خلال مهرجان أصيلة
الثقافي الدولي بالمغرب فاز بها إلى حدّ الآن السوداني الطيب صالح و الليبي
ابراهيم الكوني .. لذلك يجوز عليه المثل التّونسي " عاش يتمنّى حبّة عنب ، و
لمّا مات أتوه بعنقود "
و قد قال سعدي يوسف في رثاء زفزاف: " تشبّثه
بالحرية، حرية الفنان والمواطن، أورده شظف العيش،
بل المقاطعة والعزلة أحيانا. وبينما كانت الانتهازيّة سبيلاً الى الرفاهة كانت الشدة لدى محمد سبيله الى قامة الفنان
الفارعة " .
محمّد
زفزاف بعد أكثر من خمس سنوات على وفاته يحتاج إلى أكثر من وقفة بدأها الإخوة
الكتّاب المغاربة بإصدار أعماله الكاملة و كتاب حول تجربته و إقامة هذه الجائزة
باسمه لكنّه أكثر من كلّ ذلك لأنّ حياته و مماته كانتا درسين للكتّاب العرب يمكن
اختصاره في الجملة المشفّرة التّالية : " كيف يمكن أن تحوّل الكتابة إلى
مملكة دفاعا عن حقّك في ارتداء خفّين بلاستيكيّيْن في أفخم الفنادق ؟ "
ظافر
ناجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق