الأحد، 6 نوفمبر 2022

درة الأيام عمر عبود

 


                               درة الأيام

عمر عبود

 

ما أطول الوقت .. ما زالت الأيام تلفظ شجونها نحو نحره .. تخترق أوردته لتسكنها حزنا أبديا على ما فات .. وما سيأتي .. كل شئ كان كالحلم .. الصفقة التي أبرمها ..كانت صفقة العمر .. وضع فيها كل    ما جمعه .. بل كل ما فوق رأسه وتحت رجليه .. كان ظنه أنها ستنتشله إلى عالم الأحلام .. لقد جلس أوقاتا طويلة يفكر أي منها يبدأ بتحقيقه .. هل يبدأ بقصر منيف.. أم بمزرعة مد البصر .. أم سيارة بعرض الطريق .. أم بخدم وحشم وأطايب وسفريات ؟.... كل يوم يجلس ويعدد المطاليب في قائمة .. وما يلبث أن يعدل ويضيف ويحذف .. ثم يلغيها آخر اليوم .. ليبدأ بتصور جديد لقائمة المستهدفات .. صار متفرغا لهذه الجلسة .. فهو يجد فيها متعة رائعة .. والآن ها هو يتكئ على أحد الصخور البحرية .. يتلذذ بصفع الموج له .. ويشعر أنه يستحق أكثر من ذلك .. يفكر بالعودة للبيت .. لكن بما سيقابلهم بعد أن ضيع كل شئ نتيجة هلعه المفرط ..هذا المكان هو الأفضل .. خاصة أنه نفس المكان الذي تبلورت فيه فكرة صفقة العمر .. بل صفعة العمر .. يتذكر ويتذكر .. يتذكر كيف ترك وظيفته الرسمية بعد أن قدم استقالة أنيقة .. ودع زملاءه معتقدا أنه يودع البؤس .. فقد كابد الكثير في عمله .. إذ أنه كان كثير الخروج لأداء أعماله الأخرى .. فهو يستأجر محلا لبيع الملابس .. يتجول بين الأسواق في مواعيد إقامتها .. حيث يشد الرحال مساء اليوم السابق للسوق ويمكث حتى يمسي .. كثيرا ما كان آخر من يغادر .. سيارته الصغيرة كانت رفيقته في كل رحلة .. فهي رغم صغر حجمها تتسع لحمل بضاعته من وإلى السوق .. وكذلك المحل .. إضافة إلى استعمالها في الركوبة .. ففي بعض الأحيان يسترق جزءا من وقته ليلتحق بالطريق العام .. حتى صار زبائنه يأتون إليه في البيت أحيانا .. أما النسوة فقد صرن يترددن على بيته لشراء الملابس .. صارت زوجته مركزا رئيسيا لتوزيع كافة أنواع الملابس ومن مختلف الأحجام والأشكال .. أطفال .. نساء .. رجال .. الشئ الوحيد المزعج بالنسبة له أنها تساعد زبائنها في البيع .. فمنهم من تبيعها بالتقسيط .. ومنهم من تنظرها حتى آخر الشهر .. خاصة المدرسات .. والبعض تخصم منه عند البيع .. في مقابل أنها ترهن من البعض ذوات الأزواج الأثرياء حليهن .. وتكتب ورقا بذلك حتى إذا أفلحن في إقناع أزواجهن بالدفع .. وإن لم يكن كان الحلي حلالا زلالا عليها .. ولم تخبر زوجها بشأن الحلي .. وهو كان يلومها على تساهلها مع الزبونات ويقول لها بأن هذا الأمر لايجب أن تعرف فيه حتى الأبوين .. وأمام كل ذلك كان عليه أن يتفرغ لهذا العمل .. فتمتع بكل إجازاته المستحقة .. ثم خرج في إجازة بدون مرتب .. ثم بدأ يتعلل بالراحات الطبية .. أخيرا تمكن مكن الحصول على وظيفة في الحراسة بحيث يكون عمله تناوبيا .. يوم عمل وثلاثة أيام راحة .. كل الأمور تسير كما يجب .. وهو يقوم بجمع الإيرادات ويضعها في حسابه .. لم ينفق أي فلس على مصروف البيت ..       ولم يطور هذا البيت الصغير .. ولم يغير سيارته .. لم يمتع نفسه     ولا الأسرة بأي شئ .. فهم مجندون للعمل والبيع .. والملابس في البيت موجودة بحجرة مفتاحها الوحيد مع زوجته .. وهي تنفذ تعليماته الصارمة بعدم فتحها إلا للزبونات أو لإدخال البضاعة .. ومن ثم يقوم بالجرد ومحاسبتها كل يوم .. ويقوم بتحميلها كافة الديون .. حيث أنه لايعرف في ذلك حتى أبويه .. وهي تحاول أن تطيب خاطره وتطمئنه بأن حقه لن يضيع محتملة منه غليظ القول ...... ...  وجاء اليوم المشهود .. ذلك اليوم أتاه صديق قديم في المحل .. استقبله وهو على عجلة من أمره .. سقاه شايا .. وأبدى نحوه بعض الترحاب .. لكن ليس هذا وقت المجاملات .. فهو جدا مشغول .... ما شده إليه عندما بدأ الصديق الحديث عن السوق والخدمات وتحسين الأحوال المادية والظهور على وجه الدنيا .. إلى أن وجه له الصديق السؤال الأهم :

ـ لماذا لا تقفز قفزة نوعية ؟.. .. ثم ودعه وانصرف قائلا :

ـ سأتركك على أمل أن أراك في المرة القادمة وقد ظهرت على وجه الدنيا..... .. وظلت عبارات الصديق ترن بداخله .. .. بدأ يفكر بالأمر جديا .... عقب قفله للمحل ليلا ذهب إلى البيت .. تناول لقمة واقفا ..  ثم أخبر زوجته بأنه قد يتأخر قليلا .. وعليها أن تنتظره كي يتم قفل الحساب اليومي .. ومضى صوب البحر .. جلس عند نفس الصخرة التي يجلس عندها الآن .. كان الموج هادئا .. لاح له وجه صديقه عبر الموج المنساب .. كلماته تتردد في أذنيه .. الظهور على وجه الدنيا .. عندها .. أعاد شريط حياته العملية حتى يعرف أين هو وماذا يريد ..... لقد بدأ حياته موظفا بسيطا معتمدا على مرتب بسيط كان يكفيه إلى حد ما .. حصل على شقة وسيارة انتهى عمرها الافتراضي .. كانت كافية مشاويره اللازمة .. فعلاقاته الاجتماعية محدودة .. حتى زواجه كان بطريق الصدفة .. حين كان يتردد على شقته الصغيرة ويقوم بتشطيبها وترتيبها .. لمحته فتاة قريبة منه في السن .. دقت بابه بإيعاز من أمها لتقدم له بعض الطعام على استحياء .. فوجد فيها استلطافا حين سألته :

ـ متى ستكون جارنا ؟ .... فأجابها :

ـ ليس بعيدا .. يبدو أني سأجد حيرانا لطفاء .... ... ثم بحثت عن طريقة للسؤال الأهم ..  تلعثمت قليلا ثم تمالكت نفسها وسألته بخجل :

ـ هل سيكون عرسك قريبا ؟ .. فرد عليها :

ـ في الحقيقة مازلت لم أفكر في هذا الموضوع .. لكني الآن فقط بدأت أفكر .. بل ربما وجدت ما أبحث عنه قريبا مني .. ثم نظر إليها مبتسما وأردف :

ـ حدثيني عنك وعن أسرتك .. وطال الحديث بينها ..... أهم ما في الأمر أنها تركت الدراسة مبكرا وتفرغت لخدمة إخوتها ومساعدة والدتها بعد وفاة والدها .. ولا يكبرها في العائلة سوى شقيقها الذي يعمل بالصحراء ويظل غائبا لفترات طويلة .. وعندما يعود في إجاز ته يعم عليهم كل الخير ... فأعجب بالأسرة لبساطتها .. ثم ودعته بابتسامة خجولة تاركة إياه في غبطة وحبور .. فصار يجد في ترتيب وتشطيب البيت .. وأثناء نزوله مغادرا باب العمارة .. أخبرته أن أمها تدعوه لتناول الغداء في الأسبوع المقبل .. وهو موعد إجازة الابن الأكبر من الصحراء .. فشكل ذلك الأسبوع منعرجا في حياته .. وكان ما كان .. وصارت له أسرة .. ومن محاسن هذا الزواج كون الزوجة قريبة من أهلها .. الأمر الذي ساعده على أعماله الكثيرة .. حيث بدأ بالتدريج .. كان في البدء يعمل مساء بمحل للملابس .. وما لبث أن اكتسب الخبرة وصار يتاجر لحسابه .. ثم عرض على صاحب المحل المشاركة .. ومن ثم اشترى البضاعة كاملة وانتقل لمكان آخر أكثر حركة .. إضافة لعمله بالسيارة ..سبع سنوات مرت وهو يعمل بهذه الكثافة  .. وكلما زاد ربحه قل مصروفه وزاد تقتيره .. وعندما يسأل يجيب بأنه يدخر الأموال لأمور أولى من المصروف الزائد .. وسيأتي اليوم الذي يحقق فيه الجميع أحلامهم .. ترك عديد الفرص لشراء قطعة أرض أو سيارة أفضل من سيارته .. كل ما يفكر به هو القفزة النوعية .. كل تلك الأفكار تنساب عبر الموج أمامه .. وفجأة انتفض قائما .... وجدتها .. الآن حان وقتها .. سيدخل على مشاريع أكبر .. سيشتري في يوم من الأيام كل ما يدخل من بضائع من الميناء .. بدأ الاستعداد لذلك .. باع سيارته .. سحب كل رصيده .. باع بضاعة المحل .. باع البضاعة الموجودة بالبيت . .. كلف زوجته بجباية كل الديون من الزبائن والجيران .. فتماطلت بعض الشئ ثم أفهمته بأنها لا تريد أن تفقد زبوناتها .. فأغضبه ذلك .. . قدمت له كل ما لديها من مسوغات أحضرها لها في عرسها .. لم تبق إلا على خاتم الخطوبة .. فهو عندها لا يقدر بأي ثمن .. إنه يذكرها بأيام        لا تنسى من حياتها .. صحيح أن زوجها أخذته الدنيا بعيدا عنها وصارت تشعر بابتعاده .. وأنه صار مهووسا بجمع المال .. إلا أنها ما زالت تأمل فيه خيرا .. وطال الأمل .. أما هو فمازال مستشيطا غضبا ويسمعها غليظ القول .. ولم يتورع عن شتمها واتهامها بأنها سبب لأشياء يتوهمها .. فرمت له مسوغاتها وطارت صوب بيت أهلها ولحق بها الأطفال .. ولم يثنه كل ذلك عن تنفيذ ما برأسه .... صباح اليوم التالي مر على عمله ورمى إليهم بالاستقالة وودع زملاءه واتجه للميناء .. شرع يشتري بهوس .. إلى أن نفد كل ما معه .. حتى نسي أن يستقطع أجرة النقل .. فكتب على نفسه صكا يدفع في أجل قريب لمتعهد النقل .. وسارت قافلة الشاحنات حتى الوصول .. إذ ذاك تذكر أنه لم يجهز مكانا لهذه البضائع .. قافلة الشاحنات تتابع .. بدأت الصيحات تتعالى ..وجد نفسه في ورطة .. فذهب إلى محلات الجملة .. عرض بضاعته .. فرفض الجميع شراءها .. واتفقوا على أنها بضاعة (خلب).. ثم أن أسعارها أكثر بكثير من سعرها الحقيقي .. وصل به الأمر أن عرض بعض بضاعته على طفل يبيع في عربة يدوية .. فأخرج له الطفل صنفا من الملابس أجود وأرخص من بضاعته .. ثم عرض البضاعة على السائقين حتى يخلوا سبيله .. فرفضوا .. إنهم يريدون إفراغ شحنتهم ثم يعودوا بعد ثلاثة أيام للمطالبة بحقوقهم .. عندها اقترح عليهم التوجه للبحر .. لنفس المكان الذي ذهب إليه وفكر ودبر .. فقتل كيف دبر .. فأشار لهم بتفريغ البضاعة بين الصخور .. متوعدين إياه بأنهم سيردمونه بين الصخور إن لم يجدوا حقوقهم .... وقبل انصرافهم طلب منهم قليلا من الوقود .. فأعطوه ولسان حالهم يردد :( حرام فيه السم) .. عندها استخرج ولاعة من جيبه وأضرم النار في تلك البضاعة الكاسدة الفاسدة .. وشعر بلذة الانتقام .. ظل يحدق في النيران وهي تأكل البضاعة حتى أتت عليها وأحالتها رمادا تذروه الرياح التي هبت بعد انتهاء الحريق .. وطار الهباء حتى اختفى كل أثر له .. وهكذا كانت جلسته أمام الموج هي خياره الحالي .. فماذا سيفعل بعد ذلك ؟.. هل سيرمي نفسه في البحر؟ .. إنه يستحق أكثر من ذلك .. ثم عاد ليفكر من جديد فيما حدث .. وماذا فعل بنفسه ... لقد كان في أفضل حال .. بل كان ميسورا .. الرصيد الذي كان في حسابه يكفيه لشراء بيت جديد وأثاث فاخر وسيارة حديثة ومصروف باذخ .. هذه غير البضاعة المكدسة بالمحل والبيت .. إضافة لمرتبه الذي يستره .. وسيارته لم تكن مجرد وسيلة نقل ..      بل مصدر دخل .. فهي تتكفل بكافة مصاريف البيت .. والآن فقد كل شئ .. حتى زوجته المليئة دفئا وحنانا.. كم هو بحاجة إليها الآن .. سوف لن يجدها إن عاد للبيت .. ولامناص من  المواجهة مهما كان الأمر .. وهاهو ممتد في صالة البيت .. ينظر إلى قطع الأثاث المتواضع .. تمنى لو أنه جدده حتى يجده في هذه الأزمة .. ربما كان منقذا له .. أما هذا الأثاث البالي فهو لايكفي حتى متطلبات السائقين .. ثم الصك الموقع بمستحقاتهم .. قد يودي به إلى السجن وضياع الأسرة والأطفال .. هذه الأسرة من أجلها حرق نفيه بالعمل والكد .. حتى تاه في دهاليز الطمع .. لقد أراد لها العز الأبدي .. فصار يفكر في ما يسد رمقهم ..  كم هو في حاجة إلى لمسة حنان من زوجته الرائعة .. أين هي .. أين هي ؟.. وإذ بالباب يفتح .. تطل منه زوجته بإشراقتها البهية .. فلم يجرؤ أن يرفع رأسه في حضرتها وحادثها في خجل:

ـ لقد ضاع كل شئ .. وأنا السبب .. إنني أستحق ....    فقاطعته :

ـ لا .. لا .. لم يضع شئ .. أنت الأهم .. أنت نور البيت وشريان الحياة يدب في عروقنا .. بدونك لاتقوم لنا قائمة .. ارفع رأسك وافتح عينيك .. وأمسكت برأسه من فوق بيد .. وباليد الأخرى من ذقنه ..    ثم ألقت ما بجعبتها .. فلم يصدق ما رأى .. أموال لاحصر لها .. حلي متنوعة .. صكوك موقعة .. أهو حلم أم علم ؟.. إن عليه صكا واحدا يقض مضجعه .. فإذ له على الآخرين صكوك وبمبالغ باهظة .. من أين لك هذا ؟ .. سأل امرأته عن ذلك .. فأجابت :

ـ لقد تتبعت خطواتك خطوة خطوة .. علمت أنك تتصرف بلا وعي .. ومرة مرة .. شعرت أنك ستتصرف تصرفا تضيع به كل جهودك .. فكان تعاملي مع الناس بكل ود ولطف .. وحين علمت بما حصل لك .. أسرعت وجمعت ما استطعت من حقوقنا من الناس .. فمنهم من دفع نقدا .. ومنهم من وقع صكا .. ومنهم من تنازل عن حليه المرهون لدي .. إضافة للحلي المرهون في السابق .. كما أني قد بعت بضاعة أخفيتها عنك لبعض الزبونات ممن يدفعن نقدا في الحال .. فاشترين على ثقة بالبضاعة .. والآن خذ كل ما أمامك وحل كل مشاكلك .. المهم أن تبقى أنت على رؤوسنا .. مفتاح المحل لازال معي .. لم أسلمه لزوجة صاحب المحل .. فقد تركته معي ... هيا عد إلى المحل وابدأ من جديد .. ولكن تذكر دائما أننا جميعا لا يهمنا إلا أنت .. .. فانهمرت الدموع من عينيه كالسيل .. وقال لها :

ـ كنت دائما وأبدا أحس بأن أسعد لحظات حياتي هي عند دخولك البيت أول مرة .. لقد شعرت لحظتها أنك ستكونين نقطة مضيئة في حياته ..  لن تكون نقطة عابرة ... ليس فقط كونك زوجتي .. بل ومنقذتي وملهمتي .. بل عالمي الفسيح .. فأنت جوهرة الروح .

 

 

ليست هناك تعليقات: